ارشيف من : 2005-2008
قضايا واتجاهات : الدول الكبرى ودورها في ايجاد الصراعات الطائفية والمذهبية في لبنان بين الماضي والحاضر

منذ أن عُرفت في لبنان طوائف ومذاهب عديدة ومتشعبة، والتي كان لها انتشارها في معظم المناطق اللبنانية بالتسمية القديمة "جبل لبنان" والحديثة "لبنان الكبير" ولبنان الحالي، كانت هذه الطوائف والمذاهب تعيش في جو متعايش ومتعاون ومتكافل ومتكامل، ولم يكن للدين والطائفة والمذهب دور مؤثر بين سكان قراه ومدنه، وإنما كان للدين عناوين أُخروية تفيد في حسن العلاقة بين العبد وربه التي تترجم بالعلاقة الحسنة والإنسانية بين أبناء هذه الأرض، بشكل جعل الكثير من أبناء هذه الديانات والطوائف يبدلون في دياناتهم وطوائفهم، دون الأخذ بالاعتبار أية عوامل طائفية ومذهبية، وإنما انطلاقاً من مفاهيم يقدّرها الشخص والفرد، حتى وإن كان في موقع قيادية داخل مجتمعه دون النظر إلى جماعته الدينية والمذهبية..
حتى أن الطقوس والأعمال العبادية كانت تجري بين أبناء أديان وطوائف متعددة في مكان واحد، وكل على طريقته، دون النظر إلى التسمية والمكان الذي يقفون عليه، ليتشرفوا بعبادة الله الواحد..
هذا الواقع الديني التوحيدي معروف بين أبناء طوائف لبنان منذ القدم، وإن كثيراً من الرحالة قد تحدثوا عن هذا الواقع، من خلال جولاتهم في القرى والبلدات اللبنانية المختلفة.
ولكن ما الذي بدّل هذا الواقع الحضاري والمتميز لأبناء هذا المجتمع؟ ولماذا دائماً يستعمل سلاح الطائفية والمذهبية الفتّاك، للفتك بالوطن وأهله..؟
هذا الوباء قصته أيضاً قديمة، انطلقت مع قدم تدخل الدول الكبرى قديمها وحديثها في شؤون طوائف ومذاهب لبنان… هذا التدخل الذي اعتمد سياسة أن تجلب كل دولة من هذه الدول طائفة ومذهباً إلى جانبها لتأمين مصالحها، ولتغطي تدخلها في شؤون هذا البلد الداخلية، بحيث تصبح الطائفة أو المذهب هي المتراس الذي تختبئ خلفه هذه الدول لتحقيق مصالحها، وتوهم من تدعمهم أنها هي السند والحامي لهم من أعدائهم من الطوائف والمذاهب الأخرى..
هذا القول ليس تجنّياً على هذه الدول باعتبارها السبب الأساسي في إيقاظ العصبيات الطائفية والمذهبية عبر إشعال الفتن والحروب بينها وعبر قادتها. وذلك منذ حروب المماليك عام 1299م مروراً بأنظمة حكم السلطنة العثمانية عبر الإمارتين المعنية والشهابية.
هذا التدخل أضحى أكثر وضوحاً عندما أخذت الدول الأوروبية بالضغط على السلطنة العثمانية لتبني شؤون الطوائف والمذاهب والأقليات الدينية المسيحية في منطقة جبل لبنان تحت عنوان حمايتها من النظام الديني العثماني، وهذا ما حصل بالفعل، وكانت أهم ثمرات التدخل الأوروبي الطائفي في جبل لبنان قيام نظام القائمقاميتين عام 1842م، والذي بموجبه وضعت الطوائف اللبنانية في مواجهة بعضها البعض، وكان هناك محاولات لإيجاد تركيبات طائفية ومذهبية أكثر تفصيلاً ضمن هذا النظام الجديد، مع محاولات أخرى لإيجاد قائمقاميات خاصة بكل طائفة (ولا سيما لطائفة الروم الأرثوذكس).
وهذا أنتج حروباً دموية بين الطوائف، لا سيما بين طائفتي الدروز والموارنة اللتين ركزت الدول الكبرى على دعم كل منهما وتفريقهما وتقوية الخلافات بينهما..
