ارشيف من : 2005-2008

من بريمر الى خليل زاد:الضغوط الأميركية لتوجيه مسارات العملية السياسية في العراق

من بريمر الى خليل زاد:الضغوط الأميركية لتوجيه مسارات العملية السياسية في العراق

بغداد ـ عادل الجبوري‏

نقلت بعض الصحف العراقية في تقاريرها الخبرية عن مباحثات الكتل السياسية بشأن تشكيل الحكومة الجديدة "ان السفير الاميركي في العراق زلماي خليل زاد طلب من الكتل البرلمانية التي تتفاوض لتشكيل الحكومة، اختيار وزيري الداخلية والدفاع من خارج البرلمان". وهذا ما اكده عضو مجلس النواب عن جبهة التوافق العراقية اياد السامرائي حينما قال صراحة "ان الجانب الاميركي طلب من المتفاوضين ان تتولى حقيبتي الداخلية والدفاع شخصيتان مستقلتان لم تترشحا عن احد مقاعد البرلمان الحالي".‏

ربما لا تنطوي هذه المعلومة على ما هو جديد أو لافت للانتباه، ولكنها فقط تشير بوضوح اكبر الى حجم التدخل والتأثير الاميركي في تحديد مسارات العملية السياسية، وخصوصا ما يتعلق بالملفات الحساسة والخطيرة كالملف الامني، وفي اطار اوسع برسم وصياغة خارطة هيكلية الحكومة.‏

اكثر من سياسي عراقي نقل عن مسؤولين اميركيين قولهم "ان وزارتي الداخلية والدفاع هما من حصتنا ما دام جنودنا في العراق". واذا عرفنا ان السفير خليل زاد كان في وقت سابق قد "حث الجنود الاميركيين على الاستعداد للبقاء لفترة طويلة قادمة في العراق قد تستمر لسنوات يشهد فيها العراق والمنطقة المحيطة تحولات من الواقع الحالي"، يتضح لنا ان من غير المعقول ولا الممكن ولا المتوقع ان ينحسر التأثير الاميركي خلال المستقبل المنظور، في توجيه مسارات العملية السياسية والامنية وكذلك الاقتصادية (باعتبارها تتعلق بالنفط) في العراق، وهذا واقع حال لا يمكن لأي سياسي عراقي او غير عراقي التغافل عنه او الادعاء بعكسه.‏

وملامح ذلك التأثير وحدوده وآفاقه لم تتبدل من حيث الجوهر طيلة الاعوام الثلاثة الماضية، ولعل ما تبدل منها فقط هو المظهر والشكل فقط، فالسفير خليل زاد لم يكن ـ ولن يكون ـ اكثر بعدا عن كل مظاهر العملية السياسية في العراق من زميله السفير بول بريمر، برغم ان الاخير كان يحمل صفة الحاكم المدني الاميركي في العراق وليس سفير بلاده فيها.‏

وعلى ايقاع تسارع وتيرة دينامية التحركات والتجاذبات السياسية الحادة منذ انتخابات الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير الماضي بدت الولايات المتحدة معنية بصورة مباشرة بمجريات الامور، ولم تحرص كثيرا على تجنيب نفسها حملات سياسية واعلامية من اطراف معادية لها، او ان علاقتها معها ليست على ما يرام، وكذلك فإنها لم تحرص كثيرا على تجنب احراج الساسة العراقيين، فواشنطن التي اعلنت صراحة انها لا ترغب بأن يتولى الدكتور ابراهيم الجعفري منصب رئاسة الوزراء لولاية ثانية، وجدت في النهاية انها لا بد من ان تزيد من الضغط بهذا الاتجاه لاحداث ما تريده هي لا ما يريده بعض الاطراف العراقية، ولم يكن من الممكن تفسير دوافع زيارة وزيرة الخارجية الاميركية كوندليزا رايس الاولى ـ وليس الثانية مع رامسفيلد ـ ومعها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو الا في هذا الاطار، وبالفعل فإنه بعد الزيارة مباشرة اخذت مسارات الامور تتخذ اتجاها اخر نحو الحلحلة، علما ان عددا غير قليل من السياسيين والمراقبين يؤكدون ان الطرف الرئيسي الذي كان له الدور الحاسم في اخراج الازمة من عنق الزجاجة هو المرجعية الدينية في النجف الاشرف وليس غيرها. والى جانب ذلك فإن زيارات وفود سياسية اميركية لبغداد خلال الاسابيع القلائل الماضية، كان ابرزها وفد مجلس الشيوخ، لم تخرج عن سياق عملية الضغط المبرمج في كل الاتجاهات.‏

