ارشيف من : 2005-2008

الرفض الشعبي الفرنسي للدستور الأوروبي: انتقام من شيراك وتهديد فعلي لمستقبل الاتحاد

الرفض الشعبي الفرنسي للدستور الأوروبي: انتقام من شيراك وتهديد فعلي لمستقبل الاتحاد

"يوم حزين لفرنسا ويوم أشد حزناً لأوروبا".‏

هذه العبارة التي وردت على لسان أحد المعلقين وتساوقت مع عبارات الزلزال والصدمة والصفعة والخيبة والغضب والأسف، تلخص الأجواء التي عمت الأوساط الفرنسية والأوروبية المؤيدة أو الداعمة لمشروع الاتحاد في أعقاب النصر الذي حققته الـ"لا" في الاستفتاء الشعبي على الاتفاقية الدستورية الأوروبية، الذي جرى في فرنسا يوم الأحد في التاسع والعشرين من أيار/مايو المنصرم. فالحقيقة أن رفض الاتفاقية الدستورية من قبل 56 في المئة من الفرنسيين يشكل انتكاسة لا سابق لها في المسيرة الواثقة، مع بطئها وصعوبتها، والتي مرت بها عملية البناء الأوروبي خلال الأعوام الخمسين الماضية. ولعل أهم دواعي الخطورة في ذلك أن الضربة قد جاءت بالذات من فرنسا التي أطلقت فكرة الاتحاد، ولعبت الدور الأول في إخراجه معافى من جميع الأزمات التي عصفت به في مراحل ولادته العسيرة.‏

شلل مرتقب‏

وإذا كان البعض يعتبرون أن المخاوف التي أثارتها النتيجة السلبية في الاستفتاء الفرنسي مبالغ فيها، وأنها لا تشكل نهاية الشوط بمقدار ما تظل فرص التصويب والتصحيح متوافرة عبر إعادة تعديل الاتفاقية، فإن ذلك لا يلغي تلك المخاوف، وخصوصاً أن سنوات طويلة قد صُرفت في صياغة النص الذي لم يخرج بصيغته النهائية والمدروسة بعناية فائقة إلا بعد عرضه على أكثر من قمة لم تفلح في إزالة الملابسات والترددات، الأمر الذي تركت معه مهمة المصادقة النهائية على مشروع الدستور لكل بلد على حدة، مع اختلافات هامة حول آلية المصادقة، في ظل الصعوبات التي تعترض جهود الحكومات في تسويق الدستور لدى الشعوب. ففي حين تمكنت بعض البلدان من اعتماد مبدأ المصادقة السهلة من خلال البرلمانات، فإن بلداناً أخرى، منها فرنسا، وجدت نفسها مجبرة على اعتماد مبدأ المصادقة الصعبة من خلال الاستفتاء الشعبي العام، في حين ظلت بلدان أخرى مترددة بين المبدأين. وإذا كانت المصادقة قد تمت حتى الآن بهذا الشكل أو ذاك في تسعة من بلدان الاتحاد الخمسة والعشرين، فإن تعثرها في فرنسا وحدها يكفي لإحداث حالة من الشلل في مواصلة عملية البناء الأوروبي، وهو الشلل الذي سيزداد حدة مع التصويت السلبي المرتقب، بعد هولندا، في بلدان مثل الدانمارك وبريطانيا وتشيكيا وبولندا، ناهيكم عن أن بلداً كالنروج الذي صوت ضد الانضمام إلى الاتحاد عام 1972 ثم عام 1994، قبل أن يعطي لنفسه مهلة أخرى حددها بنهاية القرن الماضي، قد وجد نفسه، بعد انسلاخ خمسة أعوام من القرن الحالي، في بحبوحة سمحت لرئيس وزرائه كييل بوندفيك بالتصريح بأن الـ"لا" الفرنسية قد تؤخر النقاش في بلده حول الانضمام إلى الاتحاد، مع دق إسفين إضافي حول طبيعة الاتحاد التي وصفها بأنها قد أصبحت أقل وضوحاً. وما "فترة التفكير" حول مستقبل الدستور والاتحاد التي طالب بها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، وامتناع طوني بلير عن التعليق على نتيجة الاستفتاء الفرنسي بانتظار خروج نتيجة الاستفتاء الهولندي، غير مؤشرات أخرى على احتمالات قد يكون من بينها دخول الاتحاد الأوروبي برمته في مرحلة من الارتباك المفتوح على ما هو أسوأ.‏

