ارشيف من : 2005-2008
أخطاء تكتيكية أم هزائم استراتيجية؟

معاً، وصل وزيرا الخارجية، الأميركية كوندوليسا رايس، والبريطاني جاك سترو، في زيارة مفاجئة إلى بغداد تبين أن هدفها هو الحث على الإسراع في تشكيل حكومة عراقية يرئسها رجل قوي...
وسواء كان ذلك هو الهدف الحقيقي للزيارة أم لا، فقد تحدث الوزيران عن نفاد صبرهما قبل أن يغادرا سريعاً، في وقت شهدت فيه الساحة الأمنية العراقية، وخلال الزيارة بالذات، تطوراً نادراً في نوعه: سقوط إثني عشر قتيلاً في صفوف جيش الاحتلال الأميركي بينهم اثنان في مروحية أسقطتها نيران "معادية"، وهو رقم لم يكد يزيد عن عدد المدنيين ورجال الأمن العراقيين الذين سقطوا في ذلك اليوم.
سبب كاف، إذا ما أضفنا تصاعد المقاومة في أفغانستان، لفراغ الصبر مع وصول خبر بسقوط طائرة نقل أميركية تقل بضعة عشر جندياً قرب إحدى القواعد في الولايات المتحدة. وكل ذلك يفاقمه، على المستوى الأمني، تجاوز الخسائر البشرية للجيش الأميركي عتبة الـ2300 قتيل و15000 جريح، مع ما يثيره ذلك من مضاعفات في شارع أميركي بات يعيش فعلاً في أجواء العارض المرضي الفييتنامي.
أما عدم سير الأمور في الوجهة المرجوة أميركياً وإسرائيلياً في فلسطين ولبنان، ولا في الوجهة غير المقلقة في العديد من بلدان المنطقة الأخرى، فيلتقي مع تنامي موجة العداء لواشنطن في أميركا اللاتينية وفي الشارع الأوروبي، ومع المزيد من تعمق التحالف الروسي الصيني في وجه أميركا وبروز توجهات روسية، إقليمية ودولية، تذكر بما كانت عليه الحال أيام القطبية الثنائية والحرب الباردة.
هكذا، وبعد أقل من خمس سنوات على إطلاق ما سمي بالحرب على الإرهاب، وثلاث سنوات على غزو العراق، يسفر التاريخ ـ على خلفية تدني شعبية بوش وبلير وتصاعد المطالبة بالانسحاب من العراق ـ عن وجه لم يكن بحسبان أحد من خبراء الاستراتيجيا الذين تصوروا، بحكم الفهم التعسفي لقوانين التاريخ، أن العصر قد أصبح في قبضة أميركا، وأن الشرق الأوسط سيأخذ، بالتالي، شكل الخارطة التي سترسمها أميركا بوحي أو بمشاركة من الحليف أو المتنفذ الإسرائيلي.
فبخلاف التصور المذكور، انفلق الشرق الأوسط عن وضع أعاد الحيوية إلى الأفكار الأميركية الانعزالية التي كانت رائجة قبل قرن من الزمن، في حين أن الخطط الإسرائيلية التي كانت، كمشيئة ممدوح المتنبي، تمضي، بفعل هزائم العرب، "قبل أن تلقى عليها الجوازم"، تعثرت وتجمدت أمام وحدة المسارين التي ارتدت معها المعركة إلى الداخل الإسرائيلي المنسحب، على الجبهة الفلسطينية، إلى ما خلف جداره الفاصل.
ما الذي جرى حتى أصبح الشيء الطبيعي هو أن تقابل وزيرة الخارجية الأميركية بهتافات العداء أينما حلت، في وقت لا يزال فيه البعض يمنّون النفوس هنا وهناك بركوب صهوة السلطة على أجنحة الوعد الأميركي؟ وما الذي يعطي كل هذه القوة لمقولة من نوع تلك التي تتحدث عن قوة إيران في العراق بعد ثلاث سنوات على الغزو الدولي والأميركي؟
أياً تكن الأسباب، فإن واحداً منها هو ذاك المتمثل في كون الحروب التي كانت تخوضها "إسرائيل" وأميركا ضد العرب لم تعد من النوع الذي يتم كسبه سلفاً، أي قبل أن يبدأ، بسبب اعتقادات من نوع الجيش الذي لا يقهر، والعين والمخرز، والقوة الناجمة عن الضعف.
فالانتصار الذي حققته المقاومة في الجنوب اللبناني كان تعبيراً أول عن معادلة جديدة شهدت انتقال الصف العربي ـ الإسلامي من موقع المهزوم الطبيعي المعتاد على الهزيمة كقدر محتوم إلى موقع المقاوم الذي تكمن فيه أيضاً نوازع هجومية حقيقية وجدية إلى الحد الذي لم يعد من الممكن أن يكون فيه تنفيذ البرامج الأميركية الإسرائيلية المرسومة على أسس الحروب التي يتم كسبها قبل أن تبدأ، مجرد مسألة تقنية بحتة. فالكلام الذي زعم فيه بوش قبل ثلاث سنوات أن الولايات المتحدة قد انتصرت في العراق صار موضوعاً للتندر.
والانتظار بات ممضاً جداً على الجبهة اللبنانية السورية بعد أكثر من عام من الرهانات اليومية الفاشلة. ولا يفعل النظام العالمي الأميركي ـ الإسرائيلي غير تعميق أزمته وفقدان ماء وجهه عبر ما يثيره من أراجيف حول السقوط القريب لهذا النظام أو ذاك، وقرب توجيه الضربات العسكرية إلى هذا النظام أو ذاك، على أمل أن يتصرف هذا النظام أو ذاك بدافع الخوف من تلك الضربات، وأن يلقي أسلحته قبل بدء المعركة.
فالحقيقة أن الغزو العسكري للعراق بتهم ملفقة ودون أن تكون لنظام صدام حسين أية صلة بهجمات أيلول/سبتمبر 2001 كان مناورة من نوع الكلام المقصود منه إفهام الجيران بأن عليهم أن يستسلموا دون حرب.
لكن هذا النوع من المناورات لا يفلح مع هذا الطراز الجديد من القيمين الحقيقيين على القضية، وأغلب الظن أن الأميركيين والإسرائيليين وحلفاءهم وأتباعهم سيفكرون طويلاً جداً، سواء أعلنت إيران أم لم تعلن، عن تجريب أسلحة "خطيرة"، وسواء أجرت أم لم تجر مناورات عسكرية ضخمة... قبل أن يقدموا على عمل عدواني. لأن الآية الآن قد انعكست في قضية الحروب التي يتم كسبها قبل أن تبدأ.
من هنا واختصاراً للجهد وللوقت، فإن أخطاء أميركا و"إسرائيل" ليست مجرد أخطاء تكتيكية، وإن الحكمة والتعقل يقتضيان من أميركا أن ترجع إلى ذاتها فيما وراء الأطلسي، ومن "إسرائيل" أن تبحث لنفسها عن وطن في أوروبا أو في آلاسكا، لأن التاريخ قد عاد للمسير على سكته الحقيقية.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1156 ـ 7 نيسان/أبريل 2006