وجاءت زيارة كل من الوزيرة رايس وزميلها وزير الحرب دونالد رامسفليد وفي وقت واحد، وفي توقيت محدد محسوب ليشير الى طبيعة المنعطفات الخطيرة التي تتطلب حضورا اميركيا يتجاوز مستوى السفير زاد، لاحداث التأثير المطلوب، حيث ان تلك الزيارة جاءت مباشرة بعد الاعلان عن تكليف نوري كامل المالكي بتشكيل الحكومة بدلا عن الجعفري الذي لم يفلح في الاحتفاظ بالمنصب، وانطلاق "ماراثون" مفاوضات تقاسم الحقائب الوزارية، واحتدام البحث والنقاش حول الهوية السياسية والطائفية لمن يشغل منصب كل من وزير الداخلية ووزير الدفاع، وكانت الرسالة الاميركية واضحة حتى قبل ان يتم التصريح بمضامينها، لان مجرد مجيء رايس ورامسفيلد يكفي لفهم طبيعة المراد.‏

ولا شك ان المنهج الاميركي في التعاطي مع الملف العراقي ألحق ضررا غير قليل بمجمل الوضع في هذا البلد، وهذا ما يتفق عليه الذين يتعاملون بإيجابية مع واشنطن، والذين يتعاملون معها بسلبية أيضا.‏

فعلى سبيل المثال سربت مصادر سياسية ووسائل اعلام غربية ـ اميركية بالتحديد ـ قبل حوالى شهرين، معلومات عن مفاوضات بين القوات الاميركية في العراق وجماعات مسلحة تنشط تحت عنوان "المقاومة"، ومع انه قيل ان المفاوضات وصلت الى طريق مسدود، ولم تحقق اية نتائج ايجابية، الا انه بعد وقت قصير صدرت تقارير تتحدث عن انخفاض معدل العمليات العسكرية المسلحة التي استهدفت القوات الاميركية في مقابل تزايد معدل العمليات التي طالت العراقيين، وهذا الامر قد يكون بحد ذاته مدعاة للتساؤل عن اسباب ذلك التحول؟‏

وفي ما بعد صدر التقرير السنوي لوزارة الخارجية الاميركية، الذي اشار الى ان عدد الهجمات الارهابية التي استهدفت المدنيين العراقيين قد تصاعد الى الضعفين في عام 2005 قياسا الى عام 2004. واذا كان ذلك يعني شيئا فإنه بلا شك يعني ان ما تحققه الولايات المتحدة لحسابها في العراق يتعارض في معظمه ـ ان لم يكن بالكامل ـ مع مصالح العراقيين وتوجهاتهم وطموحاتهم.‏

حتى بالنسبة لتنظيم القاعدة في العراق وزعيمه ابو مصعب الزرقاوي فإن الكثيرين في الولايات المتحدة نفسها والعالم الغربي يرون ان الادارة الاميركية ربما تكون قد عمدت الى تضخيم صورة الزرقاوي، وقبله اسامة بن لادن بعد هجمات الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر 2001 لتوفير الذرائع والمبررات الكافية لسياساتها، ويتساءل الكثير من الناس العاديين ـ وحتى افراد من النخب السياسية والفكرية والثقافية ـ هل يعقل ان تعجز القوة العظمى في العالم القادرة على الاطاحة بأنظمة واستبدالها بأخرى، والتي تدعي انها زعيمة العالم الحر، عن الوصول الى اشخاص تصل اليهم وسائل اعلام مرئية ومقروءة مثل الجزيرة والعربية والـ(سي.ان.ان) وتسجل لهم خطباً وبيانات، وتبث رسائلهم بالصوت والصورة.. فضلا عن حساباتهم المصرفية الضخمة في بنوك لندن وباريس ونيويورك وزيورخ وجنيف وغيرها، التي يمولون بواسطتها حربهم ضد العالم الغربي وزعيمته الولايات المتحدة...انه حقاً لغز محير ليس للعراقيين، بل لآخرين غيرهم من الذين بلغتهم ثمار الحرية والديمقراطية بالمقاسات الأميركية!.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد1160 ـ 5 أيار/مايو 2006‏

2006-10-28