تعددية الأسباب‏

ولكن ما الذي حصل، بعد كل المسيرة الظافرة، وبعد عام واحد على الانتصار الذي حققه الاتحاد عندما توسع شرقاً ليضم عشر دول من المعسكر السوفياتي السابق في سابقة جعلت الكثيرين يطلقون الأحاديث عن أول توحيد سلمي لأوروبا بعد فشل محاولات التوحيد العسكري من قبل أمثال بونابرت وهتلر؟ وعن ولادة عملاق عالمي جديد بشعب من 450 مليون نسمة يمتلكون الكثير من المقومات للارتقاء الاقتصادي والعلمي والتقني والسياسي والثقافي؟ ما الذي حصل حتى مالت عقارب الساعة الفرنسية إلى الوراء بشكل جعل بعض المسؤولين في أوروبا الشرقية يستعيدون الحديث عن الـ"لا" كتعبير عن انبثاق فرنسا القديمة؟ مراقبون كثيرون اعتبروا نتيجة الاستفتاء، بما هي خيار شعبي، ظاهرة غير مقتصرة على فرنسا وحدها. فمظاهر الاستياء والبرم بالاتحاد ملحوظة في الشارع الأوروبي، وتطال العديد من المواقع الرسمية. جذورها العميقة تضرب في المخاوف من ذوبان الدولة القومية في جسم أوروبي معولم ومفتقر إلى الهوية الثقافية التي كانت ولا تزال تشكل واحداً من المعالم الأكثر بروزاً في تاريخ نهضة كل واحد من البلدان الأوروبية الأساسية. وإذا كان من السهل على الأوروبيين أن يعبروا بالفم الملآن عن موقفهم السلبي من انضمام الجار التركي، العدو الخطر في الأمس القريب بثقافته ودينه غير الأوروبيين، فإن كثيرين منهم لا يعفّون، إلا لاعتبارات اللياقة البروتوكولية، عن التعبير الصريح عن مشاعرهم اللاتينية والانجلوسكسونية والجرمانية، هذا عندما لا يوغلون بعيداً في نبش التمايزات داخل كل بلد، كما على سبيل المثال لا الحصر، في حالة البريتون أو الكورسيكيين في فرنسا، أو الباسك والكاتالونيين في إسبانيا، أو الفلامانك والفالون في بلجيكا، أو الانجليز والاسكوتلنديين في بريطانيا، دون التقليل من شأن العصبيات الدينية التي لا تزال بعض بؤرها متأججة في ايرلندا، وقابلة للتأجج في بلدان أخرى.‏

وفي هذا السياق، برزت مؤخراً مشكلة ذات مغزى أثارها في البرلمان الأوروبي وصول ممثلين إليه عن جماعات "الروم" الذين ينتشرون في أنحاء أوروبا، وحتى في أميركا، مع شيء من التمركز في بلدان أوروبا الوسطى، ويتراوح عددهم (لاحظ دقة الإحصاءات) بين ثلاثة ملايين وثمانية ملايين نسمة. هذا إلى مشاكل أخرى يطرحها بحدة وجود جاليات كبرى من العرب والأفارقة والأتراك من ذوي التدامج المتفاوت والتي تصل حدتها، كما في قضية الحجاب وغيرها، إلى مستوى يطغى فيه خبر مقتل عدد من المغاربة لأسباب عنصرية في جنوب فرنسا على أخبار الأزمة التي أحدثها الاستفتاء الفرنسي.‏

