ارشيف من : 2005-2008
لو تعذر الانتصار على قوة محتلة فوراً فيجب جعل الاحتلال غير مريح/ ميردال: حيثما يوجد اضطهاد ستنهض الشعوب ثائرة

يتابع المفكر والكاتب السويدي جان ميردال الكبير قراءته المعمقة للأحداث التي يشهدها العالم، ملقياً نظرة متأنية على الأحداث في منطقتنا العربية والإسلامية، ولا سيما ما يجري في فلسطين والعراق، مقدماً رؤية مختلفة عن السائد في الغرب، وبعيدة عن معزوفة الإرهاب والتطرف، لتدخل إلى حقيقة الصراع في المنطقة، وماهية الهجمة التي يتعرض لها أبناؤها من القوى الاستعمارية، الأميركية ـ الصهيونية تحديداً.
ميردال، المفكر الكبير، وأديب السويد وأوروبا الشمالية الأكبر، وابن الرجل والمرأة ـ ربما الوحيدين في الكون ـ اللذين حازا جائزة نوبل (هو في الاقتصاد وهي في السلام) يعرض في الجزء الثاني من المقابلة المطوّلة التي أجرتها معه "الانتقاد" في استكهولم نظرته إلى موضوع المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، ويبرر نظريته التي تقوم على قاعدة أنه إذا لم يكن بالإمكان الانتصار بشكل فوري على قوة محتلة، يجب على الأقل جعل الاحتلال أمرا غير مريح بالنسبة للطاغي.
ـ ما هي نظرتك بالنسبة للمسألة الفلسطينية؟
*هذا سؤال مهم جدا. ماذا قلنا نحن اليسار في أوروبا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية؟ ما اعتقدناه في ذلك الوقت أنه عندما تقوم الحركة المناهضة للاستعمار بإخراج البريطانيين من فلسطين، فسوف تقوم دولة فلسطينية للناس من الأديان المختلفة مثل المسيحيين، المسلمين واليهود ـ فلسطين موحدة ـ محررة من البريطانيين.
ولكن هذا لم يحدث. أسباب ذلك تكمن فيما يسمى بالمصطلحات القانونية "بانكتوم تيرب" أي اتفاقية الذلّ ـ ويمكن تسميتها اتفاقية سياسية وسخة ـ خصوصا بين الولايات المتحدة في ذلك الوقت والاتحاد السوفييتي، وكلاهما لأسباب مختلفة أراد تمزيق واستئصال بقايا الإمبراطورية البريطانية. كان لدى بعض قادة المعسكر المتوجّه نحو الاشتراكية وهم غريب يقول بأن دولة صهيونية يمكن أن تصبح حليفا اشتراكيا لهم. أما الولايات المتحدة فقد اعتمدت على هذه الدولة لتصبح موطئ قدم مخلصاً لهم.
هناك أمر يجب أيضا أن تفهموه أنتم في بلادكم. لقد كان يجري استخدام مسألة معاداة السامية المبطنة بشكل ساخر في أوروبا من أجل التسبّب بهجرة اكبر عدد ممكن (من اليهود) الى فلسطين. الذين نجوا من الاضطهاد الألماني كانوا موجودين في أوروبا الغربية بداخل مخيمات للمشردين، وهؤلاء هم أشخاص مشردون عاشوا ظروفا سيئة جدا. حدثت مذابح منظّمة مخزية في بولندا، ومن أصل ثمانين ألفا من اليهود الناجين في بولندا، ثلاثون ألفا كانوا قد هربوا بعد سنة من نهاية الحرب باتجاه الغرب والى هذه المخيمات. ولا بلد في أوروبا ـ وطبعا الولايات المتحدة ـ كان يرغب في إيواء هذه الأعداد الهائلة في مخيمات الأشخاص المشردين. من أصل 335 ألف يهودي في رومانيا ومئتي ألف هنغاري، كان العدد الأكبر من هؤلاء معوزين، وقد تم ـ برغم استخدام براعة الكلام الحكومي الرسمي ـ تشجيعهم على الهجرة الى فلسطين. وتم استخدام هذه الأعداد الهائلة من المقهورين كوسيلة لفتح باب فلسطين للهجرة على نطاق واسع. لقد كانت حقاً سياسة ساخرة جدا.
