ارشيف من : 2005-2008

ثقوب سوداء في الإجماع القومي الإسرائيلي

ثقوب سوداء في الإجماع القومي الإسرائيلي

كريم عبد الرحمن(*)‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1127 ـ 16 أيلول /سبتمبر 2005‏

من الظواهر اللافتة في تاريخ دولة "إسرائيل"، أن سؤال الشك عن حاضر الدولة ومستقبلها يتعاظم على نحو لم يسبق له نظير. فكثيرون من أمثال البروفيسور يحزقيل درور لم يعد لديهم اليقين في إمكان الاحتفاظ بدولة يحاصرها الأعداء من كل ناحية، بينما يشعر ساكنوها القدماء والجدد كما لو أنهم غرباء عن ديار ليست لهم. والشيء المحير لليهودي في "إسرائيل"، أن السلام الذي ينشده منذ زمن بعيد لم يلبِّ جوعه الضاري للأمن. وعلى العكس فإن قناعاته بقدرة زعامته على الوفاء بما وعدت اليهودية قبل نحو نصف قرن، تتداعى اليوم بصورة مدوية. وأكثر من هذا، فثمة ما هو أشد إيلاماً عندما يشعر الفرد الإسرائيلي بأن المسافة تتسع يوماً بعد يوم بينه وبين الدولة التي نذرت نفسها لحمايته وحفظ حياته ومستقبله. حتى لقد جاز القول إنه لا يبقى لكي يشعر الإسرائيليون باندثار الدولة البطيء سوى ما يشاهدونه يومياً من انفصال مروّع بين الدولة وأجهزتها ومؤسساتها والمجتمع الأهلي الغارق بملابسات وتناقضات لا حصر لها. والدولة التي شاء لها حكماء اليهود الأوائل أن تسمو فوق التناقضات، ها هي اليوم تهبط إلى مستوى الصراعات الصغيرة.. والمجتمع الحزبي الذي يؤلف جماع المجتمع السياسي باتجاهاته المختلفة، الموالي والمعارض والوسط، لا يبدو على سويته واتساقه.. وثمة ميل إلى الاعتقاد بأن المفاهيم السياسية والاجتماعية ناهيك عن الفكرية، لم تعد هي نفسها التي تحكم قواعد اللعبة. والمنافسة بين التكتلات الحزبية باتت محكومة إلى ضرب من فوضى نجمت عنها اضطرابات شديدة في حركة الاستقطاب. ومعها تحول الجمهور الإسرائيلي من قوة ضغط تستطيع وضع الضوابط والأنظمة لتيارات السلطة والمعارضة، إلى جمهور خائف ومتوجس من راهن ومستقبل لا عهد له بهما من قبل.‏

ومن الظواهر اللافتة في "إسرائيل" اليوم، الاتساع المتدرج للمسافة الفاصلة بين المجتمعين السياسي والأهلي. ولقد صار متعذراً على الفرد الإسرائيلي أن يميز من يمثله سياسياً وطبقياً واجتماعياً. ويسود شعور عام بأن ثمة ما يشبه عملية فساد حقيقية في التمثيل السياسي، وذلك من دون أن يدرك الرأي العام الأسباب المباشرة الكامنة وراء عملية الفساد هذه. بل هنالك من الإسرائيليين من يتحدث عن احتضار فعلي للحلم الاجتماعي.. ومنهم من لفت إلى أنها المرة الأولى منذ سنوات، لا يوجد في المشهد السياسي الإسرائيلي كله حزب واحد يمكن القول فيه من دون تردد انه يمثل الفقراء ويخوض حروبهم. وهذه الإشارة المهمة والخطيرة في آن لا تعكس ظاهرة عابرة، وهي إن دلت على أمر فإنها تدل على مؤشرات توتر اجتماعي عالي الوتيرة.. مثلما تدل على بدايات صراع طبقي من نوع جديد، ولا سيما بعدما دخلت "إسرائيل" في رحاب عالم التخصصية اللامتناهي.‏

