ارشيف من : 2005-2008
فرنسا: رعونة وشؤم وثلاثاء أسود وأربعاء...

ما بين 4 ملايين ومليوني متظاهر خرجوا في شوارع المدن الفرنسية، يوم الثلاثاء الماضي، ليجددوا دعوة الحكومة الفرنسية ورئيسها دومينيك دو فيليبان إلى سحب القانون المثير للجدل المعروف باسم "عقد التشغيل الأول".
لكن دو فيليبان الذي "لم يفهم" منذ بداية الاحتجاج، على ما تردد على ألسنة الكثيرين في فرنسا وغيرها، "لم يفهم" حتى بعد "الثلاثاء الأسود"، واستمر على موقفه الرافض لسحب القانون الذي أقر في 9 آذار/ مارس الحالي من قبل الجمعية الوطنية بانتظار المصادقة عليه من المجلس الدستوري ورئيس الجمهورية.
وإذا كان دوفيليبان قد تمسك بموقفه برغم السرعة التي تتقدم فيها فرنسا من أجواء الحرب الأهلية في ظل إصرار النقابات العمالية والتجمعات الطلابية على سحب القانون، فلأنه لمس تشجيعاً على ذلك من قبل الرئيس شيراك الذي قال من قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل بأن القانون "يجب" أن يطبق.
وبذلك الموقف "المانيكاني" كما يقولون في فرنسا، أو الاستبدادي، على ما ينبغي أن يقال في بلد فيه مؤسسات منتخبة ومستقلة ومجتمع مدني، يكون الرئيس شيراك قد جنى على نفسه وجر عليها وبالاً كان بغنى عنه: بعضهم وصف تصريحه بـ"الأرعن"، لأنه يتنافي مع الحوار الجاري على قدم وساق بين الحكومة والتنظيمات العمالية والطلابية. وبعضهم الآخر وصفه بأنه نذير شؤم... لأن فشل الثلاثاء الأسود في سحب القانون قد يؤدي إلى أيام وأسابيع سوداء، وربما أكثر تطل برأسها على فرنسا وسط التهديدات بالإضراب العام.
وإذا كانت الأزمة التي تعصف بفرنسا حالياً قد ضربت آخر حظوظ دوفيليبان بالدخول إلى قصر الإليزيه والإقامة فيه، بعد تصاعد المطالبة بإقالة حكومته، وأضافت المزيد من ظلال الإرباك على صورة الرئيس شيراك، فإن نيكولا ساركوزي يبدو المستفيد الأكبر بقدر ما وفق إلى طرح صيغة الاعتدال المتماشية مع الأصوات المطالبة بحل على أساس لا غالب ولا مغلوب، أو على أساس إنقاذ ماء الوجه للجميع.
فقد اقترح ساركوزي وضع القانون بين هلالين لمدة شهر، أي تعليقه خلال فترة المفاوضات. وأغلب الظن أن هذا السيناريو هو الذي سيفوز، في النهاية، فوق أشلاء سيناريو شيراك/ دو فيليبان المشترك. وقد يسهم فيدفع ساركوزي نحو الإقامة في قصر الإليزية بعد انتخابات العام القادم. ولكن ماذا عن الأزمة المتعلقة بعقد التشغيل الأول؟ هل ستزول الأزمة فيما لو سحب القانون الخاص بالعقد؟ وهل سيقضي دوفيليبان على البطالة في فرنسا من خلال عقد التشغيل الأول وغيره من البهلوانيات؟
أغلب الظن أن "صندوق بيندار" قد انفتح فوق فرنسا لأسباب أكثر عمقاً من أشكال وشروط عقود التوظيف. هنالك تزايد في الأدمغة العاملة والأيدي العاملة وتناقص في فرص التشغيل. هنالك تراكم في الرساميل وهجرة نحو استثمارات أكثر ربحية وراء البحار. وهنالك مال متوحش واستهلاك متوحش وأزمات اجتماعية ومعيشية ووجودية حقيقية جعلت الفرنسيين يصوتون ضد دستور الاتحاد الفرنسي الذي بذلوا في سبيله طريفهم ومتلدهم منذ أكثر من خمسين عاماً. وهنالك خصوصاً سأم معمم من الطبقة السياسية وبحث عن حلول وأشكال للحياة وللحكم لا يبدو أن عصر الحداثة وما بعد الحداثة قد نجح في العثور عليها. وهنالك قلق واضطراب وهستيريا أيضاً في بلاد العقل وحرية الفكر: إذ كيف يمكن أن نفهم تصويت الأكثرية قبل عامين على فكرة تقول بأن "إسرائيل" هي التهديد الأكبر للأمن الدولي، ثم تصويتها قبل شهرين على فكرة تدافع عن الماضي الاستعماري لفرنسا؟
لهذه الأسباب وأمثالها، لا يمكن للمراقب أن ينظر إلى ملايين المتظاهرين والإضرابات المفتوحة ومعارك الشوارع التي تواصلت، حتى الهزيع الأخير من الليل في ساحة "الروبيبليك" (الجمهورية) في باريس، بين المتظاهرين ورجال الشرطة، دون أن يفكر بأحداث الـ68 والكومونة والباستيل وحرائق الضواحي والشؤم الذي يدلي برأسه فوق فرنسا، ومن ورائها ـ نظراً لدورها الطليعي في بناء الوضع العالمي الراهن، حضارياً واجتماعياً وسياسياً، إلى آخر القائمة - فوق عالم لا يبدو أن بإمكانه أن يستمر كما هو عليه.
ع.ح
الانتقاد/ مقالات ـ الانتقاد1155 ـ 31 آذار/مارس 2006