ارشيف من : 2005-2008
رؤية إسرائيلية لتجربة شارون في رئاسة الحكومة

هآرتس /ألوف بن/6/1/2006
الإنجاز الكبير لأرئيل شارون كرئيس للحكومة كان الاستقرار والسلطوية التي أظهرها تجاه الجمهور. خلال السنوات الخمس من ولايته حوَّل شارون نفسه إلى المحور المركزي في السياسة الإسرائيلية، وإلى رجل لا بديل عنه. انتخابه لرئاسة الحكومة في العام 2001 تحت صدمة الانتفاضة الفلسطينية، أعاد الهدوء دفعة واحدة إلى مؤسسة سلطوية هائجة ومحطمة.
والتجربة الغنية لشارون، اضافة الى البرودة التي يظهرها في الأوضاع الضاغطة، أقنعت الإسرائيليين بأن لديهم من يعتمدون عليهم. يُضاف إلى ذلك صداقته المتينة مع رئيس الولايات المتحدة، جورج بوش، التي منحت دعماً لشارون في مقابل الانتقاد العالمي القاسي.
الشعور أنه يوجد في قمرة القيادة سائق خبير ومسؤول أوصل شارون إلى ذروة التأييد الشعبي، ودفعه إلى نصر جارف في انتخابات عام 2003 واحتل موقعاً متقدماً بدون منافس في الاستطلاعات تمهيداً للانتخابات عام 2006. مكانته المتقدمة حافظ عليها حتى عندما قُتل مئات الإسرائيليين في هجمات "إرهابية" فلسطينية، وكان الاقتصاد مهدداً بالانهيار، وأيضاً عندما أخلى المستوطنين من غوش قطيف نال لذة دولية لم يعرفها من قبل.
شارون نزل عن المنصة بعدما أبقى خلفه تراثاً متداخلاً. فهو قاد ثلاثة مسارات مركزية: أعاد احتلال مدن الضفة الغربية ومحاصرة ياسر عرفات في المقاطعة، بناء جدار الفصل، وإخلاء 25 مستوطنة من قطاع غزة وشمال السامرة. بنجاحه في إخلاء المستوطنين بدون تمزق داخلي وتقريباً بدون عنف، كان نموذجاً للقيادات الوطنية، يمكن أن يشكل نموذجاً لكل خليفة مستقبلي.
شارون فوجئ بنفسه من قفزته الفجائية من الصحراء السياسية التي اعتُبر فيها رجلاً من الماضي، كرمز لاستخدام القوة اليمينية، إلى مكتب رئيس الحكومة في القدس. أمضى سنته الأولى في دراسة المنصب وفهم قيوده. كثيرون دهشوا آنذاك إن كان "يوجد لديه خطة" واستراتيجية لإنهاء الحرب مع الفلسطينيين، أو مجرد خزان من الخطوات التكتيكية والردود الموضعية. فقط في السنة التالية تجرأ شارون على مبادرة إرسال الجيش الإسرائيلي في عملية "السور الواقي" في الضفة، خلال ذروة العمليات الانتحارية في مدن إسرائيل. العملية نجحت في كبح، أو تبطيء، الموجة الإرهابية، ولكنها فشلت في حسم الحرب. عرفات ضعف لكنه رفض الخضوع حتى عندما انضم بوش إلى شارون في ندائه لاستبدال القيادة الفلسطينية.
"السور الواقي" ومحاصرة عرفات في المقاطعة كان استمرارا طبيعيا لسيرة شارون التي اتسمت باستخدام القوة، في الجيش والسياسة، مسجلا خلالها انجازات مثيرة للانطباع… الفرق الاساسي كان وعيه (شارون) بعد ان نجح في الصعود إلى القيادة، بأن سلطته مرتبطة بعنصرين: توافق داخلي ودعم اميركي.
كلا هذين العنصرين لم يتوفرا له عام 1982 وأديا إلى سقوطه في لبنان ودفعاه إلى الهامش السياسي. وعندما نال في نهاية المطاف فرصته المؤملة حافظ طوال الوقت على "البوصلة المزدوجة" داخل البيت وفي واشنطن. وفقط بعدما اتضح لشارون، بأن الإرهاب سيستمر حتى بعد العمليات الكبيرة في الضفة الغربية، وان إسرائيل ستواجه عزلة دولية وأزمة اقتصادية، عندها بدأ تحوله الكبير. الخطوة الاولى كانت موافقته على بناء جدار الفصل، الذي عارضه في البداية بقوة. على الرغم من نفيه وادعاءاته المتكررة ان الجدار مجرد "وسيلة اضافية فقط" ضد العمليات، فهم شارون بشكل جيد ان بناءه سيرسم الحدود المستقبلية لإسرائيل، وسيقود إلى انسحاب من أغلب الضفة الغربية.
ليس أمراً غريباً أن يكون شارون حاول نقل أكبر مساحة من الارض إلى الجانب الاسرائيلي، وأراد ايضا بناء جدار شرقي، يطوق التجمعات السكانية الفلسطينية في ظهر الجبل. وفقط بعدما وُوجه بمعارضة أميركية وبقرار معادٍ من محكمة لاهاي، تعلق شارون بقرار محكمة العدل العليا (الإسرائيلية) بهدف تحريك الجدار إلى مسار أكثر منطقية حول الكتل الاستيطانية، ارييل، معاليه ادوميم وغوش عتسيون. وتم إهمال الجدار الشرقي.
