ارشيف من : 2005-2008
التمييز بين الإرهاب والكفاح المسلّح ضد الاحتلال: نظرة تحليلية

الانتقاد/ مقالات- 1128- 23 أيلول/ سبتمبر 2005
أحمد دروبي
إن الأعمال الإرهابية تؤدي الى انتهاك حقوق الانسان والحريات العامة والخاصة التي تعتبر حقاً طبيعياً للإنسان والمنصوص عنها في الكثير من المواثيق والاتفاقيات الدولية، لذلك فإن من الضروري اتخاذ اجراءات لمكافحة الإرهاب والحد منه، لكن يجب ألاّ تؤدي هذه الاجراءات الى المساس بحقوق الإنسان والحريات العامة بذريعة مكافحة الإرهاب.
والعالم يشهد اليوم النتائج المأساوية المترتبة عن الحرب المعلنة على ما يُسمى "بالارهاب"، والتي أدت الى انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الانساني.
في المقابل نجد أن ما قامت وما تقوم به بعض حركات التحرير الوطني في شتى بقاع الأرض من أعمال ونشاطات مدنية وعسكرية بطولية في سبيل دحر الاحتلال الأجنبي عن بلدانها، هو في الواقع يصب في خانة تلك الاجراءات المشروعة المتخذة لمكافحة الارهاب والحد منه، كونه يندرج في اطار ما يُسمى بحقّي الدفاع المشروع عن النفس وتقرير المصير، اللذين أكدت عليهما مختلف المواثيق والاتفاقيات الدولية.
ولتوضيح ما سبق سنعرض تباعاً لبعض الاجراءات المتخذة من قبل الولايات المتحدة تحت ذريعة ما يُسمى بمكافحة الإرهاب. مع بيان مدى مخالفتها للحريات العامة والخاصة وللقانون الدولي الإنساني، ومن ثم سنبحث في موضوع مشروعية المقاومة في لبنان من خلال إثبات مدى أحقيتها في مقاومة الاحتلال وفق الأدلة الشرعية والقانونية.
أولاً ـ بالنسبة للإجراءات الاميركية المخالفة لحقوق الانسان وحرياته الخاصة والعامة:
1 - على الصعيد الداخلي:
على خلفية الأحداث التي تعرضت لها في 11 ايلول من العام 2001، قامت الولايات المتحدة باتخاذ العديد من الاجراءات المخالفة لأبسط المعايير والقيم الانسانية والقانونية وذلك على الصعيدين الداخلي والدولي.
ومن أبرز تلك الاجراءات على الصعيد الداخلي:
أ - اجازة الكونغرس للسلطات الحكومية اعتقال الأشخاص المشتبه بضلوعهم في أعمال ارهابية لفترة غير محددة:
حيث نجد أن هذا الاجراء يتعارض مع المبدأ القانوني العام الوارد في المادة 11 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والذي يعتبر أن المتهم بريء حتى تثبت ادانته، وبالتالي فإنه يجب معاملته على هذا الأساس.
كما أنه يتعارض مع المادة 9 من الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والتي تنص على ضرورة أن "يُقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية سريعاً الى أحد القضاة، وعلى أن يكون من حقه أن يُحاكم خلال مهلة معقولة ويفرج عنه".
ومع المادة 7 من الاتفاقية الاميركية لحقوق الانسان في فقرتيها 3 و5، اللتين تنصّان على أنه "لا يجوز حبس أحد أو القاء القبض عليه تعسفاً"، ويجب ان "يُحال الموقوف دون إبطاء أمام القاضي وأن يُحاكم خلال مدة معقولة أو يفرج عنه". واستطراداً نجد أن هذا الإجراء يتعارض مع أحكام المادة 4 من الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية في فقرتيها 1 و3، لأنه جاء مخالفاً للكثير من الالتزامات المترتبة على الولايات المتحدة بمقتضى القانون الدولي، ولأن الولايات المتحدة لم تقم بإبلاغ الدول الأطراف في هذا العهد بالأحكام التي لم تتقيد بها عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة حسبما تنص هذه المادة.