وما يقلق الخبراء الإسرائيليين أن شرائح اجتماعية واسعة ممن تقع تحت خط الفقر، لا تشارك المجتمع والدولة والقيادة السياسية الهموم والقضايا الكبرى. فهذه شرائح غير قلقة مثلاً من سقوط الأسهم في البورصة لأنها لا توظف أموالها في بنوك التنافس. كذلك فإن الازدحام على الطرق لا يقض مضاجعها، لأن وسيلة مواصلاتها الحافلات العامة وليست السيارة الخاصة.. إلا أنها تقلق عندما ترتفع أسعار الحليب والألبسة الضرروية من دون أن يساورها أي قلق جراء ارتفاع ثمن تذكرة السفر إلى نيويورك أو أي بلد أوروبي آخر..‏

إن ظاهرة كتلك تثير لدى الخبراء وأساتذة علم الاجتماع احتمال نشوء حال من اللاإنتماء في صفوف الطبقات الدنيا في المجتمع الإسرائيلي. علماً بأن هذه الطبقات هي التي شكلت أساساً تاريخياً وقواعد ارتكاز للأحزاب الصهيونية الرئيسية. والشيء اللافت في الظاهرة أنها واسعة الحجم قياساً إلى حجم الطبقات والشرائح الاجتماعية في "إسرائيل".. فجمهور الفقراء هؤلاء يُعد بمئات الآلاف، وقد جاؤوا من بيئات ومنابت وأصول مجتمعية مختلفة، لكنهم يتوحدون على ما يبدو على خط شظف العيش وقساوة الحياة. والمعروف أن حزب العمل الإسرائيلي كان لفترة طويلة نسبياً يمثل هذا الجمهور تمثيلاً لا لبس فيه من ناحية توفيره ظروفاً أفضل له، ولا سيما عبر منظومة الإنتاج الجماعي على المستويين الزراعي والصناعي، ناهيك عن مؤسسات الهستدروت التي يبدو أنها تحولت إلى عالم الخصخصة في صورة مروّعة. وهكذا فإن وجود حزب العمل في الحكم وانخراطه في مهمة الاحتفاظ بالسلطة في وجه الليكود اليميني المتشدد، جعله ينتقل شيئاً فشيئاً إلى صفوف طبقات البورجوازية الجديدة في الأحياء الشمالية والضواحي المترفة. وبعد ذلك بدا لسنوات غير قليلة أن مهمة الاهتمام بالطبقة العاملة انتقلت إلى حركة حيروت. وقد يكون أحد أبرز العوامل التي دفعت هذه الحركة إلى القبض على السلطة في السبعينيات هو دعم جمهور الطبقات الدنيا، فلقد كان حزب حيروت، وهو العمود الفقري لليكود، خليطاً متنافراً من الأغنياء والميسورين والمحرومين، ومن الأشكنازيين وأبناء الطوائف الشرقية.. وكان يجمعهم الولاء العام لفكرة "أرض إسرائيل الكاملة"، والإعجاب بشخصية الزعيم. في حين كانت قاعدته الحزبية والانتخابية منذ البداية، وأصبحت أكثر فأكثر بمرور الوقت مشكَّلة في أغلبيتها من أبناء الطوائف الشرقية المتدنية الدخل والثقافة والمكانة الاجتماعية.. بينما كانت زعامته أشكنازية تضم في صفوفها عدداً من كبار الأغنياء. وإذا كانت شخصية مناحيم بيغن الكاريزمية غطت فترة معينة على التناقضات وحالت دون بروزها، فإن اعتزاله الحياة السياسية عام 1983 وضع الحزب في العراء. ومنذ تسلم اسحق شامير الزعامة "حيروت" في دوامة من التناقضات لم يعد ذاك الممثل الطبقي والاجتماعي لشرائح وطبقات متنافرة. كما لم يعد الحزب المتماسك والمتين ومنضبط الصفوف. ولم يكن الانشقاق الذي قاده زعيم التيار الشرقي المتشدد دافيد ليفي سوى تتويج لحال التداعي في أهم وأكبر حزب يميني في "إسرائيل"، إلى درجة أن بنيامين نتنياهو قال عشية تسلمه مقاليد الزعامة الحزبية في بداية التسعينيات واصفاً أحوال التكتل: "الليكود يدار حالياً كما تدار شركة بكفالة محدودة".‏