إلى جانب المخاوف الناشئة عن التوتر بين المحلي والقومي والدولة الاتحادية الجامعة، هنالك مخاوف من طبيعة هذه الدولة التي يصفها الكثيرون، من اليمين واليسار مروراً بالحركات المناهضة للعولمة، بأنها بعيدة عن الشعوب وتكنوقراطية وليبرالية أكثر من اللزوم، في وقت تعاني منه المجتمعات الأوروبية من مشكلات اقتصادية واجتماعية، متزايدة الخطورة مع الإصلاحات القاسية وإجراءات التدامج الاقتصادي بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، والتي تثير الاستياء عند شعوب الفريقين. وقد جاءت نتيجة الاستفتاء الفرنسي لتنذر بالمزيد من تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا التي تشهد حركة احتجاج متصاعدة منذ بداية العام الحالي.‏

فرنسا... إلى أين؟‏

ويعتبر بعض المراقبين أن هذه المشكلات هي السبب الرئيسي لتنامي فكرة رفض الدستور الأوروبي في الأوساط الشعبية الفرنسية بشكل يسمح بالقول بأن الفرنسيين لم يصوتوا ضد الاتحاد بقدر ما صوتوا ضد حكومتهم، وبأن أوروبا قد تحولت إلى كبش محرقة بسبب فشل الطبقات السياسية الحاكمة. من هنا، ارتفعت، في ردود الفعل الأولى في فرنسا على نتيجة الاستفتاء، أصوات بلغت حد المطالبة باستقالة الرئيس جاك شيراك، وبحل البرلمان الفرنسي، وهي الهجمة التي يحاول شيراك امتصاصها عبر الاحتماء بتغيير حكومي تتم فيه التضحية برئيس الوزراء جان بيار رافارين. وإذا ما اقتصرت التطورات على هذا الحد وحده، فإن اختيار وزير الداخلية دومينيك دو فيليبان لرئاسة الحكومة الجديدة، لن يمر دون إحداث اهتزاز خطير داخل حزب التجمع من أجل الحركة الشعبية، مع ما يعنيه ذلك من زيادة قدرة دو فيليبان التنافسية أمام نيكولا ساركوزي، الأمين العام للحزب، وأبرز منافسي شيراك على منصب الرئاسة في العام 2007. ومن المؤشرات الهامة على الاهتزاز أن ساركوزي قد حصل، كتعويض عن رئاسة الحكومة، على حقيبتين وزاريتين وعلى منصب نائب رئيس الوزراء، وذلك بعد أن بدا مستعداً للعب دور بروتوس إزاء جاك شيراك عندما انضم إلى جوقة مهاجميه في تصريحات تحدث فيها عن نتيجة الاستفتاء بوصفها منعطفاً كبيراً يتطلب إعادة نظر سريعة وقوية وعميقة في سياسات فرنسا الاقتصادية والاجتماعية. كما رفع ساركوزي من وتيرة الضغط باتجاه الرئاسة عندما تحدث عن ضرورة الاستفادة من الوقت المتبقي (حتى الاستحقاق الرئاسي) لتأسيس أمل جديد. وسواء كان ساركوزي مسؤولاً أيضاً عن تبخر الأمل القديم أم لا، فإن التضعضع الذي أحدثته نتيجة الاستفتاء على مستوى الحكم في فرنسا لم يمنح المعارضة الفرنسية فرصة لتقوية مواقعها في معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، لأن الانقسام بات على أشدّه بين مؤيدي الدستور، وفي طليعتهم الأمين العام للحزب الاشتراكي فرانسوا هولند، ومعارضيه بقيادة منافسه لوران فابيوس. فالحقيقة أن نتيجة الاستفتاء قد عكست فشل الطبقة السياسية برمتها، وهمشت التمايزات التقليدية بين الموالاة والمعارضة، لتنقل المعركة إلى ميادين جديدة لا تشفّ، في الإطار المنظور، عن إمكانية ظهور قوى حقيقية من شأنها أن تقود عملية تغيير فعلي.‏

2006-10-28