ارشيف من : 2005-2008
جنون "الجيل الرابع"

الانتقاد/ قضايا واتجاهات ـ العدد 1132 ـ 21 تشرين الاول/ اكتوبر 2005
محمود حيدر(*)
سوف ينبري عدد من العاملين في الميدان الاستراتيجي، الى توصيف "الفوضى الخلاّقة" بأنها الحرب العالمية الرابعة بامتياز. فإذا كانت الحربان العالميتان، الاولى في بداية القرن العشرين، والثانية في منتصفه، هما على وجهِ شَبَهٍ مشتركٍ من نواح ونتائج عديدة، فإن الحرب الثالثة هي ما عرف بـ"الحرب الباردة" (1945 ـ 1990)، أما الحرب العالمية الرابعة فهي تلك التي لا تنفك تجتاح عالم اليوم، وتكتسي ألواناً وآليات لا حصر لها.
خلع السياسيون والاستراتيجيون الاميركيون على هذه الحرب أوصافاً عدة: "الحرب الشاملة على الارهاب"، "الحرب الاستباقية"، "الحرب اللامتكافئة"، "الحرب ضد الفوضى"، "الحرب الدائمة"، و"حرب الجيل الرابع".
غير أن كل هذه الأوصاف والتسميات، تندرج في وعاء استراتيجي واحدٍ راحت تظهر معالمه بقوة بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وأياً تكن التأويلات التي أخذ بها الخبراء منذ ذلك الوقت، فإن الوظيفة المرصودة للحرب العالمية الرابعة تقوم ـ بحسب الاستراتيجي البلجيكي ف. ب. هويغيه (F.B.Hoyge) ـ على ثلاث مزايا:
ـ المزيّة الاولى: استراتيجية ومادية، وهي تعني حرمان الخصم من قواه من قبل ان يتمكن من الوصول الى الولايات المتحدة، وتدمير قواعده الخلفية.
ـ المزيّة الثانية: رمزية ورادعة: وتعني توجيه رسالة قوية للارهابيين وللديكتاتوريين، وإفهامهم ان الولايات المتحدة سترد على أي ضربة، وبالتالي احباط مشاريعهم ومنع انتشارها عبر الخوف من القوة العظمى.
ـ المزيّة الثالثة: ايديولوجية وسياسية: وتعني نشر الديمقراطية في العالم. ذلك أن ترويع اعداء اميركا ليس سوى مقدمة لنشر الحكم الصالح في الكرة الأرضية كلها، وتعميم السوق وحقوق الانسان، فالمشروع الحربي الاميركي يهدف، وفق التعبير المعتمد، الى جعل العالم مكاناً أكثر أماناً للديمقراطية، وهذا يعني بشكل خاص جعل هذا العالم آمناً للولايات المتحدة.
ان هذه المزايا التي شكلت "الهندسة الاخلاقية" للجيل الأخير من حكام الولايات المتحدة، كانت جاهزة لتبرر حروبهم على عوالم كان من المستحيل تكييفها أو مطابقتها لقواعد العمل الاميركي في العالم الا بالقوة.
لكن المحافظين الجدد لا يكتفون بإشهار الحرص على اهمية، ووجوبية، مثل هذه الاستراتيجية، بل انهم يقطعون شوطاً اضافياً في الطريق الذي يمنح "جنونهم الحربي" بُعده الرسولي. وثمة اعتقاد راسخ لدى هؤلاء يقوم على الادعاء بأن هناك استثنائية اميركية قوامها ان ما لا يحق لسواها في القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، انما هو مباح لها. لذا لا ينفكون يعلنون انهم يريدون الامبراطورية ولكن كما ـ كما يزعمون ـ هي امبراطورية خير، لا تسعى الى اغتصاب أية اراضٍ، ولا الى ظلم احد. انهم يكررون أيضاً أن على الولايات المتحدة الدفاع بقوة عن مصالحها (لكن هذه المصالح تتوافق ـ وأيضاً حسب زعمهم ـ مع تحرير البشرية، وبالتالي مع منطق التاريخ)..
نقّاد الحرب الاستباقية
على الرغم من التبريرات الايديولوجية للحرب العالمية الرابعة، بأشكالها المختلفة، فقد بقيت عرضة لعواصف لم تهدأ من النقد، وإطلاق الأوصاف المذمومة على مقدماتها ونتائجها، ومن أبرز ما قيل على لسان نقاد الحرب الاستباقية ما يلي:
انها حرب غير قابلة للتطبيق قانونياً، لجهة أن ليس لها علاقة بحق الدفاع المشروع، الوارد في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يفترض وجود أمر طارئ وغياب أي خيار آخر، أو رد يتناسب مع الخطر.
أنها حرب قد تكون عدوانية (وهي كذلك في كل الأحوال)، الا أن الجانب الأخطر فيها، ان بإمكان دول أخرى ان تسمح لنفسها وعلى أساس المبدأ نفسه، التذرع بـ"بيرل هاربر" على هواها.
انها حرب قد تدفع الى عكس ما يصبو اليه فاعلوها، اي انها تجعل "منظمات الارهابيين" و"الدول الشريرة" تعمل بسرعة أكبر.
انها حرب قد تمنح بعض الأشخاص حق ضرب هذا النظام او ذاك من دون مراقبة شعبية أو دولية.
وانها قد تكون كارثية على صورة الولايات المتحدة، اذ تمنع حلفاءها من اتباعها في هذه المقامرة، ثم انها تثير كل المعارضات في وجه اميركا التي تبدو انها تستعمل حق القوة.
الى هذه اللائحة من المآخذ المبررة بصورة واسعة يضاف مأخذ آخر وهو يظهر في قضية أسلحة الدمار الشامل في العراق، التي لم يفلح الاحتلال بعد فترة طويلة من العثور عليها.
لكن من يقنع الجيل الاميركي الرابع، ممثلاً بطبقة المحافظين الجدد، بالاندفاع نحو المزيد من الجنون؟
لا أحد، على ما يبدو، بإمكانه ان يمارس على ذلك الجيل عملية اقناع بالوسائط المنطقية، فالمسألة هنا تتعدى مثل هذه الوسائط، ولا سيما ان الحرب الاستباقية بطبعها، وطبيعتها، وعناصرها الذرائعية، هي اجراء غير عقلاني، وبالتالي فلا تصح معها العقلانية. فالأفكار التي تؤلف بمجموعها استراتيجية هذا النوع من الحرب هي غالباً ما تقود أصحابها الى معضلة مستحلية.
وبالتالي، غالباً ما تكون النتيجة تدميرية: ان أفكاراً كهذه سوف تقود إما الى فقدان ماء الوجه، ما يشجع اعداءهم على اغتنام لحظات الوهن أو الضعف او التراجع، وممارسة ضربات موجعة، وإما الى القيام بمهمة مستحيلة قوامها: ازالة حتى فرضية الشر.
حيث اذا كانت طبيعة نظام ما او نياته السيئة تشكل الخطر الداهم، فمن الواجب حينئذ تطهير الأرض منه او الوقوع في الهلاك.. ان ذلك هو بالضبط، ما مضت اليه "المحافظة الاميركية الجديدة" منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حتى اذا وقع زلزال الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر بلغ جنون الجيل الرابع الاميركي ضفاف الهاوية.
* رئيس تحرير "مدارات غربية"