ارشيف من : 2005-2008
حوار الأديان بوصفه مقاومة لمنطق الحرب الأميركية الجديدة

الانتقاد / مقالات ثقافية ـ العدد 1120 ـ 29 تموز/يوليو 2005
بقلم سماحة الشيخ حسين شحادة
من خصال أمتنا العربية أنها أمة التوحيد، فكيف استحال عليها أن تنجز على أرض الواقع وحدة شخصيتها وكيانها؟
ترى أيكون التخبط في فهمنا لسؤال الدين دافعاً إلى تمزق ثقافتنا الدينية، وقد انتهت إلى منزلقات من السجالات والفتن والعداوات ما لا سبيل إلى الخروج منها، إلا بالبحث عن اللغة المشتركة ليبتدئ حوار الأديان على قاعدة هذه المشتركات لنخوض تجربة نوعية تقترح أن يكون الإنسان محوراً وموضوعاً لحوار الأديان؟
وفي ضوء هذه المعادلة، آمل ألا نختلف على جروح الإنسان بمثل ما اختلفنا فيه على رحمة الله سبحانه وتعالى..
كذلك وفي ضوء محورية الإنسان، آمل أن نتجاوز ذلك الحوار الطوباوي الذي ألفناه من منابر ومنتديات الحوار الديني ـ الديني، فينفتح لنا الأفق الذي نرتجيه من ربط سؤال الدين بسؤال النهضة.
ولأن الحوار يحرص على نقاء الدين في كل ما يمس النظام الاجتماعي، فمن أولويات هواجسه إماطة قناع الزيف عن المتكلمين باسم الدين من بيوت الشرق إلى بيوت الغرب.
فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية هي مركز العالم بمعيار تفوقها الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي فإن السؤال: كيف نجعل من سورية الحضارة والأنبياء والأديان التوحيدية هي مركز العالم بمعيار تفوقها المرتجي في تجسيد معاني القيم والأنبياء. أوليست سورية هي الحاضن المعرفي لأقدم حوار عرفه العالم في تاريخه؟
وليس في هذا الحلم شيئاً من مجافاة حركة التاريخ لمن وقف على فلسفة قيام الحضارات وسقوطها. وبحسب شهادات مراكز البحوث الغربية فإن الجانب الأصيل من اليهودية والمسيحية والإسلام هو الجانب العربي، ومن هذا الشرق العربي يتوق الحوار إلى البحث في معنى حضور الله في الإنسان، لنؤسس على معناه مفهومنا للتنمية فنضع خطاً فاصلاً بين إنسان العصر الحجري وسلالته الفلسفية المنتشرة في العراق المحتل، والذي يقاتل لمجرد القتال والبقاء، وبين إنسان الحوار الحضاري الذي يناضل من أجل معنى بقائه إنساناً وفياً لأسماء الله وإنسانيته.
وحتى اللحظة الراهنة لم يقدم حوار الأديان لا في الغرب ولا في الشرق شيئاً من نموذجيته ليغتذي منها حوار الحضارات.
وأخجل من القول إنه لا أمل من حوار بين الحضارات في عالم تتسع فيه الهوة العميقة بين الأديان، أو تتسع فيه الفجوات العميقة بين شمال الأرض وجنوبها، حتى قيل إنه ليس من الممكن إقامة حوار حقيقي بين الحضارات من شأنه أن يتيح إخصاباً متبادلاً بين الثقافات إذا لم نبدأ بتحليل الآليات التاريخية التي منعت أو زيفت هذا الحوار إلى اليوم، وأفقرت معايير المقارنة، ولا سيما شروط عدم التوازن الاقتصادي المطّرد بين الغرب وسائر العالم.
فما الذي يجعل الدين طرفاً في منع أو تزييف هذا الحوار؟
وما الذي يجعل الدين متواطئاً مع الظلم العالمي لطمس معايير المقارنة في معتركات المواجهة التي لا تهدأ بين حق وباطل، أو بين ظلم وعدالة؟
أتراه الرق السياسي والنخاسة الاقتصادية في سوق السيادة الأميركية التي ابتلعت كامل ما أنجزه العقل الفلسفي من حقوق الإنسان المنتهكة باسم الرب الأميركي الجديد الذي أعلن عشية الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر على لسان رأس البيت الأبيض بأنه سيفاجئ العالم وإرهابيي العالم بنمط جديد من الحرب الجديدة.
ولم يخطر على بالي أن الجديد في هذه الحرب هو تثوير الأحقاد الدينية وتغذية التطرف الديني والإمعان بتشويه الأديان الشرقية والعربية تشويهاً يقود في نهاية الحرب إلى حالة من الغثيان الديني الذي لن يجد خلاصه من شر أدياننا الدموية إلا بالبحث عن صورة الدين الأميركي الجديد الذي يقدم نفسه كمدافع عن نظام القيم.
