ارشيف من : 2005-2008
حجاب اعلامي!!!

الانتقاد/ قضايا واتجاهات ـ العدد 1139ـ 9/12/2005
إيفا شعيتو*
تكلّم الكثيرون عن الصورة السلعية الإغرائية للمرأة، تلك التي قدّمتها وما زالت تقدمها، شاشات الفضائيّات الى الآن. ولقد استرسلوا وأطنبوا وهاجموا و... حتى ملّت أسماعنا وأبصارنا من سماع ومشاهدة وقراءة ما كتب حول هذاالموضوع. وكما يبدو فإن بعض الفضائيات العربية قد قرّرت التصرّف بـ"ذكاء" بالنسبة للموضوع المذكور آنفا، حتى لا يطول "الملل" والإنتقاد والهجوم. لذلك فقد تمخّض ذكاؤها الإعلامي عن صورة هجينة "جديدة" للمرأة المسلمة العربية، صورة تخدم أهداف المؤسسات الإعلامية والإعلانية وتحقن - في الوقت نفسه - بإبرة مورفين سخط الجمهور الغاضب المعترض على صورة المرأة الخليعة، وتعكس أيضا "الصورة الحقيقية" للمرأة العربية المسلمة كما ترى تلك المؤسسات وجودها في المجتمعات العربية.
وفيما يلي سنستعرض ما تمخّض من مشاهد عن مؤسسات حاولت أن "تفكّر" و"تبدع" لكنها للأسف قد فشلت .. ما السبب؟ قد يسأل كثيرون.
السبب بسيط.. وهو انها لم تخرج من إطار الإعلام الببغاوي الذي هو مرآة تعكس ما يقوم به الإعلام الغربي كما هو من دون مراعاة لتفاصيل بلادها من التقاليد والأصالة الإسلامية العربية . والنتيجة، مشاهد مشوهة على فترات متباعدة بين قناة وأخرى واليكم المشاهد...
- المشهد الأول: محجّبة ترتدي ال t-shirt و الjeans مع تبرج كامل، تتراقص بحركات لا ترضى القيام بها حتى غير المحجبة، كل ذلك في فيديو كليب لأحد المغنين الصاعدين على شاشة Dream الفضائية. يبدو أن مصمم الفيديو كليب قد احتار في كيفية تفجير إبداعه لينفــّذ رغبة ذلك المغني في الوصول الى قمة الشهرة والنجومية بأسرع وقت ممكن بعد فشله في تحقيق ذلك بالكامل في برنامج سوبر ستار. وللأسف كان الحل باستعراض الحجاب والمحجبة بهذا الشكل المهين كجواز سفر الى النجومية. إذاً.. صار لدينا على الشاشة الصغيرة لأول مرة model فيديو كليب محجبة تنافس حتى "أجرأ" model غير محجبة !!!.
- المشهد الثاني: على شاشة روتانا الفضائية .. وروتانا هذه قد انتقدت فيما سبق لمزجها بين أجواء الكاباريهات والأذان الذي توقف بث برامجها الغنائية لترفعه عند كل صلاة، ومن ثم تكمل بث الفيديو كليب بشكل طبيعي. ولم تكتف روتانا بإنزال أسمى العبادات الى اجواء الكاباريهات، بل عمدت الى نقل مهرجانات دبي الغنائية بمقدّمة خليجية محجّبة تشبة دمية الباربي بفستانها الذهبي المزركش وتبرجها الفاقع الذي تخجل حتى غير المحجبة من وضع شبيه له. و لا ادري إن كانت باربي تتكلم هذه الايام لأن مقدمتنا العزيزة كانت تحاول تقليد المقدّمات اللبنانيات في تطريز كلامها بالدلال. ومشهد التقليد غنيّ عن الوصف فيما يحدثه من نفور للعين والأذن على السواء خاصة إذا نسي المقلّد "مشيته" ولم يتقن "مشية" من يحاول تقليده. إذاً، صار لدينا الآن على الشاشة ولأول مرة مقدمة برامج فنّية محجّبة!!
- المشهد التالي هو لـ"بصّارة" تقرأ الطالع على الهواء مباشرة، على قناة الـ NTV وهي غير محجبة. ولكن يفاجأ الجمهور في احد الايام باتخاذها قرار الحجاب. امر جميل... فهل سوف تستقيل من "مهنة" التبصير يا ترى؟ كلا.. بل تبقى بصّارتنا بحجابها الاحمر وأحمر الشفاه الأحمر الفاقع لتمارس مهنة التبصير حتى "الرمق الاخير"، فلقد صار الآن شرعيا وصار "التبصير" رسالة عليها تأديتها. فكيف تم الجمع ما بين الحجاب ومداليله الإسلامية وبين قراءة الطالع أو "التبصير"؟ هذا أمر عجيب لا يحصل الاّ على شاشات فضائياتنا. وأصبح لدينا على الشاشة ولاول مرة "بصّارة" محجبة!!
