ارشيف من : 2005-2008
تظاهرة نيويورك: ضد الحرب

أكثر من ثلاثمئة ألف متظاهر، بينهم فنانون ورجال دين وأمهات جنود قتلوا في العراق، جابوا شوارع مانهاتن، في نيويورك، السبت الماضي، وطالبوا بسحب القوات الأميركية من العراق فوراً.
"أعيدوا الجيش إلى البلاد" و"بوش أسوأ من بن لادن" و"حرب غير شرعية وغير أخلاقية" و"الإرهاب هو حكومتنا"، هي نماذج من الشعارات التي رفعتها التظاهرة. الشعار الأخير من بينها جاء تعبيراً صادقاً عن الوجه الآخر، الصديق والطيب لأميركا الشاهدة على نفسها من قبل خير أهلها.
والشهادة الصادقة هذه جاءت بالتزامن مع نشر وزارة الخارجية الأميركية تقريرها السنوي حول ما تسميه بـ"الإرهاب العالمي". التقرير يغطي 275 صفحة عرضها بشكل موجز السفير هنري كرومبتون، المنسق الخاص في المكتب الوطني لمكافحة الإرهاب التابع للوكالة المركزية للمخابرات الأميركية.
من الأمور التي برزت في التقرير الذي تغيرت فيه، عما كان عليه الحال في العام الماضي، منهجية إحصاء ما يسمى بالعمليات الإرهابية (؟!) أن هذه العمليات تضاعفت أكثر من ثلاث مرات لتبلغ 11600 عملية أوقعت ما يزيد على 14 ألف قتيل. هذه الواقعة التي تشكل شهادة دامغة على مدى ما تقابل به السياسات الأميركية من رفض جذري واسع النطاق، يسوقها كتاب التقرير بطريقة ديماغوجية تخدم أغراض المحافظين الجدد في إطالة أمد حروبهم، وتبرر عدم تحقيق النتائج التي وعدوا بها لتمرير قرار الحرب. "سنحتاج إلى وقت طويل للانتصار"، يقول التقرير قبل أن يضيف بأن "التقدم لا يظهر من شهر لشهر ومن سنة لسنة" (!!)، أو بأن ما جرى حتى الآن ليس غير "المرحلة الأولى من حرب يمكن أن تكون طويلة". وهذه اللهجة ليست جديدة، فالرئيس بوش وغيره من أركان الإدارة الأميركية لا يفوتون فرصة دون الإعلان بالفم الملآن عن عزمهم على البقاء في العراق لسنوات طويلة. لكن الجديد هو كل هذه الصفاقة في الإصرار على الكذب حيث يؤكد التقرير، برغم كل هذا التوسع في الأنشطة الإرهابية، وبرغم الحاجة إلى كل هذه السنوات الطويلة من الحرب، وبرغم دعوة "المجتمعات المتحضرة إلى الاتحاد في هذه المعركة"... بأن العالم قد أصبح "أكثر أمناً". كما ولو أن العالم لم يكن قبل 11 أيلول/سبتمبر غير غابة تسرح فيها "البربرية" قبل أن تأتي حروب أميركا لتخلق في تلك الغابة فضاءات للحضارة!
وبالطبع يشدد التقرير على التقدم الأميركي في مكافحة الإرهاب عبر الكلام عن تفكيك القاعدة، في وقت يقدم فيه التقرير نفسه إجابات ركيكة وأعذاراً أقبح من الأخطاء التكتيكية التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس مؤخراً بخصوص التساؤلات التي تثار حول العجز الأميركي عن إلقاء القبض على بن لادن، أو الحيلولة دون عودة طالبان إلى الظهور القوي على المسرح الأفغاني، أو عن تعمق المأزق العسكري الأميركي في العراق، حيث سجل في نيسان/ أبريل المنصرم مقتل تسعين جندياً أميركياً، وهو رقم قياسي في عدد القتلى في صفوف الجنود الأميركيين في العراق.
من تلك الإجابات أن التشكيلات الإرهابية الكبيرة قد تحولت، تحت ضربات الجيش الأميركي، إلى خلايا صغيرة وأفراد منعزلين. لكن هؤلاء يشكلون تحدياً تصعب مواجهته لأنهم يستفيدون من التقنيات الحديثة ومن أدوات العولمة، وخصوصاً لأنهم يعملون انطلاقاً من مبادرات يستوحونها بأنفسهم دون أن تكون لهم قيادات مباشرة. على ذلك يصبح العدو الذي تتصدى له إدارة الرئيس بوش نوعاً من بعبع غرائبي لا يرى بالعين المجردة، ويكاد يكون غير موجود بالمطلق، لكن مكافحته تتطلب حروباً طويلة الأمد، وموازنات بمئات المليارات، وقنابل نووية تكتيكية لاختراق أقوى التحصينات!
لكن هذا التشخيص للعدو لا يحول دون أن يقدم التقرير تكذيباً لنفسه عبر الحديث عن عدو آخر، مرئي هذه المرة، هو إيران التي يصنفها في مقدمة البلدان الداعمة للإرهاب الذي يقدمه، بزعمه، على أنه متمثل بالتنظيمات الفلسطينية المسلحة وحزب الله والمتمردين العراقيين. ويلتقي التحريض على إيران الداعمة للإرهاب مع التحريض على إيران الساعية لامتلاك السلاح النووي، والتحريضان كلاهما لا ينطليان على أميركا الصديقة والطيبة التي قالت في تظاهرة السبت الماضي بأن بوش كذب على الأميركيين لتمرير الحرب على العراق، وهو اليوم يكذب عليهم مجدداً من أجل تمرير عمل عدواني محتمل ضد إيران. وبين التحريض على الشعوب المكافحة من أجل استقلالها وحياة أبنائها، وبين ديماغوجيا الحرب الأميركية الطويلة الأمد، تنكشف الطبيعة الحقيقية للسياسة التي تعتمدها الإدارة الأميركية، والقائمة على مبادئ منها، بالإضافة إلى ما تلحقه من ويلات بالشعوب الأخرى، "تجمير" الشعب الأميركي (أي تأبيد تسخيره في حروب تلهيه عن مشكلاته الحقيقية) من خلال ما يدفعه من ضرائب بشرية ومعنوية ومادية، في حروب لا يستفيد منها غير تجار الأسلحة والنفط وأضرابهم من المضاربين والمرابين. لكن التظاهرة التي حشدت ثلاثمئة ألف شخص في نيويورك وحدها، السبت الماضي، وغيرها من أعمال الاحتجاج الأخرى في نيويورك وغير نيويورك تشهد بأن الشعب الأميركي بدأ يعي الطبيعة "التجميرية" للحروب التي تشنها إدارته، بلحمه ودمه وأمواله، على الشعوب الأخرى. وهذا الوعي هو بالتأكيد تعبير عن وحدة جميع الشعوب ضد المستكبرين هنا وهناك، وإيذان بقرب اندحار المستكبرين.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1160 ـ 5 أيار/مايو 2006