ارشيف من : 2005-2008
أوكرانيا: هل انتهى موسم البرتقال؟

انتظار الاستحقاق الانتخابي الذي جرى يوم الأحد الماضي (26 آذار/ مارس)، كان بارزاً بوجه خاص في مجريات الحياة السياسية في أوكرانيا خلال الأشهر الستة الماضية. فقد كان على ذلك الاستحقاق أن يصفي الحسابات بين ركني الثورة البرتقالية، الرئيس فيكتور يوتشنكو ورئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشنكو. تلك الحسابات على صلة بالأجواء التي كانت قد تعكرت بين يوتشنكو وتيموشنكو اللذين كانا قد تبوآ، قبل أربعة عشر شهراً فقط، ووسط أجواء الانتصار البرتقالي، منصبي رئاسة الجمهورية، للأول، ورئاسة الوزراء، للثانية.
وقد وصل الخلاف الذي دب بين الطرفين، في أيلول/ سبتمبر الماضي، إلى حد القطيعة التي انتهت بإقالة تيموشنكو التي عرفت بأنها "باسيوناريا" الثورة البرتقالية وملهمتها. والأكيد - لأن تيموشنكو لا تقل حماسة عن يوتشنكو لفكرة نقل أوكرانيا إلى الغرب - أن الإقالة لم تكن لأسباب سياسية من النوع المرتبط بطبيعة الثورة البرتقالية بما شكلت توغلاً غربياً خطيراً في منطقة النفوذ التقليدية لروسيا، بعد اختراقات البلطيق وأوروبا الوسطى والبلقان والقفقاس وآسيا الوسطى.
كل ما في الأمر أن المراقبين تناقلوا، إبان انفجار الأزمة، كلاماً عن التنافس على السلطة والفساد واستغلال النفوذ وسطوة رجال المال والأعمال وعلاقاتهم الوثيقة برجال الحكم وخصوصاً بالرئيس يوتشنكو. كما تناقلوا أيضاً كلاماً عن برامج وضعتها تيموشنكو لإعادة النظر ببرامج الخصخصة الواسعة النطاق التي بدأ تطبيقها فور انهيار النظام الشيوعي. وسواء كانت الاعتبارات المذكورة هي التي فجرت الخلاف أم لا، فإن تيموشنكو لم تكف، منذ إقالتها قبل ستة أشهر، عن إعلان عزمها على العمل من أجل استعادة منصبها رئيسةً للوزراء بالوسائل الشرعية. وكانت الانتخابات الأخيرة هي أولى المناسبات الشرعية التي تعطيها فرصة لاسترجاع ما اعتبرته حقها السليب، وخصوصاً أنها قد تحققت من قبل من شعبيتها ومن تأثيرها الأكيد على قسم كبير من الشارع الأوكراني.
ولم يخب ظن يوليا تيموشنكو بنفسها. فقد أعطتها النتائج الأولية للانتخابات تفوقاً كاسحاً على حليفها السابق وعدوها الحالي واللاحق، الرئيس فيكتور يوتشنكو، حيث بينت الاستطلاعات أنها نالت نحو 23 بالمئة من أصوات المقترعين، في حين لم ينل ائتلاف يوتشنكو أكثر من 16 بالمئة من الأصوات.
لكن ذلك ليس كل شيء، لأن تيموشنكو المنتصرة على يوتشنكو انهزمت أمام فيكتور إيانوكوفيتش، زعيم حزب المناطق المؤيد لروسيا والذي فاز بـ31 بالمئة من أصوات المقترعين، طارداً بذلك صاحب الموقع الرسمي الأول في البلاد إلى الدرجة الثالثة بالمعيار الديموقراطي.
لكن الرئيس يوتشنكو لا يزال الرئيس المنتخب حتى انتهاء ولايته. وعليه أن يعتمد من الآن فصاعداً في إدارة البلاد على العدو الاستراتيجي المؤيد لروسيا والمناوئ لالتحاق أوكرانيا بالغرب، من جهة، أو على حليفة الأمس وعدوة اليوم يوليا تيموشنكو وما قد تنطوي عليه سريرتها من نيات ثأرية. فعلى من سيعتمد يوتشنكو يا ترى؟
هذا السؤال بدا وكأن يوليا تيموشنكو قد أجابت عنه استباقياً عندما وضعت مشروع مذكرة تفاهم قدمتها لفيكتور يوتشنكو على أساس إعادة المياه إلى مجاريها تحت رايات الثورة البرتقالية، وكأن شيئاً لم يكن، بعد تسلمها بالطبع لمقاليد رئاسة الوزراء!
ومن الممكن أن يستفيض المحللون في التكهن حول ما دار في خلد يوتشنكو وهو يفاضل بين الخيارين المرين. ومن الممكن أن يكون عدم رده على عروضات يوليا تيموشينكو تكتيكياً أو مبدئياً، والكلام نفسه يقال عن تلميحه إلى إمكانية الاستعانة بإيانوكوفيتش. ولكن الأكيد أن يوتشنكو الذي بدأ بالتقرب من خصمه المبدئي قد تصرف بطريقة تنم عن حذق ينم عن إدراك أن أوكرانيا ليست قارة مستقلة في المريخ، وأن الرياح البرتقالية التي هبت عليها حتى بداية العام الماضي ربما تكون قد أخلت المجال الآن لرياح أخرى، روسية على وجه التحديد. فتلك الرياح صمدت بقوة في وجه الإعصار الغربي الذي هب بقوة على بيلوروسيا المجاورة، وها هي تعود بقوة إلى أوكرانيا نفسها التي قال بعض المراقبين بأن برتقالها لم يملأ صحون جائعيها. ثم إن أوكرانيا التي يشكل الروس جزءاً أساسياً من بنيتها الديموغرافية والاقتصادية والثقافية واللغوية والجغرافية تلاحظ جيداً أن روسيا تعود الآن بقوة إلى الساحة الدولية التي هجرتها بعد الانهيار السوفياتي، وأن الغرب الذي راهنت عليه أوكرانيا خلال السنوات التي أعقبت الحرب الباردة قد بدأ يلهث في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وحتى في أميركا الشمالية وأوروبا، بألف شكل وشكل.
أما المليونيرة الثورية، الباسيوناريا البرتقالية، يوليا تيموشنكو، فإن توجهها إلى الطرف الذي يمسك موقتاً بدفة الحكم من موقع الضعف الاستراتيجي، وإعراضها لأسباب رومانسية مقلوبة عن الطرف الأكثر قدرة على إخراج أوكرانيا من الحفرة، فإنها تتصرف، بعيداً عما يقتضيه الحس السياسي السليم، وكأن رئاسة الوزراء نهاية التاريخ.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ مقالات ـ الانتقاد1155 ـ 31 آذار/مارس 2006