ارشيف من : 2005-2008
المقاومة التاريخية

د. محمد طي
المقاومة هي تلك الشعلة المتقدة في النفس الإنسانية منذ الأزل في تطلعها المستديم لمقاومة الظلم، والتي كانت وما زالت تشع في آونة من التاريخ تتخذها الانسانية معالم في تاريخها فتشكل لها مرجعيات من جهة، ونقاط ارتكاز وتحفزّ من جهة أخرى، تمدّها بالزخم الضروري لقطع الأشواط اللاحقة بثقة وطمأنينة.
والمقاومة هي ممانعة صامتة فمعلنة فمقاتلة، حسب الظروف، مصداقاً لقول رسول الله (ص) في مقاومة الظلم، فهابيل قاوم بموقف سلبي نية قابيل بالاعتداء عليه، وسبرتاكوس وسائر العبيد قاوموا مسترقيهم بالعنف المسلح، والفلاحون والمثقفون الأحرار في أوروبا قاوموا الإقطاع بكل الوسائل.
وفي المقلب الآخر من الإنسانية، في الشرق الموغل في التاريخ، وإن غامت الرؤية اليوم، كانت الأمور أكثر عمقاً وأصالة، حيث كان الانبياء والرسل وأتباعهم لا يقاومون الظلم الواقع على أشخاصهم أو مصالحهم، بل الذي يقع على سائر الانسانية وحقوقها.
قاوم المسيح (ع) وحواريوه بالموقف والكلمة إلى أن انتصروا.
وقاوم محمد (ص) بالتحمل والصبر وبالكلمة إلى أن دُفع إلى حمل السلاح للذود عن المستضعفين في الأرض فانتصر.
وقاوم الحسين (ع) بعقله وبدمه وبدماء تلك الثلة التي تحلّقت حول مصباحه ليرسم، بعد الأنبياء، الطريق لكل المؤمنين بالحق والخير، إلى تخليص الإنسانية من عذاباتها، وقاوم المسلمون غزوات الفرنجة (الصليبيين) ودحروهم.
ثم استلمت الراية شعوب أوروبا في الزمن اللاحق لتناضل ضد مضطهديها من أبناء جلدتها فانتزعت منهم ما سمي بحقوق الانسان من أبسطها إلى أعقدها.
إلا أن شعوب "العالم الثالث" كان قدرها أن تستعيد الراية لتواجه جبروت الغرب، الذي قاومته بسلاحها وبدمائها عقوداً طويلة، حتى تم لها الخلاص منه. وكنا في حومة ذلك الصراع مقاومات متناثرة بفعل التجزئة الذاتية والمفروضة، حيث أبلت الأمة البلاء الحسن في الجزائر فانتصرت، وكان الاستعمار والاستكبار يتبلور ويتكثف بقضه وقضيضه في فلسطين، وكان من المنطقي ان يستثير الأحرار في كل بقاع الأرض، وبشكل خاص في كل بقاع المسلمين، وبشكل أخص في كل بقاع الوطن العربي، وفي مقدمها الدول المحيطة، ورأس الحربة الشعب الفلسطيني الجريح.
حاول العرب، ثم راحوا يتساقطون شيئاً فشيئاً، الى أن اقتصر الجهاد، الى جانب الشعب الفلسطيني في النهاية، على شعبين من الأمة العربية مدّا حكومتيهما بإرادة القتال فقاتلتا، حتى انتفض مارد، من بين الركام من الضعف المقصود والذل الطوعي، مقاومة تجاهد كتفاً لكتف مع الشعب الفلسطيني، برغم ما كانت ترتكب قيادته الرسمية من أخطاء، تلك هي مقاومة المؤمنين اللبنانيين التي تابع فصيلها الأكثر أهلية المشوار الى التحرير.
من هنا، ولما كانت الصهيونية مستوطنة فلسطين أخطر أشكال العدوان وأكثرها بربرية، بل ووحشية، كان الرد عليها أشرف وأقدس مهمة، ومن يقم بها يمثل، لا طليعة العرب والمسلمين فحسب، بل طليعة شعوب المسكونة التائقة الى الحرية والمؤمنة بالحق.
وكأني بالمبدأ الهيغلي يتحقق هنا، لا بكون دولة تستلم الراية، لتمثل الروح الانساني، بل بكون فئة من الناس تقوم بهذا، بل هو المبدأ الالهي الذي فرض على بعض الناس أن يكونوا "خير أمة أخرجت للناس" فكانوها بعد الضياع والتردد.
