ارشيف من : 2005-2008
محمد عبده مقروءاً بلغة ما بعد الحداثة، السؤال المستعاد بعقل بارد

محمود حيدر
لم يدع الناقد والمفكر الفرنسي رولان بارت فرصة إلا وسعى فيها إلى ملء الفراغات التي تجتاح النص الثقافي. كان شغوفاً في التجديد وفي توجيه نقده الصارم للتقليد بمختلف ألوانه وأشكاله وتعيناته. وكان يحرص على القول إن الذين يتقاعسون عن تجديد القراءة يضطرون ان يقرأوا في كل موضع الحكاية نفسها.. لقد أراد "بارت" بهذا أن يستنقذ القراءات من التشيؤ والفوات.. ثم ليجعلها مفتوحة على الاجتياز والتخطي والتجدد، ذلك أن أي نص لا ينطوي كل مرة يُقرأ فيها على جديد ما، فإنما هو نص لا حياة فيه.
ما يحملك على هذا الاستحضار هو الكتاب الذي وضعه مؤخراً الباحث التونسي محمد الحداد عن العلامة والنهضوي الكبير محمد عبده.
هاجس الحداد على ما تبدّى لنا من "الاستقراء"، هو ذاك الذي نبّه اليه "بارك". فقد مضى الى قراءة جديدة في خطاب الاصلاح الديني، فبدا كما لو أن محمد عبده يُقرأ على نحو غير مسبوق. فالذي سعى اليه الباحث كان أقرب الى المساءلة والحفر منه الى البحث التقليدي الأكاديمي في ظاهرة معرفية استحوذت، سحابة قرن كامل، على دراسات وقراءات وأبحاث وأسئلة لا حصر لها.
فقد توزعت دراسته على أربعة فصول كل فصل منها هو بمثابة جهد مبذول لبلوغ أطروحة.
كان الباحث صريحاً مع قارئه، حين ذكر أن عمله هو أطروحة دكتوراه نوقشت في جامعة السوربون عام 1994 تحت إشراف الفيلسوف الجزائري محمد أركون، وكان واضحاً في التعريف برحلته الفكرية مع الشيخ محمد عبده، حين بيّن بأن غايته لن تكون الإجابة مباشرة عن السؤال المطروح اليوم بإلحاح: هل يمكن أن يتطور الفكر الديني في الإسلام من الداخل؟
هذا السؤال سيشكل المنطلق لدراسة التجربة النهضوية التي جسّدتها التجربة المخصوصة لمحمد عبده (1849 ـ 1905)، ومع ذلك فإن الباحث يصرّ على أن غايته من الأمر ليست في استلهام حلول راهنة من دروس تجربة سابقة. لكن القارئ سيرى أن الجدل الذي نتابع وقائعه اليوم يعود بنا الى خط البداية. وهو الخط الذي يتمثل عند المؤلف كما عند محمد عبده قبل أكثر من مئة عام، بالمحاضرة التي ألقاها رينان سنة 1883 واتخذت موضوعاً لها "الإسلام والعلم".. يومذاك أثارت هذه المحاضرة جدلاً كبيراً بين المفكرين والمتكلمين المسلمين. وعلى هذا الجدل سوف يتأسس وعي العلاقة بين الاسلام والتنوير الغربي. وعلى أي حال فإن إعادة وضع الإمام محمد عبده في إطار الجدال النهضوي الراهن وأسئلته المفتوحة سيضع المؤلف أمام السؤال عما إذا كان أتى بجديد يضيف خطباً جللاً الى ذلك الركام الهائل من الدراسات والأبحاث المتصلة بهذا الشأن؟
لماذا العودة الى الإمام؟
لقد تنبّه المؤلف الى السؤال وهو يعترف بأن من حق القارئ أن يتبرم من كثرة الدراسات حول هذا الموضوع، لأنها دراسات يكرّر بعضها البعض، لكن ينبغي تحديداً التساؤل عن سبب هذا التكرار: أتراه استنفاد الحديث حول الموضوع أم هو الاكتفاء بمنهج واحد في التعامل مع النصوص المدروسة، منهج بلغ حدوده القصوى منذ أمدٍ فلم يعد ينتج غير المكرر؟
تتضح خطورة هذا التساؤل ـ برأي الباحث ـ حين يتبين أن الدراسات المقصودة تدور حول أثرين رئيسيين هما: "تاريخ الأستاذ الإمام" و"رسالة التوحيد".. إلا أن المشكلة تظهر حين يجري التعامل مع النص التاريخي والنص الديني ثم يتضح أنهما لم يشهدا نقلة نوعية منذ مطلع القرن المنصرم (العشرين). ولكأن رشيد رضا مثلاً هو الذي يكتب التاريخ برغم توقيعات عشرات الباحثين.. أو لكأن الوعي بالقضايا التي تثيرها الظاهرة الدينية لم يتجاوز مستوى طلبة الأزهر منذ أكثر من قرن، وهم يستمعون الى دروس عبده في التوحيد، وذلك برغم الزخرفة اللفظية التي تتجمل فيها العديد من الكتابات.
