ارشيف من : 2005-2008
"الشيحوية" العائدة على صهوة التقليد!

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1130 ـ 7 تشرين الاول / اوكتوبر 2005
محمود حيدر(*)
كلما حلّ على اللبنانيين سؤال التسوية الداخلية، استأنفوا جدلاً عظم شأنه واتسع مداه حول صيغة الجمع في ما بينهم.. وفي كل مرة ينعطف اللبنانيون فيها نحو ذلك السؤال، كان فيلسوف الصيغة ميشال شيحا يحتل مساحة بينة في ثقافتنا السياسية، حتى ليكاد ذلك الفيلسوف المستعاد يؤلف بين أطياف لبنانية خالف بعضها بعضاً في ما اجتهدت فيه، وكان لها ان تعود لتأتلف على "فضيلة التقليد".
اللحظة اللبنانية الجارية وإن اكتست بطبقات الغموض الكثيف، لم تخلُ من النقاش على "الشيحوية" وكلماتها وتوجيهاتها. فلقد بدا واقع الحال كما لو ان "التسوية التاريخية" المأمولة لن تحيد عن تلك الكلمات والتوجيهات. لكن فلنرَ ماذا في فلسفة ميشال شيحا اللبنانية..
نظّر ميشال شيحا للبنان، فرفعه الى مقامين يبدوان متفارقين في شدة. أولهما مقام الأسطورة، حتى ليظنّ القارئ أنه بإزاء بيت مشيّد بالشعر، أو حيال مكان جيو ـ ميتافيزيقي لا يشبه أمكنة الدنيا ولا تشبهه هي في شيء.
وثانيهما مقام الموضوع، حتى يكاد المرء يحسبه سياسياً من طراز ماكيافيلي أو هوبز، على الطريقة اللبنانية المركنتيلية التي عودنا عليها سياسيو اللعبة منذ الاستقلال الى ما بعد الطائف.
كيف لهذا التفارق أن يجمعه جامع لولا أننا أمام فقيه سياسي اشكالي دخل اللعبة من غير استئذان، فأبدع لها "سيستاماً" استظلت به فهنأت، وإن هي ضلّت بسببه، فكان لنا من الضلال الحصاد الأليم. هذا المفكر المسيحي الكلداني الذي جاءت عائلته من العراق، سيكون سكرتير اللجنة التي وضعت مسوّدة الدستور اللبناني عام 1926. وكان من أبرز المخططين الرئيسيين للبنية السياسية والاقتصادية اللبنانية بعد الاستقلال. فهل كان بهذا يفارق الميتافيزيقا ليدخل الى ثنايا المكان الذي حلّ فيه ليضع بين يديه ناصية أمره؟
غالب الظن أن لا، فلبنان بالنسبة له "بلد الحلم والواقع معاً". كأنما تريد فلسفته أن تقيم لمدينته الفاضلة سياجاً من عقل يحميها من مواتٍ أكيد. ولذا راح يبيّن منذ العام 1942 ان الديمقراطية هي الصيغة الوحيدة التي تلائم لبنان، ويقول: "لا بد من مجلس يكون مركز التقاء وتوحيد للطوائف في سبيل إشراف مشترك على الحياة السياسية في الأمة. فحين يُلغى المجلس، يُنقل الجدل حتماً الى المحراب أو الى ظلّه، فتتأخر بالتالي مسيرة التنشئة المدنية.. فـ"لا يناسب لبنان ركوب الرأس ولا مركب الانقلابات.. عليه أن يتجنب الطغيان وسيطرة البعض على البعض الآخر، وكل أنواع الاضطرابات".
العقل الذي دعا شيحا اللبنانيين اليه والاعتصام فيه من كواره الزمن، هو المنجز الفلسفي ـ السياسي الذي سيؤلف بينهم ويدبّر لهم أمر اجتماعهم وتوحدهم. وبعد هذا فهو (المنجز) الذي يصون الألفة من الفرقة، والتوحد من الانشطار والتشظي. وهو المنجز الفلسفي ـ السياسي نفسه الذي آل الى أن يكون دستوراً في العام 1926، وميثاقاً وطنياً حُمل عليه الاستقلال عام 1943.