لم تؤدِّ النتيجة الى إيجاد دولة جديدة كدولة ما بعد الاستعمار من أجل السكّان في فلسطين ـ شعوب من ديانات مختلفة ـ ولكنها أدّت بدلا عن ذلك الى كيان مصطنع عرقي استعماري ومستقل في بلد تم تشريد سكانه الأصليين. تحول الفلسطينيون الى لاجئين وسكان أصليين محكومين. لهذا، تحولت "إسرائيل" الى دولة عنصرية أجنبية، دائمة الصراع والتوسّع. وهذا وضع غير مستقر على الإطلاق.
أيضا أدى هذا الأمر الى حرب مستمرة من عدة مراحل. في سنة 1967، عندما قمت، بعد ستة أيام من الحرب، بالتحدث عن هذا الأمر أثناء اللقاء المناهض الذي عقدناه في ستوكهولم، أشرت الى إمكانية استمرار هذه الحرب مئة سنة أو أكثر.
يجب دائما تذكُّر أننا بالرغم من كل ما نتمناه، هناك أيضا إمكانيات سلبية. منذ ستمئة سنة، لم يستطع سكان البلد الأصليون، لا في البلد المسمى الآن استراليا، ولا في أميركا الشمالية، أن يتصوّروا أنهم سوف يتم القضاء عليهم (من ضمنهم الجزء الجنوبي المعروف الآن بالحدود بين مكسيكو والولايات المتحدة والجزء الشمالي الكامل من هذه الحدود إضافة الى استراليا). ولكن بالفعل تم ذلك. الإبادة الجماعية التي حصلت في نيو مكسيكو الحالية هي من الناحية العددية الأكبر في السجل التاريخي. والإبادة الجماعية في الولايات المتحدة الحالية قريبة من النهاية. هناك، تم القيام بعمليات الإبادة هذه حتى بداية القرن العشرين، ولا يوجد الآن سوى تجمعات صغيرة باقية من السكان الأصليين.
يجب الإبقاء في الذهن على مسألة ان الفلسطينيين أيضا يمكن إبادتهم. شعب بكامله يمكن أن يختفي. بالنسبة إلى مجموعات معينة في "إسرائيل" ـ بعض المستوطنين مثلا ـ هذه الإزالة للشعب الفلسطيني هي خيار. وبسبب بعض الأسباب الثقافية، هناك في الولايات المتحدة أيضا موافقة تقليدية على هذا النوع من الإبادة الشعبية.
ـ كيف يجب على الفلسطينيين التصرف في الوقت الراهن حيال هذا الوضع؟
*في هذه الحالة، من المهم جدا لهم القيام بتحليل دقيق جدا حول الوضع بأجمله. النضال ضروري اذا كانوا يريدون البقاء، ولكن النضال والبطولة ليسا كافيين. لا يستطيع أحد نكران حقيقة أن السكان الأصليين في البلد المسمى الآن الولايات المتحدة ـ أي الهنود ـ لم يناضلوا أو يقوموا بدفاع مستميت.
الفارق هو ان هناك الآن عاملا اسمه التضامن الدولي. السكان الأصليون في شمال أميركا لم يكن لديهم جيران أقوياء. ولكن الفلسطينيين على العكس. أيضا هناك مفهوم متنامٍ في جميع بلادنا أن ما جرى على الفلسطينيين على مر الستين عاماً الماضية يمكن أن يحصل لأي منا. كما قال جون دون في سنة 1622 ـ استشهد به همنغواي في قصته عن حرب الشعب الأسباني ضد النازية ـ "لا تسأل أبدا عن الشخص الذي دقت أجراسه، فالأجراس تدق لك ايضا". التضامن هو عامل واحد، ولكن كلنا يعلم حدوده في بلادنا، وكذلك بين الدوائر الحاكمة في الشرق الأوسط.