ب ـ الاجراءات التعسفية المتخذة بحق العرب والمسلمين في الولايات المتحدة: ومن تلك الاجراءات: شن حملات دعائية شعواء ضد العرب والمسلمين، ووضع العديد منهم في مركز المشتبه به، تعرض الكثير منهم لسلسلةٍ من المضايقات خاصة في المطارات من قبل السلطات الحكومية.
وهذه الاجراءات تشكّل نوعاً من أنواع التمييز، بل تعتبر أشد أنواعها، كونها قد اتخذت ضد أشخاص فقط لأنهم ذوو أصول عربية أو ينتسبون الى الدين الاسلامي، الأمر الذي يتعارض مع ما نصت عليه الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري، والتي عرّفت التمييز العنصري بأنه "أي تمييز أو استثناء أو تقييد يقوم على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الإثني أو الدين، ويستهدف أو يستتبع تعطيل وعرقلة الاعتراف بحقوق الانسان والحريات الأساسية، أو التمتع بها وممارستها". وخاصة أن الولايات المتحدة الاميركية موقّعة على هذه الاتفاقية، وبالتالي فهي ملزمة بتطبيقها وعدم مخالفتها، فقد نصّت المادة 2 من تلك الاتفاقية على أن "تتعهد كل دولة طرف بعدم اتيان أي عمل أو ممارسة من أعمال أو ممارسات التمييز العنصري ضد الأشخاص أو جماعات الأشخاص أو المؤسسات".
كما أن تلك الاجراءات التعسفية تتعارض مع اعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادر عام 1963، الذي اعتبر في مادته الأولى: "أن التمييز بين البشر بسبب العرق أو الأصل القومي أو الإثني أو الدين يشكّل إهانة للكرامة الانسانية وإنكاراً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وانتهاكاً لحقوق الانسان والحريات الأساسية المعلنة في الإعلان العالمي لحقوق الانسان"، في مادته 2 حظر الاعلان على أي دولة "أن تقوم عن طريق التدابير الضبطية أو غيرها بتشجيع أو تجهيز أي تمييز على أساس العرق أو الأصل الإثني والقومي".
2 - الاجراءات المتخذة على الصعيد الدولي:
حيث تجلى انتهاك الولايات المتحدة للقانون الدولي الانساني بشكلٍ فاضحٍ وذلك عبر:
أ ـ انتهاك اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب:
أثناء الحرب على افغانستان اعتقلت القوات الاميركية المئات من المقاتلين الأفغان والعرب وقامت بنقلهم الى احدى القواعد الاميركية في كوبا المعروفة باسم "غوانتانامو"، هذا الأمر أدى الى نشوء جدل كبير حول الوضع القانوني لهؤلاء السجناء، حيث ان الولايات المتحدة رفضت على لسان وزير حربها دونالد رامسفيلد اعتبار هؤلاء المقاتلين أسرى حرب، وبالتالي رفضت تطبيق اتفاقية جنيف المتعلقة بأسرى الحرب عليهم.
وبالنظر الى مضمون تلك الاتفاقية، نجد أن المادة 2 من تلك الاتفاقية قد نصّت على أنه "تنطبق هذه الاتفاقية في حالة الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف المتعاقدة"، وحيث ان الولايات المتحدة وأفغانستان كانتا من بين تلك الدول الموقعة على هذه الاتفاقية في المؤتمر الديبلوماسي المعقود في جنيف عام 1949، وحيث ان الولايات المتحدة كانت في حالة حرب في افغانستان، فإن الاتفاقية المذكورة تنطبق على تلك الحالة في الحرب المعلنة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المادة 4 من تلك الاتفاقية والمادتين 43 و44 من البروتوكول الأول الاضافي لاتفاقيات جنيف قد عرّفت اسرى الحرب بأولئك المقاتلين من أفراد القوات المسلحة باستثناء أفراد الخدمات الطبية، المنظمين تحت قيادة مسؤولة عن سلوك مرؤوسيها، والخاضعين لنظام داخلي يكفل احترام قواعد القانون الدولي المطبقة في النزاع المسلح، الذين يميزون أنفسهم عن السكان المدنيين بحملهم للسلاح بشكل ظاهر، والتابعين لأي طرف من أطراف النزاع، والذين يقعون في أيدي الخصم، وقد ذهبت كل من المادة 5 من الاتفاقية الثالثة والمادة 45 من البروتوكول الاضافي الأول أبعد من ذلك، بالنص على أنه يفترض بأي شخص يشارك في الأعمال العدائية ويقع في قبضة الخصم أنه أسير حرب، ومن ثم يجب معاملته كأسير حرب حتى في حالة وجود شك بشأن وضعه القانوني.