لقد رسمت "الشيحوية" ماهية بلدٍ عجيب تركب على الكثرة، بعدما صارت الكثرة تقليداً، وصار التقليد سلطة معززة بالقانون، راحت تؤمن للبلد أمنه وثباته، فتعصمه من التذرر والانفراط. كان ميشال شيحا مؤمناً بأن لبنان "بلد يجب أن يدافع التقليد عنه ضد العنف". كما أنه وعى مبكراً فرضية التناقض بين الطوائف، فأراد أن يؤسس لمنطق ينزع من الاجتماع السياسي العتيد عوامل انفجاره. إنه المنطق الذي راح يستولد من قضية متناقضة نتيجة مستقرة،
أَنَجَحَ في ذلك أم لا؟ فهذا سؤال تبدو الإجابة عنه غير مفارقة لتاريخ طويل من القضايا الخلافية بين اللبنانيين. فلا يزال الى يومنا ثمة ما يشبه حرباً فكرية باردة بين اجتهادين متفارقين، غالباً ما يبتعثان الضجر:
الأول: ان لبنان كرّمته السماء فعرضت عليه طوائفه، فكان بها وجوداً أصيلاً، فصارت علّته الفضلى. بها يقوم ويترقى ويدوم وطناً لأهله المختلفين المتحدين على عشق لا يزول.
والثاني: ان لبنان قد لعنته الحتميات التاريخية، فخلعت طوائفه عليه لونها المخصوص، وراحت تنزع منذ أول التقاء على أرض السياسة، الى قطع الوصل وإقامة الحد، أو العيش آمنة داخل أحيائها المغلقة. فإن لبنان هذا على رأي أهل الاجتهاد هذا، ليس غير ماهية مخصوصة بالفقر، لا منعة له بإزاء الاضطراب، فهو مقيم على قلق طوائفه، إما لعلة في ذات كل واحدة منها، كما لو أن شعوراً يسكنها بأنها مغدورة من أخواتها اللاتي يشاركنها باب الدولة العالي، أو للعبة في ما بين الأخوات المتشاركات كلهن، أفضت الى ثنائية الخوف والغبن.. فترتب على هذي الثنائية من آثار الشؤم ما لا يطيقه الطبع.
ولو أن كلاً من الاجتهادين المنقضيين قد هبطا الآن الى ما تحت الحد الذي يسمى اتفاق الطائف، فهما لا يزالان على النشأة نفسها، يستنظران الوقت ربما لأجل ان تبترد "المقولة الأمنية" عنده، فلا يعود ثمة سبب يُبقي "السجال اللبنانوي" مخفياً وراء حجاب.
"الشيحوية" المستأنفة
لم يقصد الكلام على "الشيحوية" العائدة إخباراً عاجلاً عن عودة خطابها الأيديولوجي. ربما أريد بهذا إجراء استقراء منطقي للصيرورة التي جرى عليها تركيب الدولة والمجتمع السياسي الاقتصادي بعد الحرب. وهذا هو المرجح، ما دام الزمن السياسي اللبناني الجديد قد أخذ على نفسه مفارقة الحرب بما هي انقلاب دموي على الصيغة بالعودة الى الصيغة عينها. ولقد كانت العودة حادة وحارة وشغوفة.. فإذا الهيئة السياسية صاحبة الأمر، تأتي الصيغة بروح ظافرة منتصرة كما لو كانت معها على قَدَرٍ. وهي في أغلب شخوصها "وزعمائها" من أولئك الذين رفعوا شعار إسقاطها كخلاص نهائي للبنان وأهله وبناء دولته الحديثة.
ولقد تحقق للصيغة عودتها مع استعادة اتفاق الطائف وحفظه عن ظهر قلب، وبدت الصورة اللبنانية كما لو كانت لوحة أيديولوجية لا يُقصد منها إلا التبرير أو دفع الحجة بالحجة، أو إضفاء المشروعية السياسية على أفرقاء اللعبة اللبنانية المتجددة. وهكذا كان الأمر عوداً على بدء، وسيكون لنا من أمرنا مثل: فالدولة في زمن ما بعد الانقلاب على التقليد، قيّض لها دور ينبغي ألا تكون سواه: محطة لاستقبال محاربي الطوائف ثم احتوائهم بحسن نية، لا قهر فيه ولا إكراه. وما شاع من إكراه في الأيام الأولى لـ"الما بعد" إن هو إلا تعبير عن الدخول الصعب في رحلة التكيّف. فما جرى، جرى مجرى النظام العام ومقتضاه في لبنان ومحيطه القريب والبعيد. والذي حصل في "أحياز" السلم الداخلي كلها، لم يفارق أهواء الداخلين في رحلة التكيّف، ولا هو جاء عكس ما يشتهون. أخذت الدولة الجديدة التي تولى أمرها المحاربون تفتح أذرعها "لحداثويي" الطوائف، في الاقتصاد والمال والسياسة والثقافة، لتصير مستوعبهم بعد قليل، لتصير القميص الذي يلبسونه بشغف ومسرّة.. ثم راحت الأفكار والأحلام والآمال تصاغ وتُستكتب بلغة الماضي السعيد، وعلى نحو ما نشأ عليه البلد أول مرة.