هناك عامل آخر اسمه الوقت والديموغرافيا أو الدراسة الإحصائية للسكان. لقد كان عدد السكان الأصليين فيما يسمى الآن الولايات المتحدة ضئيلاً، يعني كان يمكن القضاء عليهم. أما في الجنوب من الحدود كان الوضع مختلفا. بالنسبة للفلسطينيين عددهم كبير ـ وهم يتكاثرون كما فعل السكان الأصليون في مكسيكو وبوليفيا. كيان يتم تأسيسه مثل "إسرائيل" حسب النظرية العنصرية غير قابل للتطبيق على المدى الطويل. وبعد مئة سنة ـ أو مئتين أو ثلاثمئة ـ سوف يتفتت هذا الكيان مثل الدولة الصليبية، أو مثلما تفككت جمهورية جنوب إفريقيا. ليس هذا معناه أن الشعوب التي تعيش هناك سوف تختفي؛ سوف يتم امتصاصهم مثلما تم امتصاص بقايا الصليبيين ومثلما تم امتصاص "الآفريكانز" البيض بعد زوال دولتهم.
ولكن في الوقت الحاضر هناك دعم أميركي وأوروبي قوي اتجاه "إسرائيل". حتى أن السويد تتعاون عسكريا مع "إسرائيل". ولكن هذا يعارض مصالح ورغبات الأكثرية من شعوبنا، ويتوقع منا ان نجد القدرة على إبطال هذا الأمر. لهذا، يمكن ان تحصل تغييرات في السياسات الأوروبية، حتى يمكن ان تحصل تغييرات في "إسرائيل". بجميع الأحوال، هناك الكثير من التناقضات السياسية والاجتماعية في "إسرائيل" التي تتجه نحو تغيير الوضع. لا شيء أكيد.
الدعم الدولي الرئيسي لدولة "إسرائيل" يأتي من الولايات المتحدة. وهي تستخدم الآن "إسرائيل" كموطئ قدم. ولكن ليس هناك صداقة ووفاء وود، ولا يوجد حلفاء أبديون في السياسات الدولية. لو حدث أن أصبح من مصلحة الولايات المتحدة تبديل الأدوار فيما يتعلق بـ"إسرائيل" ـ هناك العديد من السيناريوهات الممكنة ـ يمكن أن تفقد "إسرائيل" هذا الدعم بين ليلة وضحاها.
ـ لماذا بعد الحرب العالمية الثانية قامت اليابان وألمانيا، بعد احتلالهما، بالاستسلام كليا الى القوى الاحتلالية، بدون القيام بالمزيد من المقاومة، حتى أنهما تعاونتا مع القوة المحتلة؟ أما على الجهة الأخرى، الأمثلة الإسلامية مثل فلسطين المحتلة والعراق تظهر مقاومة عقائدية وعسكرية صلبة ضد قوة الاحتلال. على أية أسس يقوم هذا الاختلاف، هل على عقيدة البلدان المحتلة أم على العوامل التاريخية؟
*لا يوجد تشابه. الصراع القائم ضد القوات المحتلة في العراق، أفغانستان وفلسطين هو مثل الصراع ضد المحتلين الألمان في أوروبا، وضد اليابانيين المحتلين في كوريا، الصين، فيتنام، وبورما. السبب أن هذه الصراعات كانت ولا تزال صراعات وطنية من اجل التحرير. طبعا هي معقّدة، تذكروا أن وضع بورما كان معقدا جدا.
ـ ولكن، لماذا لم يقاوم شعب ألمانيا أو اليابان ضد الاحتلال في بلادهم؟
*لقد كان الوضع ـ كما ذكرت ـ مختلفا كليا. لقد تم قهر الناس بشدة من قبل النازيين والحكام الامبرياليين. هم لم يرغبوا بعودة الهتلريين او الحكام الامبرياليين. ولهذا آمنوا في بداية الأمر بالمصطلحات الغربية للدمقرطة. كما قامت الدوائر الحاكمة باستبدال الأدوار، وهكذا حافظوا على مراكزهم كحكام. لو عدنا الى الوراء، سوف نجد أن الدوائر الرسمية الحالية هي نفسها التي كانت تتخذ القرارات في ألمانيا أثناء الحقبة النازية. في اليابان أيضا، احتفظ الغرب بمجرم الحرب هيروهيتو كإمبراطور. كذلك، تعاون الحكام القدامى مع المحتلين بشكل كبير؛ مثلا البرنامج الفضائي للولايات المتحدة برمته، تم بناؤه من قبل الاختصاصيين النازيين. قدرة الحرب البكتيرية للولايات المتحدة تم تعزيزها بشكل كبير من قبل خبراء يابانيين في علم البكتيريا. لم تقم الولايات المتحدة ـ مثلما فعل الاتحاد الروسي ـ بتقديمهم الى المحاكمة؛ لقد استخدموهم مع نتائج تجاربهم (كذلك في سلسلة الأكاذيب حول القوة العاملة).
