ارشيف من : 2005-2008
بين التوافق والتصويت/ دراسة قانونية

د. محمد طي(*)
يدور النقاش اليوم بعد تعليق عدد من الوزراء مشاركتهم في أعمال الحكومة حول حقهم في هذا التصرف والموقف القانوني منه.
ويذهب فريق من السياسيين ويجاريهم بعض الحقوقيين الى ان أي طائفة أو فريق سياسي لا يمتلك حق النقض (الفيتو) في مجلس الوزراء، وأنه في الأمور المهمة عندما لا يمكن التوافق، يجب أن يُلجأ الى التصويت ، ويجب أن يحصل القرار على أكثرية الثلثين.
ان هذا الكلام يتجاهل عدداً من الأمور الأساسية في القانون، كما ينطلق من تقييم قابل للجدال في موضوع الوقائع.
ونحن نبدأ هنا بالوقائع من أجل توصيفها لنرى بعد ذلك ما ينطبق عليها من القواعد الحقوقية، وهذا أمر منطقي في العمل القانوني.
الوقائع:
ان الخلاف يدور حول المطالبة بمحكمة دولية أو ذات طابع دولي، لمحاكمة من سيظن بهم في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
فماذا يشكل هذا الأمر؟
أول ما يشكله هو تجاوز السلطة القضائية اللبنانية ونقل الولاية منها الى قضاء آخر، وهو ما يناقض المادة 20 من الدستور اللبناني التي تنص على أن "السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها"..
وهنا لا بد من ملاحظات:
1 ـ المحاكم هنا هي بطبيعة الحال المحاكم اللبنانية، وليست غيرها، لأنه لو كان المقصود هي وغيرها لانسحب الأمر على باقي السلطات، في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأصبح ممكناً أن تكون أي منهما لبنانية أو غير لبنانية أو مختلطة.
2 ـ إذا أمكن للسلطات أو أي منها أن تكون لبنانية أو غير لبنانية، يفقد الوطن استقلاله وسيادته، لأن سيادته سيادة كل سلطاته وسيادة كل منها، وهنا لا تقل السلطة القضائية أهمية عن أي من السلطتين الأخريين التشريعية والتنفيذية.
3 ـ اذا مست سيادة لبنان واستقلاله، فإن البند الأول من مقدمة الدستور يكون قد تعطل، وهذا خرق غير جائز تحت أي ظرف، لأنه ليس بنداً قانونياً وحسب، بل هو أساس وجود الوطن بمقوماته، وعلى كل من يستطيع مقاومته أن يتحرك لمنعه.
وإذا عدنا الى المادة 65 من الدستور، فإننا نقرأ في فقرتها الخامسة ما يلي: "يجتمع مجلس الوزراء دورياً في مقر خاص، ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر، ويكون النصاب القانوني لانعقاده أكثرية ثلثي أعضائه، ويتخذ قراراته توافقياً. فإذا تعذّر ذلك فبالتصويت، ويتخذ قراراته بأكثرية الحضور. أما المواضيع الأساسية فإنها تحتاج الى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها.. ويعتبر مواضيع أساسية ما يأتي:
تعديل الدستور، اعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة وطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، اعادة النظر في التقسيم الإداري، حل مجلس النواب، قانون الانتخاب، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية وإقالة الوزراء.
فإذا استعرضنا هذه "المواضيع الأساسية نجد أن بعضها يحتاج الى قانون دستوري أو عادي، في حين أن بعضها الآخر تقره الحكومة بمرسوم:
فما يحتاج الى قانون دستوري هو تعديل الدستور. وقد أحيط بشروط مشددة (م76 ـ 79 من الدستور).
وما يحتاج الى قانون عادي هو: اعلان حالة الطوارئ، اذ يجتمع البرلمان خلال ثمانية أيام ليقرر الاستمرار بها أو وضع حد لها، (مرسوم اشتراعي رقم 52 تاريخ 5 ـ 8 ـ 1967).
الحرب والسلم، ذلك أن هناك فرقاً بين الحرب الدفاعية والحرب الهجومية، ودور البرلمان أساسي وقبلي في الحرب الهجومية في كل أنحاء العالم المتمدن.
الاتفاقات والمعاهدات الدولية: وهي تحتاج الى موافقة البرلمان: بعضها من أجل إبرامها كالتي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة، والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، أما بعضها الآخر فإن الحكومة تطلع مجلس النواب عليها حينما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة (م 52 من الدستور).
كما يحتاج الى قانون: التعبئة العامة، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة وطويلة المدى، اعادة النظر في التقسيم الإداري، قانون الانتخاب، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية.
أما ما يكفي فيه المرسوم فهو:
ـ تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها.
ـ حل مجلس النواب بشروط مشددة م 4/65.
ـ اقالة الوزراء.
فهل نقل الولاية القضائية من القضاء اللبناني الى قضاء دولي او ذي طابع دولي، الذي يفترض حسب سير الأمور أن يجري بعمل حكومي، من مستوى مرسوم، يمكن مقارنته بهذه المواضيع الثلاثة الأخيرة؟
إننا نعتقد أنه يتجاوزها بكثير، بل هو أمر يتجاوز ما يسمو عليها، لأنه أمر كما رأينا يناقض مقدمة الدستور في بندها الأول، كما يناقضها في بندها الأخير (ي)، الذي ينص على أنه: "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"..
فما هو مستوى ميثاق العيش المشترك؟
ان هذا المستوى مستوى تأسيسي في إقامة الوطن نفسه، وهو يسمو على الدستور نفسه، لأن الدستور يخضع لميثاق العيش المشترك وليس العكس، فحيث لا توافق على العيش المشترك ـ وميثاق العيش المشترك هو ذلك التوافق ـ لا يقوم وطن، وإذا لم يقم الوطن فلا دستور.
وقد يقول قائل: ان الدولة التي ترتضي ان تخضع لقانون دولي تبقى مع خضوعها دولة سيدة، لأنها اختارت الخضوع بإرادتها الحرة كما يرى الكثيرون من الفقهاء.
إلا أنه اذا سلمنا بهذا الرأي، ونحن نسلم به، فلا بد من شرطين:
أولاً: ان تقوم بهذا سلطة مختصة صاحبة صلاحية، وقد وجدنا أنه في هذا المجال لا صلاحية للحكومة.
ثانياً: حتى اذا توافرت هذه السلطة، وهي لن تتوافر، لأن الأمر فوق المرسوم وفوق القانون بل وفوق الدستور ـ اذا سلّمنا جدلاً بتوافرها ـ فيجب أن تكون حرة لا خاضعة لإملاءات خارجية.
من كل ما تقدم نستطيع الجزم بأنه ما من سلطة تستطيع "تلزيم" القضاء في لبنان لأي جهة خارجية ولا حتى داخلية، لأن في ذلك لا خرقاً للدستور وحسب، بل لأسس قيام الأوطان نفسها.
(*) أستاذ جامعي