وبالاستناد الى ما تقدم نجد أن هذا التعريف لأسرى الحرب ينطبق على المقاتلين الذين اعتقلتهم القوات الاميركية في قاعدة غوانتانامو، كونهم كانوا يشكلون قوات مسلحة منظمة تحت إمرة قيادة مركزية، وكانوا يتميزون عن السكان المدنيين بحملهم للسلاح بشكل ظاهر، وبالتالي فإنه بامتناع الولايات المتحدة عن تطبيق اتفاقية جنيف لأسرى الحرب على المقاتلين المحتجزين لديها تكون قد انتهكت القانون الدولي الانساني والحقوق الأساسية لهؤلاء الأسرى.
ب ـ انتهاك اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب:
حيث نصت المواد 48 و50 و52 من البروتوكول الاضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف على ان الشخص المدني هو أي شخص لا ينتمي الى القوات المسلحة، وان الأعيان المدنية هي تلك الأعيان التي لا تمثل أهدافاً عسكرية، وأنه تحظر الهجمات العشوائية، حيث تقتضي القاعدة الأساسية بالتمييز في جميع الأوقات بين السكان المدنيين والمقاتلين، وكذلك بين الأعيان ذات الطابع المدني والأهداف العسكرية، لكن عمليات القصف الهمجي التي قامت بها الولايات المتحدة أثناء حربيها على أفغانستان والعراق والتي ما زالت تقوم بها، وإن بصورة متقطعة ودون سابق انذار، قد أدت وما زالت تؤدي الى مقتل آلاف، بل عشرات الآلاف من السكان المدنيين الأبرياء الذين ليس لهم أية علاقة بتلك الأعمال العسكرية التي جرت وما زالت تجري على الساحتين الأفغانية والعراقية، وقد بررت الولايات المتحدة هذا الأمر بأن الأخطاء في أثناء الحروب يمكن أن تقع! ما يعد انتهاكاً صارخاً وخطيراً للقانون الدولي الانساني.
ثانياً: مشروعية المقاومة في لبنان في إطار إثبات مدى أحقيتها في مقاومة الاحتلال وفق الأدلة الشرعية والقانونية:
في مقابل تلك الانتهاكات الاسرائيلية الفاضحة للمواثيق والمعاهدات الدولية والتي يمكن اطلاق وصف أعمال ارهاب الدولة عليها، نشأت المقاومة الاسلامية في لبنان كرد فعل طبيعي على الاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني، حيث أنه بات من الواضح والأكيد أن الاجتياح الصهيوني للبنان والذي حدث في 6 حزيران عام 1982، لم يكن اجتياحاً عسكرياً فحسب، بل كان في حقيقة الأمر، غزواً فكرياً وحضارياً وسياسياً، يستهدف أول ما يستهدف الغاء هوية المسلمين وانتمائهم وأصالتهم، والغاء دورهم الريادي في حركة الصراع بوجه الكيان الغاصب في فلسطين. لقد سعى الغزاة الصهاينة بمختلف الأشكال والأساليب، الى تغيير الأفكار والمفاهيم السائدة، لتصبح أكثر قابلية للتعايش مع هذا الجسم الغريب المزروع في قلب الأمة، وقد بدا ذلك جلياً في تلك المضامين الخطيرة التي نص عليها اتفاق 17 أيار، والتي كانت تهدف أساساً الى تهديد لبنان فكرياً وسياسياً وحضارياً وتحويله الى محمية اسرائيلية.