ولقد استمرت هذه الحروب المدمرة وتوجت بمذبحة العام 1860م الشهيرة التي كان عامها من أقسى الأعوام على أهالي جبل لبنان وخاصة الموارنة منهم..
هذا التدخل الأوروبي في شؤون جبل لبنان، لم يكتفِ بذلك بل استمر عبر إنشاء نظام المتصرفية في العام 1861 م (وبرعاية أوروبية أيضاً) والذي كُرست بموجبه المزيد من أجواء التعصب الطائفي والمذهبي البغيض بإشراف حاكم مسيحي غير لبناني.
هذا النظام الطائفي الذي رعته وباركته ودعمته الدول الأوروبية بتدخلاتها العسكرية وغير العسكرية زاد من التشرذم بين طوائف ومذاهب لبنان، وأصبح أبناء كل طائفة يسعون إلى خدمة أبناء طوائفهم والطعن بمصالح الطوائف الأخرى، هذا عدا عن خدمة مصالح الدول التي سهلت ودعمت طائفتهم.
وهذا بمجمله أوجد دويلات داخل هذا المجتمع الصغير قياساً بالعدد الكبير لطوائفه ومذاهبه.
فكان من نتائج هذا التدخل الأوروبي البغيض والمدمر في شؤون الطوائف اللبنانية مزيد من الصراع والصدام شبه الدائم بين الطوائف، اضافة إلى مزيد من الفرز الطائفي للقرى والبلدات في جبل لبنان، بحيث أصبحت معظم القرى والبلدات مفروزة طائفياً.
وكان من النتائج المدمرة لهذا التدخل الهجرات الواسعة لأبناء هذا الجبل إلى خارج جبلهم تخلصاً من واقعهم الأمني والاجتماعي السيئ.
هذا الواقع الطائفي المرير والذي كان من خلاصات نتائجه قلة عدد سكان جبل لبنان، استكملت آثاره المدمرة بالحرب العالمية، التي قضت على كل أثر للحياة في قراه وبلداته عبر الأمراض والجوع، فكانت وفاة أكثر من نصف أبنائه، ومن بقي منهم على قيد الحياة عاش باحثاً عن عائلته المشرّدة والمشتتة، وما يجده من طعام ليبقى على قيد الحياة، فكان أن تجددت الهجرات الجماعية من جديد..
ومع انتهاء الحرب العالمية وانتصار دول الحلفاء واتخاذ قرار تقسيم عالمنا العربي، وقيام نظام الانتداب على الكيانات المقسّمة ومنها دولة لبنان الكبير، جاءت الدول المنتدبة لتقضي على ما بقي من أبناء لبنان عبر سياسة فرّق تسد، وتبني طوائف ومذاهب لبنانية على حساب طوائف ومذاهب لبنانية أخرى، وهذا أوجد صراعاً جديداً بين الطوائف، وأسس لقيام حالات صراع مستمرة بين الطوائف ساهمت في اذكائه عوامل مختلفة، لا سيما دور هذه الدول المنتدبة في إيجاد المشكلة الفلسطينية عبر اصدارها وعد بلفور الذي أسس لقيام الكيان غير الشرعي للصهاينة في فلسطين بغطاء دولي على حساب الشعب الفلسطيني، أبناء وأصحاب هذه الأرض، وكانت هجرات الفلسطينيين الكثيفة إلى الأراضي المجاورة لهم وخاصة إلى لبنان وسوريا والأردن، وقد لوحق هؤلاء المشردون بحروب عبثية في الدول التي لجأوا اليها بإيعاز ودعم مباشر من الدول الكبرى ممن أوجدوا الكيان الاسرائيلي المصطنع.
هذه الحروب والصراعات المتكررة توّجت في نهاية المطاف بالحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م التي دعمتها الدول الكبرى وفي مقدمتها اميركا عبر وزير خارجيتها هنري كيسنجر خدمة لمصالح "اسرائيل" التي أخذت تدعم بعض الطوائف في لبنان لأجل إيجاد تقاتل طائفي ومذهبي بين اللبنانيين، وحرب مدمرة بحق الشعب الفلسطيني وقواه المسلحة داخل المخيمات.
وبالمقابل أخذت دول أوروبا الشرقية تدعم المعسكر الطائفي المقابل، فكانت الحرب الأهلية اللبنانية حرباً طائفية ومذهبية بامتياز، كان يجري القتل الفردي والجماعي لأبناء الطوائف والمذاهب المختلفة عبر المجازر الجماعية والقتل على الهوية والقصف العشوائي والتهجير الجماعي..