التطور السلبي في صدقية تمثيل حزب حيروت لشرائح واسعة نسبياً من جمهور الفقراء بدأ سياسياً عندما عقد الحزب قرانه على حزب الأحرار، فمنذ هذه اللحظة ساد انطباع لدى الرأي العام "أن الحزب تنكر فعلياً لتوجهاته الاجتماعية، وأصبح على غرار حزب "مباي" ـ حزب عمال "إسرائيل"، الإطار التنظيمي السابق لحزب العمل ـ حزباً يمثل الطبقة البورجوازية.‏

كان هنالك عدد من الورثة المحتملين لهذه المهمة: حزب مبام على سبيل المثال، قبل أن يحوله شركاؤه البورجوازيون في حركة ميرتس بشكل تدريجي إلى حزب لا حول له ولا قوة على الصعيد الاجتماعي. كذلك كانت حركة "شاس" في بداية طريقها حزب الشرائح الفقيرة والمعدمة. ولكن منذ أن فتحت أمامها الطريق إلى "حنفيات" الميزانيات العامة، نسيت غاياتها الأولية وتحولت إلى حركة "سمينة" ولا مبالية على غرار الآخرين.‏

جدلية الثقوب السوداء‏

منذ بداية التسعينيات كانت كل تقديرات الخبراء الإسرائيليين تميل إلى شيء من التيقُّن بأن مئات الآلاف من الإسرائيليين المعدمين سيتحولون الى طبقة اجتماعية متراصة في الأمد المنظور، ولا يؤدي الانهيار المتدرج للطبقة الوسطى بفعل ولوج الاقتصاد الإسرائيلي مطحنة "العولمة" والسباق المحموم لحركة رأس المال المالي، إلا إلى نمو واتساع طبقة جمهور الفقراء. وهذا سيؤدي بدوره إلى اضطرابات جذرية في تشكل الخارطة الحزبية والسياسية في "إسرائيل". ومع ذلك فإن الاتساع المطرد لمحرومي المجتمع الإسرائيلي هو اليوم من دون صدى حقيقي، مثلهم مثل الأيتام، حيث ليس هناك من هو على استعداد لتبنّي قضاياهم، أو لأن يكون محسوباً عليهم، فهم لا يشكلون شريحة اجتماعية أو سياسية محددة، إنهم على حدّ تعبير علماء اجتماع إسرائيليين أشبه بـ"بقعة بيضاء في الخارطة السياسية"، ذلك أنهم غير ممثلين في الكنيست ولا في صفوف الحكومة أو المعارضة، وهم قادرون على ترجيح الكفة في (الانتخابات) في هذا الاتجاه أو ذاك. وعلى أي حال لا يبدو أن الأحزاب الإسرائيلية ستظل على لا مبالاتها تجاههم، بل على العكس فإن لحظة الحاجة إلى تلك المساحة الواسعة من جماهير المقترين ستشهد سباقاً مرتفع الحرارة باتجاه استقطابهم.‏