ـ ما هو رأيكم في الحرب الراهنة في العراق والمحاولات الجارية لاحتلال ذلك البلد؟ ما هي الاستراتيجية الكبرى لهذا المخطط؟
*تحاول الولايات المتحدة استعمار العراق وطبعا بعض الجماعات في داخل العراق ستتعامل معها لأن هذا الأمر مربح لهم. ولكنهم ليسوا أغبياء الى درجة نسيان المثال الفرنسي القائل بأنه يمكن استخدام الحراب لعدة أهداف، ولكن ليس للجلوس عليها. لهذا، سوف يحاولون إطلاق مشروع بلقنة العراق. تقسيم العراق الى ثلاث ولايات بالحد الأدنى أو أكثر يصب في مصلحتهم. وفي أفضل الحالات، بحسب نظرتهم، سوف تشهد هذه الولايات الثلاث حالة من التوتر المستمر وربما الحرب، وبعدها ستصبح السيطرة كاملة بشكل أو بآخر. البلقنة هي واحد من أساليب الحكم.
ما زلت أتذكر أنني عندما كنت أعيش في الهند، فإن موظفي الولايات المتحدة الرسميين الذين اعتبرناهم من المخابرات الأميركية المركزية (CIA) "الأصدقاء" كما كانوا يلقبون ـ كانوا يعتقدون بأنه يمكن تقسيم الهند الى ست عشرة ولاية. الصين يمكن أن تقسم إلى ست ولايات (وهذا ما يفسر رد الفعل العنيف للحكومة الصينية حيال تظاهرات تيينانمن في عام 1989)، كما انه يمكن تقسيم إيران الى خمسة كيانات على الأقل. هؤلاء الرسميون من الولايات المتحدة وصفوا ذلك بأنه خيار ديموقراطي. ولكن في الحقيقة، كانت هذه وصفة للهيمنة الأميركية. فرّق تسد، أوجد دولا ضعيفة، دولا عميلة.
حاليا تقود واشنطن حملة جديدة ضد إيران. إذا استطاعوا غزو إيران أو مرة أخرى قاموا بهندسة إسقاط النظام الإيراني ـ كما قاموا بإسقاط مصدّق في الماضي ـ فإنهم لن يتلكأوا في ذلك. ليس بسبب المثل العليا او الدين. كل همهم الربح والنفط! السبب وراء قيامهم بهذه الضّجّة حول السياسة الإيرانية للطاقة الذرية ليس فقط بسبب خوفهم من تمكن إيران في بناء القنبلة الذرية، ولكن السبب أنه اذا استطاعت إيران تخصيب اليورانيوم الخاص بها، فإنها سوف تمتلك قدرة أكثر في السيطرة على مصادر الطاقة الخاصة بها. (يمكن مقارنة هذا الموضوع مع حالة السويد)!
أنا وغن كيسيل أقمنا في إيران خلال عهد الشاه. نحن معجبون بأبناء الشعب الإيراني ونحترم عاداتهم، ولكن نفوذ الولايات المتحدة كان قويا جدا كما كان الاضطهاد الاجتماعي واضحا جدا. آمنّا بقيام ثورة في أية لحظة. ولم نكن الوحيدين في هذا الاعتقاد. أيضا السفير السويدي ـ راغنفالد راسون باغ في ذلك الوقت ـ اعتقد بهذا الأمر. ولكن استغرق الموضوع سنوات طويلة قبل حدوثه. لا يستطيع الواحد منا التنبؤ تماما بما سيحدث حتى ولو كان يستطيع رؤية بعض الخيوط العريضة، كذلك يمكن رؤية خيوط الصراع.