وحدهم اللبنانيون الوطنيون وعلى رأسهم المجاهدون كانوا يدركون حقيقة الوضع والأخطار الناجمة عنه، ووحدهم كذلك كانوا يعلمون أنهم لا يواجهون فقط الدبابة والطائرة والمدفع، بل ما هو أشد فتكاً وأمضى سلاحاً، ألا وهو التهويد والصهينة والتطبيع في كل مجال من مجالات الحياة.
لذلك لم تكن انطلاقة المقاومة الاسلامية في لبنان حصيلة عوامل هامشية وعابرة، بل حصيلة عوامل وحوادث تاريخية وسياسية أساسية وذات آثار عميقة ودائمة على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، والتي من أبرزها، حصول العدوان الاسرائيلي على لبنان، وما نتج عنه من انبعاث للروح الكربلائية الاستشهادية لأبناء جبل عامل وإخوانهم في بقية أرجاء الوطن، تلك الروح الحسينية المضحية التي أخرجت المحتل الغاشم من معظم الأراضي اللبنانية والتي ما زالت تتابع مسيرة التحرير حتى خروج المحتل من آخر شبرٍ من أرض الوطن وذلك مع عدم التقليل أبداً من ذلك الدور الكبير الذي لعبته وما زالت تلعبه مشكورة كل من ايران وسوريا في دعم المقاومة في لبنان في مختلف المجالات والميادين.
اضافة الى ذلك الغطاء الشرعي الذي تتمتع به المقاومة من الوجهتين: الدينية والقانونية، والذي كان له الأثر الايجابي الملموس في نفوس وعقول المقاومين ومؤيديهم، لأنه وفّر لهم تلك القضية العادلة التي تصنع لديهم تلك الروح القتالية الاستبسالية في الدفاع عنها، ألا وهي قضية ارادة تحرير الوطن وصنع مستقبل أفضل لأبنائه.
ومن أبرز تلك الأدلة الشرعية والقانونية التي أعطت الغطاء الشرعي لعمل المقاومة الاسلامية في لبنان ضد المحتل الغاصب:
1 - أنه ما من حرف أو كلمة أو آية في القرآن الكريم الا وتعبق بأريج الشهادة والتضحية والفداء، وتحث المسلمين بل كل انسان على العمل لرفع الذل والمسكنة والهوان.
فيقول الله تعالى في الآية 95 من سورة النساء "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً".
كذلك أكدت الأحاديث الثابتة والمروية عن الرسول الأكرم (ص) وأئمة أهل بيته عليهم السلام على المنزلة الأخروية للمجاهدين والقيمة الروحية للقتل في سبيل الله، فيقول رسول الله (ص): "ان للجنة باباً يقال له باب المجاهدين، يمضون اليه، فإذا هو مفتوح، وهم متقلدون سيوفهم، والجمع في موقف والملائكة ترحب".
وفي الركب الحسيني الشريف، حيث كان الامام الحسين (ع) متجهاً الى الكوفة، اقترب ابنه علي الأكبر (ع) منه سائلاً إياه "أبتاه، أولسنا على حق؟"، فأجابه الامام الحسين (ع): "نعم وحق جدك محمد (ص)"، فقال له علي الأكبر (ع):"لا نُبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا".
2 - ان الميثاق الدولي للأمم المتحدة قد أكد في أكثر من موقع من مواده وخصوصاً في المادة 51 على ضرورة اعطاء الأمم والشعوب الحق في الدفاع المشروع عن النفس والأرض اذا ما اعتدت قوة مسلحة عليها، كما اعتبر الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1948 أن الحرية هي أسمى آمال البشرية، وأن من حق الشعوب أفراداً أو جماعات مقاومة أية قوة غازية على ترابها الوطني، وذلك بشتى الوسائل والأشكال التي تحقق دحر تلك القوة الغازية.