لا شيء تبدّل في ماهية السلطة الطوائفية التي حفظت الكيان، ثم كانت سبباً في تقويضة غير مرة. ومع ذلك ففي الأسئلة المحتجبة اليوم أو في تلك التي تتهيأ للظهور، عودة الى الكلام على "الشيحوية" من دون استئذان. كما لو أن المنطق اللبناني الشائع يفترض المماهاة مجدداً بين ماهية البلد ورؤى ميشال شيحا. وبعد الحرب بانَ لنا المشهد على أتمّه، حيث ذهبت النخب الى استعادة هذه الرؤى لبناء دور ووظيفة للبنان جديدة. وكل هذا ضمن توليف مزعوم من العقلانية الصارمة بين الأيديولوجيا الطوائفية والمال.
لقد ابتعثت أزمنة الحرب وما بعدها حنيناً للتقليد، ثم لم يلبث هذا الحنين ليستحيل شيئاً فشيئاً قوة تدفع ببلد مثقل بالأتعاب الى فضاء "النيوليبرالية" اللامتناهي. مثلما راحت تنشئ الدولة وأحكامها على السيرة الأولى متماهية مع "العولمة"، وفاتحة باب التفاؤل على القرن المقبل.
كان ميشال شيحا يعتز ويطمئن الى كونه أبدع للبنان نظرية لاستقراره وازدهاره، هي نظرية الاعتصام بالتقليد اجتناباً للعنف والحروب الأهلية. وساد ما يشبه الاعتقاد بأن طوائفية هذا البلد هي علّة وجوده، ولا صلاح إلا بها وعليها ومن خلالها. كأن لنا حداثتنا المخصوصة لو نحن صنعناها من وئام الطوائف وحسن ظنها بنظامها القديم. وكان ثمّة من ـ وما ـ ينبهنا على الدوام، أن كونوا على حذرٍ من عنف واحتراب ولو بعد حين، إن أنتم مسستم التقليد أو ألحقتموه بضرر.
يتساءل كمال الصليبي في ختام الفصل التاسع من كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، وهو على شيء من عدم اليقين، عن فرص النجاح التي كانت متوافرة أمام رعاية عقلانية للتقليد في مجتمع لا يلتزم فيه الجميع في الدرجة نفسها بالعقلانية، وفي وقت أعطيت فيه حتى للعقلانية تفسيرات سياسية مختلفة..
لعل شيحا كان مهموماً بالفعل بمثل هذا التساؤل، إلا أن قدَرَهُ لم يسعفه ليتبين له الحصاد المرير، فها هو العنف ينفجر آخر الأمر ويطيح بالتقاليد التي كان لها وحدها في رأيه، أن تحافظ على المثالية الفينيقية المتصورة.
لكن الصليبي يعود ليمنح شيحا حقه في "أنه كان على حق" ـ ولو لوقت معلوم ـ حتى رأى أن احتمال العنف الكامن في لبنان لا يمكن احتواؤه إلا بالرأي السياسي الصائب. ولسنا ندري إن كان من فَتَحَ باب الخروج من الحروب قبل نحو عشر سنين في الطائف قد استمسك بالرأي الصائب. غير أننا على يقين أن من أدخلنا في نعمة مغادرة الحرب، ما فارق التقليد "الشيحوي" في شيء، وما مسّه بسوء.
هل نقول إن ميشال شيحا قد عاد بعد أكثر من نصف قرنٍ لبنانيٍّ من الحروب الباردة والساخنة؟
انه يعود اليوم على صهوة التقليد الذي رفعته الطوائف الى مقدّس، غير أن السؤال يبقى على أحواله الماضية مع جرعة زائدة من التعقيد، حول ما اذا كانت الشيحوية وفلسفتها ودعواها الى التقليد لا تنفك تنعقد على فضيلة التسوية التاريخية..
(*) رئيس تحرير "مدارات غربية"