ـ هل ستقف القوى الدولية والإقليمية الأخرى الصامتة مكتوفة الأيدي حيال تطبيق الولايات المتحدة لسياساتها التعسفية والتوسعية في المنطقة؟
*لا روسيا ولا الصين مسرورة حيال القواعد العسكرية الأميركية في وسط آسيا. هذا الأمر يشبه الوضع السابق عندما كانت روسيا والإمبراطورية البريطانية تتصارعان على بسط نفوذهما في فارس، أفغانستان والتيبيت. لقد كانت الإمبراطوريات تتنافس باستمرار؛ أراد البريطانيون في ذلك الوقت امتلاك القطن والممرات التجارية، بينما أرادت روسيا الممرات التجارية باتجاه البحار الدافئة. أدى هذا الوضع الى ثلاث حروب بريطانية ـ أفغانية. اضطر الشعب الأفغاني الى دفع ثمن غالٍ جدا، ولكن في الحروب الثلاث خسر البريطانيون عسكريا. وفي نهاية المطاف ـ بعد الحرب الثالثة ـ استطاع الشعب الأفغاني استعادة سيادته الكاملة.
المطامع الامبريالية التي أدت الى الغزو الروسي لأفغانستان الذي تبعه الغزو الأميركي هي نفسها. كما أن النضال الشعبي هو نفسه، وأنا واثق تماما أن النهاية ستكون نفسها ـ ولكن الشعب الأفغاني سيكون قد دفع الثمن غاليا مرة أخرى.
على أية حال، لا أباطرة الروس السابقون ولا الإمبراطور الملكي البريطاني، ولا بريجنيف أو بوش كان لديهم دوافع أخرى غير الطمع. لقد ناضل الأفغان فاعتبرهم الأسياد البريطانيون غير متحضرين ومتوحشين ـ ولكنهم ربحوا استقلالهم بالنهاية.
ـ بالنسبة لظاهرة حزب الله، أو ظاهرة المقاومة الإسلامية بشكل عام، لماذا لم تشهد الولايات المتحدة وأطماعها الامبريالية مثل هذه المقاومة من قبل؟
*بالنسبة لحزب الله، يمكنني القول بشكل عام انه يمتلك قاعدة شعبية واسعة استطاعت دحر الجيش القوي للاحتلال الإسرائيلي.
لكن هناك خطورة كامنة في هذا السؤال. حزب الله هو حزب باسل. لكنه ليس الحركة الشعبية الأولى المناهضة للامبريالية الأميركية. هناك مقاومة فيليبينية باسلة مسلحة ناهضت الامبريالية الأميركية بعد الحرب الاسبانية الأميركية. هناك أيضا الثورة المكسيكية؛ وحرب كوريا البطولية ضد العدوان الأميركي. لا ننسى صراعات الشعوب في جنوبي شرق آسيا. لقد بدت الولايات المتحدة في زمن ما خلال القرن الماضي بمظهر المنتصر الدائم، ولكن خلال العقود الأخيرة، اندحر الامبرياليون الأميركيون عسكريا عدة مرات من قبل الشعوب المسلحة!
لقد كانت الحرب العالمية الثانية حربا من حربين، حربا بين المصالح الامبريالية المختلفة، وحربا خاضتها الشعوب من أجل استقلالها. في أوروبا مثلا، ناضل كل من النرويجيين، المقاومة الفرنسية، والجماعات المسلحة في شمال إيطاليا من أجل تحرير أوطانهم، كذلك يفعل الفلسطينيون والعراقيون والأفغان اليوم.
حيثما يوجد اضطهاد، ستنهض الشعوب ثائرة. ستكون الإيديولوجيات مختلفة اعتمادا على الزمن والتاريخ، ولكن اذا تم اضطهاد الناس، فإنهم سوف ينفعلون ويثورون، وسيكون صراعهم محقا.
اليوم في العديد من بلاد العالم ـ خصوصا في آسيا ـ أصبحت الإيديولوجية الإسلامية القوة الدافعة للمقاومة الشعبية ضد الطغيان. لهذا كان الوضع والإيديولوجيات مختلفة بالنسبة الى الوطنيين في أوروبا أو الصين اثناء الحرب العالمية الثانية. ولكن في ذلك الزمن كما في الزمن الحالي: الثورة ضد الاضطهاد كانت دائما قضية محقّة.
أنا أؤمن بأنكم سوف تثبتون نجاحكم المطلق. لن تستطيع الامبريالية على المدى الطويل المحافظة على نفسها. فهي تقوم بحروبها على أموال مستعارة. على المدى الطويل، وضعهم خاسر، مع أن ذلك يمكن أن يأخذ وقتا طويلا!