إن ولادة طبقة مكتملة الصفات من معدمي المجتمع الإسرائيلي آخذة في الظهور، ولسوف تأخذ مواصفات استثنائية حين تتشكل كطبقة سياسية تدفع بممثليها السياسيين الطبيعيين إلى واجهة الصراع. ولهذا التطور أثر بيّن وحاسم في ثوابت لا تزال تفعل فعلها كعناصر تأسيسية في بيئة دولة "إسرائيل"، منها على الأخص الإجماع القومي القاضي بتكتيل الطبقات الاجتماعية حول القرار الاستراتيجي لسلطة الدولة. وفي تقدير المتابعين للوضع الاجتماعي الإسرائيلي في زمن السلام مع العرب، فإن الاستقطابات الطبقية ستأخذ مَدَيَاتها، ولن يخفف كثيراً من آثارها السلبية قوة وشأن الدولة المركزية. لقد واجهت المجتمع الإسرائيلي منذ البداية القضايا ذاتها التي تواجهها المجتمعات الاستيطانية كافة، وهي: تأمين الهجرة الدائمة والاستيطان والأمن في بيئة معادية. وهذه القضايا تؤثر في صفات المجتمع وطبيعة الدولة ونوع المؤسسات التي تميز هذه المجتمعات. والمجتمع الإسرائيلي لا يختلف عن المجتمعات الاستيطانية إلا في بعض الصفات التي تميزه بسبب الأوضاع الخاصة التي أقيم فيها، وتغير أشكال الصراع القومي وطبيعته (...) إن أكثر ما يميز النظام في "إسرائيل" هو المركزية، فالنظام السياسي نظام مركزي قوي جداً برغم كونه "ديمقراطياً برلمانياً": إذ إن التعبير ـ السياسي ـ عن الديمقراطية لم يتعد القيود التي وضعها النظام ولا قواعد اللعبة "الديمقراطية" كما قررها، من حيث أساليب التنافس السياسي وموضوعات النقاش والفئات التي يُسمح لها بأن تشارك فيه (...) وقد استطاعت الحكومة المركزية في "إسرائيل" أن تفرض هذا النظام بسبب القوة العظيمة التي ركزتها في أيديها. فهذه القوة نتجت من استيلائها على موارد اقتصادية هائلة، وتجديد العلاقة بين الأحزاب والتنظيمات السياسية في البلد وبين الجاليات اليهودية في الدول الغربية، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية (...) لقد برّرت صفة المركزية دائماً نتيجة لحتمية الصراع السياسي وللخطر الأمني الناجم عن عداء الدول العربية لها، لا سيما أن الصراع اكتسب شكل النزاع بين دول بعد سنة 1948. وقد كان لهذه المركزية آثار عميقة على طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة، وعلى نوع ودور المؤسسات التي توسطت بينهما، وطبيعة العلاقة بين هذه المؤسسات وأفراد المجتمع.‏

ومنذ السنوات الأولى التي أعقبت تلقي المجتمع الإسرائيلي للسلام، أخذت التبدلات تظهر في الخارطة السياسية والحزبية، وبدأت ملامحها تبرز بقوة لافتة في أوساط الطبقة الصاعدة من "المعمدين". وفي المجتمع السياسي من راح يحث الخطى نحو تأليف وحدات سياسية داخل الطبقة المشار إليها، ومن هؤلاء مثلاً عضوا الكنيست إيلي دايان ورافي أوري اللذان تمردا على حزب العمل أواسط التسعينيات. وهناك سياسيون آخرون سال لعابهم لقطف الثمار المرجوة مما يكمن في هذه الطبقة من طاقات، مثل دافيد ليفي وعضو الكنيست آرييه درعي الذي يتذكر بشوق وحنين ما كان يجب أن يكون عليه حزب "شاس" قبل أن يتحول إلى مجرد حزب آخر متزمت دينياً.‏

إن ما يجمع هؤلاء وسواهم ممن يبحثون عن موطئ قدم جديد في الحياة السياسية الإسرائيلية، هو أنهم لا يزالون يؤمنون بأن بؤر البؤس الاجتماعي لا تزال قادرة على إنتاج حركة احتجاج سياسي، وأن بالإمكان تحويل تلك البؤر إلى حقول للحيوية السياسية من أجل بناء مجتمع سياسي جديد في "إسرائيل".‏

ماذا لو انفجر صراع طبقي جديد في "إسرائيل" في الوقت الذي اضمحلت فيه أيديولوجية "الدول الطبقية"؟ المفارقة الكبرى هي أن الطبقات تعود إلى ذواتها لتنتج نفسها من جديد، بينما تذوي أحزابها ودولها في نهايات لا قرار لها..‏

(*)كاتب من الأردن‏

2006-10-28