ارشيف من : 2005-2008
رومانو برودي: أوروبا لاتينية!

غالب ومغلوب أم لا غالب ولا مغلوب؟
إيطاليا، البلد الذي يشكل واحداً من البلدان السبعة أو الثمانية التي تعتبر الأكثر تقدماً في العالم، منقسمة إلى كتلتين لم يكن من الممكن لعملية فرز الأصوات، في الانتخابات الأخيرة، أن تقرر أيهما الفريق الأكثر عدداً، وبالتالي أيهما الغالب وأيهما المغلوب، إلا بعد جهد جهيد وخمسة أيام من التوتر الذي حدا بالبابا بنيديكت السادس عشر إلى دعوة الايطاليين إلى التحلي بروح الاتزان والسكينة.
برلسكوني، رئيس الوزراء المنتهية ولايته، والذي شكل ائتلافاً تراوح المنتمون إليه بين أقصى اليمين الفاشي وأقصى الليبرالية ورجالات المال، راهن عبثاً وبشكل ميؤوس منه، بعد صدور النتائج الأولية، على مخالفات متوهمة شملت، من أصل 37 مليون ناخب، 80 ألفاً من الأصوات، تبين أنها لم تكن تزيد إلا قليلاً عن خمسة آلاف صوت، من أجل تغيير النتائج لصالحه. وحتى عندما حسمت النتائج بأغلبية ضئيلة لا تزيد عن 25 ألف صوت، وجد سيلفيو برلسكوني ما يكفي من الجرأة ليقول عن خصومه، من ائتلاف يسار الوسط، بأنهم لم ينتصروا؛ وعن مناصريه، من ائتلاف يمين الوسط، بأنهم "المنتصرون المعنويون"! لكن ذلك لم يكن من رأي رومانو برودي الذي أعلن فائزاً بشكل رسمي واعتبر، على الفور، بأن هنالك غالباً ممثلاً بشخصه ومغلوباً ممثلاً بشخص خصمه.
لا مجال، من حيث المبدأ، ومن حيث معايير اللعبة الديموقراطية، لإنكار الانتصار الانتخابي لبرودي والهزيمة الانتخابية لبرلسكوني، وإن كان من الممكن أن نرى في النتيجة نصف عقاب لبرلسكوني ونصف مكافأة لبرودي، الأمر الذي يعكس، وفقاً للعديد من المراقبين، ضجر الإيطاليين من قادتهم في المعسكرين كليهما. لكن الفارق الضئيل في الأصوات، وما يعتبره برلسكوني انتصاراً معنوياً لائتلافه سمحا له بأن يمارس، على برودي، نوعاً من الابتزاز الذي مرره تحت قناع الاحساس بالمسؤولية والاقتناع بالمشاركة. فقد طرح وأعاد طرح حلوله الجديدة على شكل "التفكير معاً" من أجل ائتلاف موسع على الطريقة الألمانية يفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية.
كلام جميل حقاً لو أن برلسكوني فطن إلى مثله قبل إجراء الانتخابات. لكن طلوعه به بعد أن كانت الصناديق قد قالت كلمتها الأخيرة جعلت الصحافة لا تجد أدنى
صعوبة في إطلاق صفة "الخاسر الأسوأ" على برلسكوني الذي عاد إلى الهجوم
الكلامي على برودي متهماً إياه بأنه يحمل روحية احتقارية معادية لنصف سكان إيطاليا. لكن اقتراح برلسكوني رفض بجفاء من قبل ماسيمو داليما أحد قادة ائتلاف برودي، وشرع رئيس الوزراء العتيد بالعمل فوراً على تشكيل حكومته العتيدة. صحيح أن استحقاقات عديدة، منها انتخاب رئيس جديد للجمهورية والحصول على تأييد مجلسي النواب والشيوخ بأكثريتهما الضئيلة لرئيس الوزراء الجديد، لا بد من
مواجهتها قبل أن يصبح بوسع رومانو برودي أن يستلم مقاليد الحكم بعد عدة أسابيع. لكنه وقت ثمين للاستعداد، وخصوصاً أن انتخابه للمنصب الجديد لا يزال غير مضمون مئة بالمئة.
وخبر الاستعداد جاء في ما يبدو على شكل تأكيد صيغة الغالب والمغلوب والتبشير بحكومة يتمكن البلد في ظل حكمها من أن يتنفس وينمو. فالحقيقة أن الكثير من الكلام كان يمكن أن يقال عن اختناق البلاد اقتصادياً واجتماعياً في ظل برلسكوني وما أحاط بحكمه من فضائح الفساد، لكن برودي فضل العبور سريعاً فوق المسائل الداخلية الحساسة ليتصدى للمسألة التي تعطيه أكبر الحظوظ للولوج إلى حكم إيطاليا من بابه الواسع، أي من باب أوروبا. ذلك الباب يبدو متداعياً بشكل لا نبالغ إذا قلنا بأنه خطير جداً أمام أزمات الدستور، والتوسع الملغوم بتركيا، وفوارق مستويات النمو التي تدفع، بعد ستين عاماً من البناء اليومي المتأني للاتحاد الأوروبي، نحو بروز مطالب استقلالية ضيقة داخل كل بلد على حدة من بلدان الاتحاد.
ومع هذا دخل برودي في صلب الموضوع واقترح تشكيل نواة صلبة للاتحاد من إيطاليا، أولاً، في خطوة من شأنها، إذا ما صادفها الحظ أن تضاعف أسهم برودي في استطلاعات الرأي، وأن تجعل منه أكثر من مجرد رئيس وزراء بلد أساسي من بلدان الاتحاد، لترتفع به إلى مستوى الزعامة التي لم تعرفها إيطاليا منذ غاريبالدي وموسوليني. نواة صلبة من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وليكسومبورغ، مع استبعاد كل من بريطانيا وهولندا للأسباب المعروفة!
ألا يوحي هذا الكلام بالتبشير بحل ذي صفة لاتينية كاثوليكية لمشكلة الاتحاد، من شأنه فعلاً أن يحدث فرقاً فيما لو وافقت عليه ألمانيا التي قد لا يصرفها عن الموافقة غير كونها قد أصبحت دولة شبه ملحقة بمجلس الأمن؟
خطوة جريئة جداً من قبل برودي قد تعيد إلى أوروبا موقعها في خارطة منشودة لتعددية قطبية منشودة. لكن قبل أن نوغل بعيداً في التطلع نحو المستقبل، يبقى السؤال المتواضع الأكثر جدارة بأن يطرح هو في معرفة ما إذا كان رومانو برودي قادراً، بأكثريته الضئيلة والمتعددة التوجهات، على حكم إيطاليا؟
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ دوليات ـ العدد 1158ـ 21 نيسان/ ابريل 2006