ـ قلت مرة في احد خطاباتك انه إذا لم يكن بالإمكان الانتصار بشكل فوري على قوة محتلة، يجب على الأقل جعل الاحتلال أمرا غير مريح بالنسبة للطاغي؟
*نعم هذا صحيح. لنتحدث عن السبب القائل بصحة الصراع في وضع لا يكون فيه الربح فوريا. يمكن الاستشهاد بمثل بسيط من التاريخ الأوروبي؛ خلال الحرب العالمية الثانية، كان هناك المقاومة ـ ديغول وآخرون ـ في فرنسا. لقد ناضلوا بدعم شعبي ولكن بدون وسائل عسكرية قوية. بعدها جاء غزو الحلفاء القوي عسكريا عبر النورماندي في عام 1944.
كانت قد قامت أميركا مسبقا بطباعة أموال الاحتلال لفرنسا كبلد محرر من قبل الحلفاء. كانت ستصبح فرنسا دولة أوروبية ثانوية خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة. ولكن استطاع ديغول بواسطة شبه "انقلاب" إعادة تأسيس استقلال الدولة الفرنسية بعدما سمح له الحلفاء بوضع موطئ قدم على شاطئ النورماندي.
بعد ذلك، اتفق ديغول والشيوعيون على أن شعب باريس يجب ان يحرّر نفسه من خلال الصراع المسلح. بينما قال الأميركيون ان ذلك لم يكن ضروريا. وإن جيوش الحلفاء ستقوم بذلك. ولكن ديغول والشيوعيين قاموا بتنظيم النهضة المسلحة في باريس، كما قُتل العديد من الناس. يمكن القول انه لو جلس الباريسيون دون حراك على قفاهم، لتم تحريرهم من قبل الأميركيين بجميع الأحوال. وبهذا كان يمكن للكثير البقاء على قيد الحياة، ولكن في فرنسا الخاضعة.
قتل الكثير اثناء نهضة عام 1944، كما نتج عنها جرحى كثر، ولكن الفرنسيين حرروا باريس بأنفسهم وذهبوا الى القتال ضد القوات الألمانية، لهذا توجد فرنسا اليوم كأمّة مستقلة.
ـ يناضل الفلسطينيون من أجل دولة ديمقراطية، أيضا يتصور الإسلاميون هذا الأمر؛ دولة تتساوى فيها الحقوق حيث يمكن ان يتعايش المسلمون، المسيحيون واليهود. "إسرائيل" لا توافق على دولة ديمقراطية. هل يجب قبول هذا الأمر؟ هل يجب على الفلسطينيين الخضوع الى الطرف الأقوى والقبول بهذه الدولة العنصرية؟
*ما يجب على الفلسطينيين تقريره يعود الى الشعب الفلسطيني. يمكنهم الحصول على دعم خارجي، وأيضا من قبلنا في أوروبا، ولكن يجب عليهم أخذ القرار.
مطلب دولة ديمقراطية تتساوى فيها الحقوق ويتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود هو مطلب كان قد حصل على دعم قوي قبل العام 1948 من قبل الدوائر التي عايشتها. وهذا الأمر لا يزال يبدو بالنسبة لي كحل وحيد لتطوير عملية السلام في المنطقة. ولكن كيفية الوصول الى هذا الهدف وكيفية تقرير الصراعات الضرورية يعود الى الشعب الفلسطيني حقّ تقريره.
ـ لماذا يحمل الإسلاميون اليوم مشعل المقاومة ضد التسلط العالمي والأشكال المختلفة من الهيمنة كالامبريالية والاستعمار الجديد؟
*هذا سؤال مهم! لقد كانت الامبريالية الأميركية تمثل بشكل دائم تهديدا مباشرا لمصالح الشعوب في الأجزاء المختلفة من العالم. لنضرب مثلا على ذلك دولة الفيليبين. لقد كان الاحتلال الأميركي المحور الرئيسي للحركة المناهضة للاستعمار منذ قرن. لقد ناضل المسيحيون الأصليون ضد هذا الامر. وقد كتب مارك توين عن هذا الموضوع قائلا "قام جنود الولايات المتحدة بتعذيب الرهبان المسيحيين بنفس الطريقة البشعة التي يستخدمونها اليوم في تعذيب المسلمين".