لم تتوقف مشاهد الحجاب "المطور" بعد فهناك مشاهد المذيعات المحجبات اللواتي تسقط شعورهن خارج حدود حجابهن "سهوا"، وتسقط الالوان المتعددة على صفحات وجوههن أيضا "سهوا" و...و... لو بدأنا العد لما انتهينا، ولكن شئنا أم أبينا فإن هذه المشاهد تشكّل في كل واحدة منها أو مجتمعة، عن قصد او دون قصد، رسالة إعلامية تبثّ على مدار الساعة، تحقّر الحجاب وترمي به من قمة القداسة الى الحضيض.
وبالعودة الى خلفية المسألة برمّتها، فلقد عُرف عن الإعلام الغربي بأنه إذا ما أراد مخاطبة جمهور يختلف عن جمهوره فإنه يسعى الى ايجاد النماذج القريبة في ملامحها وشكلها من ذلك الجمهور. فتظهر المرأة على شاشات مؤسساته بملامح عربية أو هندية أو ألمانية باختلاف الجمهور المخاطب، ولكن طبعا جميعهن ينطقن بلسان وثقافة غربية، والسبب في هذا الإنتقاء هو إضفاء مصداقية على الرسالة التي تبثّ بالإضافة الى كسب تعاطف الجمهور.
وللأسف فإن فضائياتنا العربية الببغاويّة لم تفطن إلى أصل المسألة بل نقلت الصورة فقط. ونقلتها كما تقدّم في الإعلام الغربي وللجمهور الغربي من دون
مراعاة أن الجمهور الذي تتوجّه اليه فضائياتنا العزيزة، غالبيته من النساء اللواتي يضعن الحجاب بل و يرتدين "البالطو" أو العباءة السوداء(1).
إزاء واقع الفضائيات العربية ذاك، انتفض الشارع العربي استنكارا لصورة المرأة ـ السلعة التي تقدّم أمامه، وكثر الكلام حول تلك الصورة اللاواقعية السلبية للمرأة في الإعلام، وارتقى الحديث الى خلو المؤسسات الإعلامية من الاخلاق فيما تبثّه (2).
وبعد انتفاضة الجمهور العربي المسلم وقعت المؤسسات الإعلامية ـ الإعلانية في حيرة ايجاد التبريرات والحلول، وعاشت صراعا أدى عند بعض تلك المؤسسات الى انفصام في الشخصية الإعلامية، ظهر من خلال التناقض في الرسالة الإعلامية نفسها (روتانا في تقديمها للأذان والفيديو كليب في الوقت ذاته) أو عمدت تلك القنوات الى ايجاد حلول "وسطية" التفافية ترضي ـ باعتقادها ـ الطرفين: المرسِل (القناة) و المرسَل اليه (الجمهور المسلم العربي) ليظهر هنا آخر "الإختراعات" في مجال الرسالة الإعلامية: النموذج الهجين الجديد للمرأة العربية المسلمة على شاشات الفضائيات العربية، اعتقادا من تلك المؤسسات بأن هذه الرسالة مستقاة من المفردات المشتركة ما بينها وبين جمهورها كما يفترض بالرسالة الإعلامية ان تكون. ولكن ... للمرة الثانية تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالصورة الجديدة هي صورة مشوهة، ورسالة اعلامية افتقدت مصداقيتها فضلا عن أنها لم تكن من المفردات المشتركة بين المرسل والمرسل اليه. فليست صورة المرأة المحجبة التي يختزنها ذهن وقلب الجمهور المسلم العربي ويتطلّع اليها،هي تلك التي ظهرت على الشاشة، فضلا عن أنها ليست أيضا تلك الصورة الموجودة فعلا وواقعاً عند غالبية النساء في المجتمعات العربية المسلمة. الجمهور الذي من المفترض ان تخاطبه تلك الفضائيات يعي جيّدا أن الحجاب هو التزام ظاهري وباطني، وهو أبعد ما يكون عن الإغراء وأجواء الكاباريهات وأكاذيب قراءة الطالع، وأنه لا يمكن لكل هذه المفاهيم السلبية اللاأخلاقية أن تتسلل الى الحجاب، فضلا عن أن يكون هو غطاء لشرعنة كل هذه المفاهيم القبيحة. فأين هذا الواقع وأين الحقيقة على شاشات التلفزة العربية؟
أوَهَلْ تسعى فضائياتنا إلى إقناع جمهورها بأن الحجاب لا يمنع الإغراء أو الكذب في رد منها على من يدعو الى ارتداء الحجاب كونه مانعا من هذا السوء كله؟ أم أنها تسعى الى فرض واقع اجتماعي جديد بتقديمها تلك الصورة الهجينة على طبق الشاشة الفضية لملايين النساء العربيات المسلمات من بناتنا ونسائنا وأخواتنا وأمهاتنا؟ ولماذا؟
