ارشيف من : 2005-2008
استراتيجية محروسة بالأكاذيب!

الانتقاد/ قضايا واتجاهات ـ العدد 1133 ـ 28/10/2005
محمود حيدر(*)
أكثر ما يحل اللاهوت السياسي الاميركي على الغبطة، حيث يجد من مأثورات الحداثة، ما يبرر له أفعاله، ويضفي عليها صفة المشروعية. ومع صعود المحافظين الجدد سيأتي من يستعير من موروث الحرب العالمية الثانية، ما يؤدي قسطاً من هذه المهمة. كان على وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وهو ينشئ ذرائعيته لحرب العراق، ان يتذكر هذه الكلمة الشهيرة لونستون تشرشل قالها الأخير في العام 1944، "ان الحقائق الاستراتيجية تحتاج في كثير من الأحيان لأن تكون محمية من جانب حرس من الأكاذيب".
هذه المأثورة، التي ستتحول في الثقافة السياسية للمحافظين الجدد، الى ما يشبه الأطروحة، ليست بعيدة عن فلسفة التبرير الذي هو سمة راسخة في التاريخ الاميركي. وهو ما سيُظهر لنا بما لا يقبل الغموض، الطريق الذي تمتزج فيه الأكاذيب السياسية بالحقائق الاستراتيجية.
كثيرون ممن يأخذون بهذه الاستعارة الذرائعية، هللوا لرامسفيلد على كشفه الجديد، لكن بالنسبة لناقديه، سواء في واشنطن أو في بقية عواصم الغرب، فإن هذه الاطروحة تستثير تاريخ الفلسفة الحديثة أكثر مما تستثير تاريخ الحرب العالمية الثانية.
مع ذلك، فإن الأخذ بها من جانب فريق جورج دبليو بوش، يجري على سبيل دفع الحجة، بعدما بلغ سيل الانتقادات والتهم حداً غير قابل للتراجع، ففي خلال الأعوام التي تلت سقوط بغداد شاعت عبارة "حرس من الأكاذيب" للتدليل على دور الأجهزة الاستخبارية والاعلامية، في اقناع الرأي العام بدوافع الحرب، وتبرير نتائجها برغم موجات الاستنزاف والخسائر التي يتعرض لها جيش الاحتلال سياسياً وعسكرياً ومعنوياً.
لقد امتلأت الفضاءات الاعلامية بما لا حصر له من الوثائق والصور والمعلومات حول وجود اسلحة الدمار الشامل، وحول علاقة نظام صدام حسين المنهار بتنظيم القاعدة وبأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، لكن سيأتي بعد اسابيع قليلة من داخل مراكز القرار في الولايات المتحدة من يرى الى كل ذلك على أنه محض أكاذيب، وسيمضي المفكر والباحث الفرنسي اوليفييه روا Olivier Roy ليلخص قناعات واسعة في الرأي العام الغربي، بالقول "ان اهداف الحرب التي اعلنت عنها واشنطن لا يظهر فيها اي تماسك منطقي، اما أفضل الحجج الفكرية الدافعة للحرب فهي كانت على العموم التكتم والنكران"..
سعت ادارة المحافظين الجدد الى توسيع دوائر التضليل تحت شعار "الاتحاد من اجل السلام". ومؤدى هذا الشعار الذي يطوي في ثناياه آليات مبتكرة من الديماغوجية السياسية المحكمة، هو اعادة انتاج قناعات لدى الجمهور الاميركي تبرر الانتقادات الحادة من قبيل "بوش يكذب" او "هناك اميركيون يموتون". صحيح أن هذه القضية بمجملها أثارت مسألة أخرى متصلة بسابقتها، الا أنها قد تكون أكثر اختلافاً أيضاً، وهي الجذور الفلسفية للايديولوجيا التي تقف على رأس "الثورة المضادة البوشية"، وكما يقول الباحث الكندي جون .ج. ميسون John.G.Mason من انه اذا صار من المستحيل تجاهل الصلة بين التشويه الاعلامي الاستراتيجي والحقيقة السياسية، فسيكون عدم القلق أكثر صعوبة حيال الدروس التي يلقنها ليو شتراوس Leo Strauss لحلقته الصغيرة البارعة المؤلفة من تلاميذه القدامى الذين يحتلون اليوم مراكز القرار في واشنطن.
يجمع مؤرخو الممارسة السياسية الاميركية على وجود شغف لافت لدى قادة الولايات المتحدة، قوامه صناعة الأكاذيب، وتشكيل حرس من المفكرين والاعلاميين ومراكز الأبحاث لتسويغها وتسويقها، بهذه الدالة غدت الولايات المتحدة في قلب عولمة متطلبات التبرير ـ كما يلاحظ آريال كولونوموس ـ فالدولة الاميركية هي وريثة تاريخ طويل في المجال "الأخلاقي". وطبقاً لتاريخها "الطهراوي" الذي أضفته عليها البروتستانتية الزهدية، حرصت على الاضطلاع بدور "منارة الانسانية" على حد التعبير الذي استخدمه جون فوستر دالاس في الستينيات. وفي مرحلة متأخرة في صعود قوى لتلك النظرة المثالية المتجددة.
ولئن كانت النزعة التبريرية سمة مميزة للاستثناء الاميركي، فهي ظاهرة دولية عامة، بل هي مطلب دولي تفترضه شروط الهيمنة الجيو ـ استراتيجية.
في اثناء الحرب الباردة كانت مصلحة اعضاء الكتلة الواحدة تكمن في التغاضي عن اخطاء حلفائها للحفاظ على مصالحها المشتركة، ومنع الكتلة الثانية من استغلال خلافاتها.
اما الآن فإن الظهور البيّن للمجتمع المدني أرغم الدول والمؤسسات على تقديم حسابات حيال أشكال الرقابة الجديدة هذه، وأصبحت معارضة المجتمع المدني ذات صفة عالمية وميزة للتعددية الليبرالية. فلقد وُضعت بواسطة هذه الرقابة، دول كثيرة في قفص الاتهام، بسبب موقفها تجاه العديد من الجماعات المتضررة التي كانت ضحية لسلوكياتها.
اما بالنسبة لأميركا على وجه الخصوص فقد اتخذت ايديولوجية التبرير لديها مناخاً استثنائياً، وذلك طبقاً للمنسوب العالي جداً من ايديولوجية الهيمنة. كثيرون من مؤرخي سياسة اميركا الخارجية حللوا المسارات الاخلاقية لهذه الدولة، فأدرجوها ضمن استمرارية هيمنتها.
من هؤلاء المؤرخ تومي سميث، الذي ذهب في طرحه الى حد اعتبار ان "الويلسونية"، وهي تصور اخلاقي لسياسة تتطلع الى جعل العالم ديمقراطياً، تشكل الخيط الأحمر في تاريخ اميركا للقرن العشرين، وبحسب سميث ان الرئيس رونالد ريغان برغم كونه من المحافظين، في حين كان ويلسون ديمقراطياً، ومن انصار القوة والسياسة المتشددة تجاه الاتحاد السوفياتي، كان خير مثال على حداثة هذا الموروث، ثم جاء جورج دبليو بوش ليؤكد هذه الاطروحة. أما خلال رئاسة كلينتون فقد استوحى القادة الاميركيون دوراً مباشراً من الاخلاقية الزائفة ليمنحوا اميركا صفة "القوة المهيمنة الخيّرة" مع حرس هائل من الأكاذيب أيضاً وأيضاً..
(*)رئيس تحرير "مدارات غربية"