وفي كل هذا كانت الأيادي الغربية والشرقية والاسرائيلية تعمل بكل أجهزتها الاستخباراتية وما تنتجه مصانعها من أسلحة لتذكية الصراعات الطائفية في لبنان مع السعي للقضاء على كل روح مقاومة لدى الفلسطينيين واللبنانيين.
وفي كل أجواء هذا الصراع الدموي والمدمر للطوائف اللبنانية واللاجئين الفلسطينيين كانت الدول الكبرى وفي مقدمتها اميركا وربيبتها "اسرائيل" تسرح وتمرح في لبنان عبر اللعب على التناقضات الطائفية والمذهبية، فكانت الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على الأراضي اللبنانية من قصف جوي واغتيالات وتفجيرات وتشكيل لشبكات واسعة من العملاء داخل الأراضي اللبنانية، ومن مختلف الطوائف اللبنانية بوسائل إغرائية مختلفة (ولا سيما المالية منها)، حيث يعاني السكان من ضائقة اقتصادية صعبة، وفي ظل الغياب شبه الكامل لدور الدولة في رعاية شؤون المواطنين لا سيما في المناطق الاسلامية منها (هذا دون أن يكون هذا مبرراً لهؤلاء العملاء الخونة). ولقد استكملت هذه الحرب الاسرائيلية على لبنان بغطاء من الدول الكبرى الراعية لها داخل مجلس الأمن وخارجه باجتياح العام 1978م الذي هدفت "اسرائيل" والدول الكبرى من ورائه للعمل على تفتيت لبنان إلى كيانات طائفية ومذهبية عبر سعيها لإعلان دولة لبنان الحر برئاسة العميل سعد حداد، وذلك كمقدمة لقيام كل طائفة ومذهب بإنشاء كيانات خاصة بها، ولقد بدأت مشاريع جدية في هذا المجال ولا سيما من قبل الدروز والموارنة، على أن يلحق هذه الخطوة تقسيم كل الدول العربية والإسلامية إلى كيانات طائفية ومذهبية وقومية وعرقية..
هذا المشروع الاسرائيلي التقسيمي الذي تعثر نتيجة المقاومة له، استتبع بمشروع جديد وخطير تمثل بقيام الاجتياح الاسرائيلي للأراضي اللبنانية وصولاً إلى العاصمة بيروت عام 1982، ولقد شكّلت الدول الكبرى والمؤسسات الدولية غطاءً لـ"اسرائيل" في حربها المدمرة على المناطق المحسوبة على المسلمين اللبنانيين والفلسطينيين، في مقابل اقامة هذه الدول ومنها الكيان الاسرائيلي علاقات ود وصداقة ودعم للميليشيات اللبنانية في المنطقة التي تخضع للقوات اللبنانية بقيادة بشير الجميل، فأوهمت هذا الأخير بمسعاها لإقامة دولة طائفية للموارنة بزعامته تكون الطوائف اللبنانية الأخرى ملحقة وهامشية داخل هذه الدولة ومنفذة لمصالحها وخططها شريطة أن يُمسك بالأمور وذلك بالهيمنة على الطوائف الأخرى والقضاء على الفلسطينيين، ويؤسس لعلاقة "حسن جوار" مع الاسرائيليين عبر إبرام اتفاقية سلام معهم. هذا إضافة إلى إقامة علاقات ولاء وتبعية مع الدول الكبرى ومنها اميركا. وهذا ما حصل بالفعل وانتخب بشير الجميل ومن بعده شقيقه امين كرئيسين للجمهورية وغُيب دور الطوائف اللبنانية في إدارة البلاد.