وبما أن استعادة النقاء الديني العربي ستكون عسيرة في مثل ظروف العنف الديني المزروع بدقة تحت عباءات المتكلمين باسم الدين على النحو الذي يراه العالم وكأنه محضن فتن دينية تتقيح من إفرازات العقل الديني العربي وموروثاته، ستعمد أدوات الحرب الأميركية الجديدة المتخصصة إلى تفريغ المصطلحات الدينية من مضامينها، وتفريغ الأديان العربية من مضامينها، ليسدل الستار في الفصل الأخير من الحرب بإعلان نهاية الأديان العربية كمصدر تنوير للعالم وإنهاء مرجعيتها كحاضن للأديان السماوية.
وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات ستعلن الإدارة الأميركية عن مسوغات انفصام الحضارة الغربية عن منابعها الشرقية فاتحة ذراعيها لصياغة الإسلام على طريقة الإنجيليين الجدد في صياغة اليهودية والمسيحية.
وأخشى ما أخشاه ألا يجد العربي المسلم الهارب من أسياف دينه ملاذاً للخلاص إلا بانخراط داخل هذه الصياغة.
وبما أن حرب المصطلحات التي لم نلتفت إلى مخاطرها ستفرض على العقل الديني العربي الاعتراف بمدلولاتها الجديدة فلن تثار دهشة في المستقبل المنظور من أي إعلام يتحدث عن الصهيونية ـ المسيحية ـ الإسلامية.
هذا هو التحدي الذي دفعني لاستعجال الإعلان عن مشروعين:
أحدهما: مشروع الجبهة المسيحية ـ الإسلامية لإنقاذ الحضارة لمواجهة تحديات الصهيونية المسيحية ومشاريعها.
والمشروع الثاني: هو ما تم الإعلان عنه في المطلع السنوي لمجلة المعارج حالماً بالدعوة وداعياً بالحلم إلى تأسيس الأكاديمية السورية العالمية لحوار الأديان والثقافات، إيماناً مني أن الناظم الجوهري لعقد هذين المشروعين هو لتأسيس نموذج عربي عالمي عن حوار الأديان، ولن يتم ذلك إلا بإنضاج وبلورة مفهومنا العربي لعلم اجتماع الدين والتدين لنحسم من خلاله عدداً من المعضلات الشائكة وفي طليعتها معضلة الثنائية بين الدين والدولة، وسواها من الثنائيات القاتلة.
وأراني اعترف من مفارقات التنافر في نقديات العقل الديني أن جميع ما كتب عن موروثات هذا العقل على تباينها وخلافها هو صحيح فيما لو كان محور تلك النقديات هو نقد التدين.
والسؤال كيف بعدت الشقة بين الدين في ينابيعه الصافية وبين أشكال من التدين نراها وقد انفصلت تماماً عن جوهر الدين ومعناه لتغتذي وتنمو على طحالب الكراهية والإكراه وقواقع العداوة والبغضاء، بحيث انتهى إلى مادة جاهزة لا في مجال الاستغلال السياسي للدين فحسب، بل في مجال الاستغلال العسكري لتبرير منطق الحرب الجديدة والاحتلال الجديد؟!
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا عندما نجعل من هذا التدين وبجميع أشكاله موضوعاً لبحوث علمية وتاريخية لتفهم العوامل والأسباب المؤدية لتدهور الدين في المجتمعات المعاصرة.. ما يعني ضرورة الاهتمام بدراسة الظاهرة الدينية في أبعادها الوظيفية وفي مدى تأثيرها في نسق العلاقات الاجتماعية ككل وليس كمنظومة قيم مستقلة بذاتها.
إذاً لا بد من وضع فاصلة للتمييز بين قولنا بأن الدين ظاهرة في الاجتماع البشري، لوعي الجانب الإلهي من عوامل النجاح أو عوامل الفشل والإخفاق، تأكيداً لوعي الجانب البشري من الدين والتدين..
ويجدر الانتباه إلى أن القصور الوظيفي لوعي التدين في الراهن المعاصر يكاد يكون مختلفاً عن دراسات نقد الفكر الديني، التي كانت تحصر اهتمامها في مجال البحث عن نشأة الظاهرة الدينية دون أي مقاربات لوظيفة الدين في واقع الاجتماع البشري المتأثر أبداً برياح التجديد والتغيير.
من هنا فإن الدعوة إلى تأسيس علم اجتماع الدين والتدين العربي من شأنها أن تكشف عن الأدوار الإيجابية للدين، لا سيما في مجال بلورته المهمة لمعنى الهوية والانتماء، وما يتفرع عنهما من معنى مفهوم ثقافة الأمن الاجتماعي وثقافة السلام لمكافحة الإرهاب الديني بجميع أشكاله..
كيف نضبط مصطلح مكافحة الإرهاب الديني في حدود مكافحة التطرف الديني دون المساس بالجوهر الأخلاقي والاجتماعي للأديان العربية؟ أي دون المساس بمضمون الهوية التاريخية الحضارية لأمتنا الواحدة، لكي لا يذهب مشروع مكافحة الإرهاب الديني بعيداً من وراء كواليسه كمشروع لتدمير هويتنا الدينية وخصوصيتنا الحضارية؟!