من الجدار تقدم شارون، خلال عام 2003 إلى قبول "خارطة الطريق" التي تقود إلى دولة فلسطينية، واعلن للمرة الأولى أن الاحتلال سيّئ لإسرائيل، وهو ما أثار ردوداً غاضبة في حزبه. بعد أن انهار مسار الخارطة وتواصلت العمليات وصل شارون إلى الحضيض في استطلاعات الرأي، بوش ابتعد عنه، انكسر الإجماع حول الحرب. وبدا شارون كقائد ذي أفكار بالية يفقد اتجاه المعركة.
حينئذ انتفض وتجرأ على إعلان ما خشي منه سابقوه: الوقوف بشجاعة في مقابل المستوطنين، وفي مواجهة شركائه السياسيين منذ زمن، وقال لهم آن أوان الانكفاء.
عندما أعلن عن فك الارتباط حدَّد شارون جدولا زمنيا لتنفيذ خطته خلال سنتين، لكن بدا ذلك في البداية كأنه محاولة تملص، ولاحقا اتضح انه طريق مسؤول وموزون. ولم يكن كإسحاق رابين وايهود باراك اللذين اعتقدا بالمفاجآت السياسية، فقد عوَّد شارون الجمهور الإسرائيلي، الفلسطينيين والمجتمع الدولي، على الفكرة بالتدريج. فهو قد فكَّك الألغام السياسية، أعد الجيش والشرطة، راكم الدعم، وعزل معسكر "الملوثين" الذين عارضوا الإخلاء. وفقط عندما حسم الصراع في الرأي العام توجهت القوات لإخلاء سكان مستوطنة نافيه ديكاليم، كفار داروم، نتساريم وهلم جراً…
الوصية السياسية لشارون غلَّبت أهمية الديمغرافيا على الطوبوغرافيا التي آمن بها في الماضي. في تصريحاته وخطبه الأخيرة سعى شارون لانهاء السيطرة على الفلسطينيين، وجمع إسرائيل داخل حدود جديدة اكثر قبولا من ناحية دولية تشمل "الكتل الاستيطانية" وحزاماً أمنياً في غور الأردن. خارطته للكتل تشمل ايضا الخليل وبيت ايل وعفرا والسلسلة الجبلية المطلة على مطار بن غوريون واستمرار السيطرة في شرقي القدس والجولان. ويعتبر هذا الامر اقل بكثير من الحد الأدنى الذي يتحدث عنه الفلسطينيون، وحتى من اجل الوصول إلى خطوط كهذه سيكون هناك حاجة إلى إخلاء عشرات آلاف المستوطنين من عمق المناطق.
ايضا عندما تحدث شارون عن "تنازلات مؤلمة" وعن انسحابات، حتى عندما نفذها بقي شارون شكاكا تجاه الجيران، وآمن بكلام والدته التي علمته ان "لا يصدقهم" (العرب)، والجملة التي ميزته كانت "لا تنسى المسألة تتعلق بالعرب".
بنظره العالم العربي لم يُسلِّم "بحق الشعب اليهودي بوطن واقامة دولة يهودية في وطنه ومحكوم على إسرائيل الصراع المتواصل، وربما الابدي، مع محيطها المعادي". حقوق الإنسان الفلسطيني لم تهمه حتى عندما دعا إلى إنهاء الاحتلال…
بالنسبة إلى "العالم"، خارج هذه المنطقة، مر شارون بتحول، ففي السنة الأخيرة اقترب من أوروبا التي وصفها في الماضي أنها معادية ولاسامية، وأقر بقدرتها على تأدية دور ناجع. زيارته في الصيف الماضي للرئيس الفرنسي جاك شيراك ومثوله في الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول، مباشرة بعد استكمال الانسحاب من غزة، أكسبته تعاطف القادة الذين نفروا منه في الماضي. في خطابه في الأمم المتحدة اقر شارون للمرة الأولى بحق الفلسطينيين بدولة. وحتى ذلك الوقت كان يصف الدولة الفلسطينية بأنها ضرورة نتيجة انعدام الخيار وليس كحق معترف به.
كسياسي اظهر قدرة مدهشة على السيطرة والمناورة، استهزأ بالنائحين، وأظهر انه يعرف قراءة خصومه جيدا. تجربته في الحرب علمته ان المنتصر هو من يسيطر على التلال التي يحتاجها لامتصاص (الهجمات) والرد على العدو بهدف هدر ذخيرته قبل ان يهاجمه عوداً. دائما اتخذ القرارات في اللحظة الاخيرة، ولكن حينها يعاند في تمسكه بهذه القرارات. وهكذا نجح في تمرير خطة فك الارتباط في الحكومة والكنيست في مقابل المتمردين في حزبه إلى أن وصل إلى الانفجار الكبير، وبدون أي عاطفة فكك الليكود الذي انشأه بعد تقاعده من الجيش عام 1973.
تفكيك الليكود واقامة حزب "كاديما" كان المسار الأخير لشارون وهو ما ميز مسيرته السياسية: براغماتي متطرف تبنى أفكار آخرين، استهزأ بالإيديولوجيا وآمن أن كل حليف جيد في وقته….
في طريقه إلى ولايته الثالثة وضع "العجوز" لنفسه هدفين لم ينجح في تحقيقهما: تحديد حدود الدولة وإجراء إصلاحات في بنية النظام التي تعزز من فعالية السلطة وتُضعف الأحزاب. الجمهور يهتم قليلا بالتفاصيل، وكان ينظر إلى الانتخابات القادمة على أنها استفتاء حول استمرار سلطته… ولكن في نهاية الأمر حتى شارون لم ينجح في النجاة من التراجيديا التي وقع فيها من سبقه. إذ لم يستقل أي من رؤساء الحكومة في إسرائيل من منصبه بشرف وهدوء. رابين قُتل، ليفي اشكول مات بالمرض، والبقية إما خسروا في الانتخابات أو تمت إقالتهم سياسيا داخل أحزابهم.