تذكّرنا هذه المسألة واقعا بظاهرة خلع الحجاب عند المرأة العربية إبان ظهور الدعوة الى تحريرها فيما مضى، فلقد تم نزع الحجاب تدريجيا عن رؤوس جداتنا وأمهاتنا الغافلات آنذاك، والسينما العربية الأجيرة وأفلامها السوداء والتلفاز وما قدمه من شكل المرأة وصورتها آنذاك شاهدان على ذلك في تلك الحقبة. وكما يبدو فإن التاريخ يعيد نفسه لأن السلاح الذي استخدم فيما مضى لا يزال "فعّالا بامتياز"، التاريخ يعيد نفسه هنا في هذه المشاهد المذكورة وسواها لانها تشكّل دعوة الى خلع الحجاب بشكل تدريجي عبر تشويهه كخطوة أولى بعد أن فشلت كما يبدو الصورة الدفعية للمرأة ـ السلعة غير المحجبة في انتزاع الحجاب عن رأس المرأة المسلمة العربية وجسدها. نعم.. هي محاولة لانتزاع الحجاب بشكل تدريجي قصدت تلك القنوات ذلك أم لم تقصده، لأن هذه النتيجة السيئة هي أبسط أثر من الآثار السلبية لصورة المرأة الهجينة التي تعرض كل يوم أمام جماهير النساء المتماهيات فيها سواء بلباسها وطريقته، أو في حركاتها وحتى في أدق التفاصيل.
والمطلوب الآن، حتى نلملم ما تبقى من كرامتنا العربية بعد مواقف التخاذل والاستسلام والتقليد الأعمى للغرب، أن تكتسي الرسالة الإعلامية العربية المصداقية التي تزدان بها ثقافتنا الإسلامية العربية حتى لا نطعن تلك الثقافة في الصميم ونقف في صف من يهاجمها، بل نحصّنها وندعمها لأنها رمز رقينا وتميّزنا، ولأنها هي التي حملت بذور المقاومة والصمود في زمن التراجع امام الغزو. وبالأخص مفردة الحجاب لأنها لواء هذه الثقافة الواضح الجلي الذي يكون في المقدمة دائما للتعريف بالهوية.
والمطلوب تمثيل المرأة المسلمة العربية المحجبة كما هي واقعا رمز للطهر والنقاء، ودراسة الرسالة التي تقدمها بشكل يتناسب وحجابها وما يمثله، والمطلوب استنكار من قبل الجمعيات النسائية وجمهور النساء بالدرجة الأولى لتلك الصور المشوهة للمرأة، ومقاطعة القنوات التي تبثها حتى لا يصل يوم تطالعنا فيه الإحصاءات في البلدان العربية بأرقام مفجعة حول تفشّي الفساد في بيوتنا وأحيائنا، وحول خلع أو تشويه نسائنا وبناتنا وأخواتنا لحجابهن. والمطلوب التفكير الجاد في طرح الثقافة الاصيلة التي تقدم الحجاب الصحيح في الإعلام الإسلامي كله، تماماً كما يعمل الأعداء على خطّي السياسة والثقافة ويتحدّثون عن "تغيير ثقافة شعب ما" لينبثق عن عملهم ذاك، سياسات إعلامية تعمل على الخطّين بشكل متساو.
هي دعوة الى جميع تلك الفضائيات الى المواجهة لا الى خلق ظواهر مشوهة وبث رسالة تصب في صف الإعلام المعادي، دعوة إلى التوقف عن الببغاوية والنظر بعين واقعية الى الجمهور المخاطب، وإلا فلن نصل الى الإبداع كما لم نصل إليه لأننا لم ننطلق من ثقافة أصيلة تصنع رسالة قوية تواجه أقوى التقنيات. وسنظل نحلم بيوم تبث فيه فضائياتنا العربية صورة للمرأة المسلمة العربية كما يجب أن تكون. حلم لربما تحقق إذا ما قامت المؤسسات الإعلامية الغربية باعتماد هذه الصورة الصادقة للمرأة المحجبة، عندها فقط من الممكن ربما أن يقتنع القيّمون على فضائياتنا العربية باعتماده.. أليست القنوات الغربية هي السبّاقة دوما؟!!
1- إذا ما اجرينا إحصاءً على النساء في الوطن العربي بأجمعه لوجدنا أن الغالبية العظمى هي من المحجّبات.
2- حبّذا هنا لو تمّت مقاطعة كل السلع والقنوات التي تقدّم في إعلاناتها وبرامجها صورة مشوهة وغير محتشمة للمرأة ليتم بهذه الخطوة الضغط على شركات الإعلان وبالتالي المؤسسات الإعلامية.
*كاتبة من لبنان