إلا أن الاستكبار لا يستسلم بسهولة وهو لا يقاتل وجهاً لوجه دائماً، بل يستخدم الدروع البشرية ما أمكنه ذلك، من الشعوب التي ينوي القضاء على حرياتها، فترى روّاد الحرية يبتلون بقتالٍ يفرضه عليهم أبناء جلدتهم، يحركهم الطاغوت مدغدغاً مصالح آنية وعازفاً على أوتار العصبية المتخلفة، ثم يعمل الفكر والخبرة ويسخر العلوم الانسانية لابتكار الأساليب المتنوعة ليشوّه عظمة مقاوميه بالتشكيك وبالخطاب الديماغوجي (الشعبوي) وبإثارة الغرائز وبتغذية الاندفاعات الجماهيرية، ليضعها في مواجهتهم.
وهذا ما يمارس مع المقاومة اليوم من قبل جماعات بعضها لم يدرك وبعضها لا يستطيع أن يدرك وبعضها لا يستطيع أن يقبل بأن عمل المقاومة عظيم، بل يكاد يكون متجاوزاً سامياً، وبعض يقصر عزمه عن أبسط أشكال المطاولة.
في هذا الجو، بُعثت من مطاوي الإهمال أصوات تنادي بالعودة الى الانهزام، على أمل أن تثأر لما حاق بها عندما حاولت أن تكون حجر عثرة في وجه عمل مقاوم، وهنا يتذكرها من نسيها فيستخدمها، إن أمكنه، مخلب قطّ في حربه الضروس، وفي هذا الجو نفسه يتعلق روّاد حروب الحواجز والقتلة بدافع العصبيات الوضيعة ليحاسبوا المحرر على تحريره فيما هم كانوا يحررون زواريب الحارات الداخلية.
وفي هذا الجو يحين دور أناس كان العدو كلفهم، ليؤهلهم للمهام اللاحقة، بأن يوجهوا اليه بعض الشتائم أو يقذفوه ببعض الحصى أو يتباهوا ضده بعنتريات دونكيخوتية ليستخدموا في معركة هذا العدو ضد المقاومة، ليثأر من انتصارها عليه.
ان كل هؤلاء الذين يحاولون "أن يطفئوا نور الله بأفواههم"، يصورون للمطبلين والمزمرين أن هذا المارد عليه أن يقدم اليهم الحساب عما ارتكبت يداه تجاه الوطن بتحريره، تحت شعارات تهديده للسلم وللطمأنينة، وكأن سلماً أو طمأنينة سادا ربوعنا يوماً من الأيام.
انهم يريدون ان يعيدوا الاعتبار، ولكن على حساب العباد والبلاد، لمقولات عفا عليها الزمن، طارحين إياها بمرادفات جديدة. إلا أن الثوب الشفاف يكشفها ليفاجأ الناس بمبدأ "قوة لبنان في ضعفه"، وحياد لبنان (السويسراني) بين العرب والصهيونية، ذلك الحياد الذي اضطررنا الى دفع ثمن فاق ما دفعه من قرروا مواجهة الأعداء أضعافاً مضاعفة، وكأن الدروس نسيت، وما أخسر من ينسى الدروس.
ان محاولة المغامرة الجديدة لن تكون أقل كلفة لو قيّض لها أن تمارس، إلا أن يرى أنصارها أن ميدانها لا يعنيهم، وهذا ليس مستبعداً على ضوء التاريخ القريب وما مورس فيه وما طرح، فعندها يغامرون بغيرهم، كأن يوقنوا أن الجنوب، كما كان دائماً، سيكون الضحية، وأن الأمر بعيد عنهم، وأن دويلاتهم لن تدفع الثمن في يوم من الأيام.
إن المقاومة ببعدها التاريخي، عربياً وإنسانياً، لا يمكنها أن ترى تهديد الجنوب الا تهديداً للبنان، بل وللعرب وللمسلمين، وحتى للحرية الانسانية وللحق، وهي على قدر هذا التحدي، ولئن ارتضى أناس أن يكونوا شوكاً في دربها، فهي قررت أن تنازل على قدر قامتها، لا أن تنجر الى التلهي باقتلاع الشوك عن الاستجابة للتحدي الكبير.
لقد حملت المقاومة المشعل في هذا الشرق، من فلسطين الى ايران نيابة عن الانسانية جمعاء، وواجبها ألا تسلمه، بل ترفعه في مقدمة أحرار العالم حتى النصر النهائي.
الانتقاد/ قضايا واتجاهات ـ الانتقاد1155 ـ 31 آذار/مارس 2006