ولكن الذي فاجأ الجميع كان قيام المقاومة في العام 1982م التي أخذت على عاتقها مقاومة الاحتلال الاسرائيلي وامتداداته داخل الطوائف اللبنانية، ولقد خاضت هذه المقاومة حرباً لا هوادة فيها تعرضت خلالها للكثير من المؤامرات الطائفية والمذهبية وسقط لها مئات الشهداء على هذا الطريق، دون ان تثنيها كل المؤامرات التي اصطنعتها هذه الدول لتثنيها عن خيار قتال "اسرائيل" وأعوانها وحماتها، وذلك برفض السقوط في الحروب الداخلية التي لم تدخلها يوماً، وكان لها ما هدفت اليه بمنع عدد من الطوائف والمذاهب اللبنانية من الانقياد وراء مشاريع اميركا و"اسرائيل" وباقي دول اوروبا لتقسيم لبنان، عبر السعي لتوحيد هذه الطوائف على لبنان الواحد المعادي والمقاوم لإسرائيل وإرهابها واحتلالها.. وكان لها ما أرادت بتحقيق التحرير شبه الكامل للأراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي في 25 أيار من العام 2000م.
على الرغم من العزة التي نعم بها لبنان وشعبه بكل طوائفة ومذاهبه بهذا الانتصار الفريد والنوعي على الاحتلال الاسرائيلي وحماته من الدول الكبرى، والذي اعتبر نصراً لجميع اللبنانيين بكل طوائفهم ومذاهبهم، والذي أدى وفق السياسة الحكيمة لقيادة المقاومة الى تأصيل وتجذير الوحدة بين اللبنانيين، إلا أن هذه الدول التي تضع عينها على لبنان باعتباره بوابة بين الشرق والغرب والتي أضرها ما حصل في لبنان من تميّز ونجاح لخط المقاومة بقيت تسعى لتنفيذ مشاريعها ومصالحها الاستكبارية، والتي تصب في كثير منها لخدمة أهداف الكيان الصهيوني الإرهابية والتوسعية، فأخذت تفتش من جديد عن عوامل وعناوين طائفية ومذهبية تخدمها في مشاريعها ومصالحها العنصرية بهدف ضرب التوجهات المقاومة للمجتمع اللبناني، فكان أن أخذت تفتح أبواباً جديدة لمؤامرتها عبر التنديد بالدور السوري والإيراني في لبنان باعتبارهما يشكلان دعماً لطائفة على حساب طوائف أخرى، هذا إضافة إلى تغطيتهم (الإرهاب) مقاومة هذه الطائفة، فأخذت عبر دورها الفاعل عالمياً على رفع الغطاء عن الدور السوري المباشر في لبنان، وعملت على تشويه الدور الايراني في لبنان والعالم كدولة محتضنة للإرهاب، ووظفت لأجل ذلك أجهزتها المخابراتية والإعلامية وضغوطها على المؤسسات الدولية، ونجحت في استصدار قرارات عن مؤسسة مجلس الأمن ولا سيما القرار 1559 الذي رفع الغطاء بشكل كامل عن أي دور سوري مباشر أو غير مباشر في لبنان، ولاستكمال هذه الخطوة سعوا لتفتيت الطوائف والمذاهب.
ولكن السؤال الكبير، الذي لا نعرفه أيضاً ما هي مشاريع الدول الكبرى، وفي مقدمتها اميركا وربيبتها اسرائيل اذا فشلت في مشاريعها التفتيتية الجديدة والهادفة بشكل أساسي من وراء ذلك لضرب المقاومة وسحب سلاحها لتطمئن هذه الدول على هدوء بال قادة ومجتمع الكيان الصهيوني.
وفي الختام نجمل القول ان الدول الكبرى تسعى دائماً لتأمين مصالحها وأهدافها في لبنان كبوابة بين الشرق والغرب، في سياسته التفتيتية لمجتمعات عالمنا العربي والاسلامي، وفي مقدمته لبنان، بهدف استغلال كل ما بهذه الأوطان من خيرات وطاقات، وليس في أي من اهدافهم خدمة مصالح قيادات ومسؤولي الطوائف والمذاهب التي يقفون وراءها، وإنما يركبون موجة ودور هذه المجموعات لتحقيق مصالحهم، وسريعاً ما تراهم يرمون وراءهم من يدعمون، بعملاء جدد اما عند تحقيق أهدافهم، وإما لاستبدال من استخدموهم وذلك وفقاً لتغير الظروف والأوضاع التي تستدعي وقوداً آخر يحرقونه ليتدفأوا بناره…
فإلى متى يبقى هؤلاء وقوداً لمصالح الدول الكبرى على حساب أوطانهم وشعوبهم ومستقبل أبنائهم..
د. علي غريب
الانتقاد/ العدد 1147 ـ 3 شباط/فبراير 2006