إن هذه المخاوف يجب أن تثار كجزء من مسؤوليتنا نحن، أي أن مشروع حوار الأديان بمقدار ما ينجح في مهمة مكافحة الإرهاب كأزمة داخلية فإنه سيحقق مهماته المرجوة في مقاومة الاحتلال، مقاومة ثقافية وسياسية تنتزع ألغام الدين من بين أصابعه من قبل أن تنفجر بالجميع، ويكون ضحيتها الأكبر الدين والإنسان.
إذاً.. ما من شك في أن الدين الذي يفتح عقل الإنسان وقلبه على حقيقة التفكير بوجوده ومصيره سيمنحه قدسية الشعور بالأرض وبالحراك الاجتماعي بفلسفة المكان، وفلسفة أن يكون له وطن جغرافي مفتوح على وطنيته الحضارية والثقافية والدينية الطامحة بأمن وسلام برد الاعتبار لمفهوم وحدة الدين، وتفسير مفهوم خلاص الإنسانية بالدين تفسيراً يربط بين الإيمان والسلوك، فلا يدخل المؤمنون بعضهم بعضاً جحيم النار لمجرد اختلافهم في معتقد هنا وعقيدة هناك، لأن كلمة الفصل الأخيرة في اختلاف العقائد المتصلة بعالم الغيب هي لله سبحانه وتعالى.
وبذلك نؤسس لمفهوم جديد عن الخلاص هو الإخلاص لقيم الحق والخير والجمال إخلاصاً لظهوراتها في أي دين من أديان العالم، وفي أي ثقافة من ثقافات العالم.
وأراني أسأل هل يتعذر على أمتنا العربية والإسلامية أن تبسط اليوم خارطتها الدينية لتدرس وبعمق أوجه العلاقات المتوترة بين مختلف المذاهب الدينية والطوائف الدينية، ليستيقظ الجميع على نداء ضمير الإيمان والحب والتسامح، إلى أن وعي التدين لا يبنى بمثل هذه المخالب الحاقدة في كل مخالف في الرأي أو مختلف في الدين.
وما دامت جميع المجتمعات لا تخلو من أنماط وأشكال يكون فيها سلوك التدين وفكره طرفاً في المشكلات السياسية والدينية في المجتمع كان لا بد من إيجاد الطرق الناجعة لاستيعاب ظاهرة الصراعات الدينية وتطويق فكرة تقديس تلك الصراعات بمناقشة مبانيها وتدريب المؤسسات الدينية وتأهيلها على ضبط الأمن الديني ببرامج الرقابة الاجتماعية والدينية المسؤولة.
فلم يعد من الجائز أن تتستر المرجعيات الدينية الرسمية وغير الرسمية عن أي متمرد او مجرم يمتهن القتل والعنف باسم الله.. فيضفي الشرعية على جرائمه مستفيداً من ظاهرة الأمية الفضيحة في أمة "اقرأ".. وأمة "في البدء كانت الكلمة"..
وما من شك في أن ظاهرة هذه الأمية بأرقام إحصائياتها المذهلة ستسمح لسيطرة المزاج الديني الشعبي ليؤثر حتى على مرجعياته العليا التي تغض الطرف عن التطرف الديني الذي لم نفتح ملفاته لدراسة عوامله وأسبابه بالرغم من سقوط أفغانستان وبغداد بذريعة هذا التطرف.
ومع اتساع شبكات التطرف المرئية واللامرئية لا مفر لنا من الاحتماء بدولة القانون والمؤسسات لحماية المتدينين بعضهم من بعض، ولا مفر لنا من الاحتماء بالحوار الشامل اعترافاً بحقيقة أنه من المستحيل أن يتخلق العقل الديني بمفرده منعزلاً عن العقول الأخرى.
إلى ان نعترف بما نشهده من اتصال وانفصال بين عقول المتدينين فنحن مدعوون جميعاً للبحث عن اللغة المشتركة لنضيء بقناديلها محراب وحدتنا الإنسانية، ناهضين باللغة كلها، والحوار كله، والدين كله، من أجل كرامة الإنسان للإنسان، لمواجهة منطق الحرب الأميركية الجديدة التي تنشط بانتهازية سياسية عالية إلى استغلال مكافحة الإرهاب بتغذية أسبابه بوصفه المبرر الوحيد لهذه الحرب..
إن منطق العقل العسكري الأميركي يعلم تماماً أن الحرب لا بد لها من مضمون مقدس، ولكي يشعر الجندي الأميركي أنه مبارك باسم الرب، وأن الله يقاتل إلى جانبه، فقد اتخذت الحرب على الإرهاب شعار الصراع بين الخير والشر، وهما من المصطلحات الدينية بامتياز.
(*) المشرف على مجلة المعارج الإسلامية