والآن بسبب النضال الشعبي، توجّب على الولايات المتحدة مغادرة قواعدها. هذا النضال مستمر وهو آخذ بالاستمرار منذ عدة أجيال حاملا عناوين مختلفة، منها ما هو مسلح جزئيا، ومنها سياسي.
في بوليفيا، يوجد جذور مختلفة للمعتقدات الكامنة خلف نضال التحرير من الامبريالية الأميركية. في الأجزاء المختلفة من أميركيا اللاتينية، نظرية التحرر المسيحي لعبت ـ كما قال كاسترو ـ دورا إيجابيا ضد الحكم الامبريالي للولايات المتحدة. يمكن تحليل كل ذلك تماما مثلما يمكن تحليل تصرف جميع الطبقات المختلفة في المجتمع. في العديد من بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، الطبقتان المتوسطة و"البرجوازية" تريدان أيضا الاستقلال. لذلك الوضع معقد جدا.
من الواضح ان الجماعات المسلمة ـ أو الإسلامية كما يمكن أن تُدعى ـ قد أخذت زمام القيادة في أراض واسعة من العالم. السبب الرئيسي هو أن أقساماً كبيرة من اليسار المثقف انتهى دورها الثوري (خلفياتها الاجتماعية كانت غالبا من الطبقات الوسطى)، وأصبحت تابعة لطبقة الكومبرادور (أي وكالة وطنية تستخدمها مؤسسة أجنبية)، ثم فقدت شرعيتها كممثلة للجماهير المضطهدة. ولكن يجب تذكُّر ان الحركات الإسلامية الحالية تخوض صراعا ضد الامبريالية الأميركية لأسباب دينية. ويجب علينا فهم هذه المسألة.
أنا طبعا لست مسلما ولا متدينا، ولكني لست أيضا ليبراليا. أنا أؤمن بأن الدين هو قوة حقيقية ومهمة جدا في المجتمع. لو عدنا الى التاريخ السويدي، سوف نجد ان أولى الحركات الديمقراطية الشعبية في بدايات القرن التاسع عشر كانت دينية؛ مسيحية.
كما أشرت سابقا عندما كنت في الأردن، تم تشكيل التركيبة الكاملة للفولكلور السويدي بواسطة الحركات الدينية مثل "الحركات الشعبية" التي رسمت السويد المتحضرة، إضافة الى الحركة العمالية، وذلك في بدايات القرن التاسع عشر. معظم السويديين لا يعُون هذا الأمر اليوم، ولكن هذه مسألة أخرى.
ولو عدنا الى الوراء أكثر، الى حقبة الصراعات الواسعة للفلاحين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، سوف نجد أنها كانت ناجحة في السويد، سويسرا، وشمال فنلندا. وهي التي جعلت بلادنا مختلفة نوعا ما عن باقي أوروبا.
ولكن في ألمانيا، كانت حروب الفلاحين حركات دينية. لنأخذ شخصية تاريخية كبيرة مثل الشهيد الديمقراطي توماس مونتزر؛ لقد كان قائدا لثورة الفلاحين، ولكنه كان أيضا معلّماً دينياً. ترجمته للإنجيل كانت مهمة، ومن خلالها وجد حقيقة نفسه التي ساقته الى قيادة الثورة. لو أمكنني العودة فجأة الى القرن السادس عشر وقابلت مونتزر لقلت له: "صديقي العزيز، أنا أعرف بأنك فلاح ثوري"، ولكان أجابني حينها: "كلا، كلا، كلا، أنا أقاتل في سبيل الله!".
أنا أريد من المسلمين أن يفهموا هذا الامر في الخارج، وأنا ـ كإنسان غير مسلم ـ يمكنني رؤية الدور الرئيسي الذي يلعبه حزب الله كمنظمة مناهضة للامبريالية. يمكنني القول ان هذه حقيقة لها أهداف. ولكني أيضا أعلم وأحترم حقيقة أن الحافز لموقف حزب الله المناهض للامبريالية هو ديني؛ الكلمة المقدسة. وبقولي هذا أنا لا أشوه سمعة الدين أبداً.
الانتقاد/ مقابلة خاصة ت العدد 1150 ـ 24 شباط/فبراير 2006