ارشيف من : 2005-2008
أميركا المركبة.. المعقدة!

ـ محمود حيدر رئيس تحرير "مدارات غربية"
هناك التباس تاريخي في تصوّر صنع الولايات المتحدة لقدرها، وهو ما وصفته أليزا ماريا نستراس بالقول: إن الأمة الاميركية التي شاءت نفسها لا زمنية ولا تاريخية، هي في الوقت نفسه وريثة الحضارة الأوروبية التي استأنفت شعلتها، لكنها سارت بنفسها نحو ازدواجية خطابها والصورة التي تقدمها عن نفسها. فهي ان لم تصدر عن تصور ثقافاتي او تاريخاني ـ كما يبين الفرنسي ميشال بوغنون ـ موردان ـ ولا حتى عن الفكرة الهيغيلية حول مفهوم الدولة/ الأمة، ولا عن تصور روسو، فإن خليطاً من كل هذه المكونات تعايش مع ذلك فيها.. فهي على بوغنون ـ موردان تتأتى من روسو من حيث أصلها التعاقدي، الذي ينطوي على ان وجودها سيدوم ما دامت لا تقطع الصلة التي تصل المواطنين بعضهم ببعض، وهو حقاً حادث مصطنع ناشئ من إرادة الأعضاء الذين يكوّنونها، وبذلك تندرج ككيان جديد في صفحة بيضاء، ولكن فيما يتعدى الإجماع الذي يفترضه ذلك، انما تتضاعف بطبيعة تاريخية وإثنية معاً، ويمضي الباحث ـ الأنتروبولوجي الفرنسي الى تفسير قطيعة أميركا مع مصدرها الإنكليزي ومع القارة الأوروبية عموماً، فيرى ان مؤسسي الولايات المتحدة شاؤوا وهم يعلنون أنفسهم "أبرياء" من كل تاريخ ومن كل تعاقب زمني، ان يكونوا مواصلي تراث ولغة وثقافة امتلكوها وعقدوا النية على ان يجعلوها مرجعاً مطلقاً لباقي العالم.
وعلى ما تبيّن هذه الرؤية الأنترو ـ تاريخية لولادة أميركا، فإنه بعدما تباعد الأميركيون عن وطنهم الأم القديم انكلترا، سرعان ما ظهرت الفكرة التي اتخذوها أساساً بديلاً مما كانت تمثله لهم انكلترا، ذلك أن هذه المسافة السياسية الجغرافية راحت تتحول تدريجاً الى مسافة ثقافية أيضاً.. فمنذ العام 1770 وقعت القطيعة بين العقول، اذ بدا واضحاً للجميع أن الهجرة الى القارة الأميركية الشمالية مثال كان بالأمس حال الإنكلوساكسون الذين غادروا ضفاف البلطيق وسروا عند السواحل الإنكليزية، أو حال العبرانيين الوافدين الى "الأرض المقدسة"، ستقود الى قطع نهائي.. وهكذا سرعان ما ظهر للعيان تفاضل الزمان والمكان، فالأطلسي وهو المكان الواسع المجهول، شكل حاجزاً طبيعياً ونفسياً بين أوروبا وأميركا، وشجع العزلة المادية. وأما على صعيد الزمان، فإن هجرة روّاد أوروبا تندرج في منطق تاريخي ربّاني، منطق ولادة أمة جعلها الله أمّته حتى تكون إدارة مشيئته.
هذا الالتباس الذي يظهر من التكوين المفارق والمركب للولادة الأميركية، سوف يسفر ويدوم على امتداد قرون طويلة، بل إنه سوف يرتب طائفة من الآثار السياسية والدينية والعقائدية شكلت المتكأ الأيديولوجي للإدارات الأميركية المتعاقبة. فالثابت الأميركي الناشئ من تركيبة الولادة سيحكم المنظومة الثقافية والأيديولوجية للسياسات اللاحقة.