هكذا يتدرج المؤلف للإفصاح عن غايته، ليصل الى القول إن الغاية من النص هو فهم خطاب عبده فهماً جديداً.. مع أن الطموح الأكبر هو المساهمة في تجديد التعامل مع الخطابين الديني والتاريخي. ولعله من باب التسويغ البحثي في العودة الى الإمام ذهب المؤلف الى ضرب من التخطيط الهندسي الجديد في التعامل مع اشكالية النهضة، ولهذا فقد سار التخطيط على النحو التالي:
أولاً: كيف يمكن تحديد بنيات مستقرة في التراث العربي ـ الإسلامي الذي مثل مزيجاً معقداً من التيارات والتأثيرات والمواقف. وهذا السؤال سيجد دخولاً جدياً في الجواب عنه من خلال سياق البحث.
ثانياً: كيف يمكن مواصلة الحديث عن الحداثة بعد أن أصبحت محل نقد بنيوي وتاريخي واستمولوجي وفلسفي اتضح منه انه خطاب قائم على كثير من المسلمات والمعميات؟
ثالثاً: كيف يمكن إيجاد منهج للبحث يتسم بالموضوعية لكنه لا يغلق مجال التفكير في القضايا المطروحة باسم الحياد المنهجي وكفاية التحليل التقني للنصوص؟
رابعاً: كيف يمكن تحديد مدوّنة مستقرة و"مغلقة" اذا كانت الثقافة القديمة قائمة على النص المفتوح، أي النص غير القائم بذاته، بل المؤوّل لغيره والمنخرط في حركة تأويلية لا قرار لها؟
خامساً: كيف يمكن للعقل الأكاديمي بصفته عقلاً نظرياً أن يقرأ النص المكتوب لغايات عملية من دون أن يفرض عليه منطقه ويجرّه من سياقه ويفكك وحدته؟
هذه الأسئلة حول القضايا المثارة في كتاب محمد الحداد ستتوزع على بساط واسع ومعمّق من البحث الأبستمولوجي النقدي وذلك في إطار أربعة فصول، إضافة الى المقدمات المنهجية والخاتمة الاستنتاجية. وهي جاءت على الشكل التالي: ـ تسييج النص بالنص (دراسة في التقبل) ـ المسالك الى التراث ـ العقل الاخلاقي ـ المنافذ الى الحداثة.
ويتحدث المؤلف في معرض حجّته النظرية عن مؤلفه في سياق عملية توظيف النص، فيبين ثلاثة نماذج من التوظيف:
1 ـ توظيف الإمام عبده لنصوص التراث العربي الإسلامي.
ب ـ توظيف عبده نصوص الحداثة الأوروبية.
ج ـ توظيف الأجيال العربية نصوص عبده.
وهكذا تمثل ظاهرة التوظيف الخيط الرابط بين أجزاء الدراسة، لأن مجموع القراءات التي يقوم بها عبده أو يخضع لها تتم ضمن تصور واحد لقضية الدلالة يغترّ بالاستقرار الظاهر في سطح الخطاب، فلا يبحث في تغيّر أشكال إثباته، مع أن هذا التغيّر يسفر عن أوضاع بالغة التعقيد. وهنا لا بد من تجاوز النظرة التقليدية في تاريخ الأفكار التي تكتفي بالتقريب بين أفكار ومفاهيم انتزعت من سابقها الأصلي، أو نظن أنها توضح السياق عندما تعرض تصوّر الكاتب او جيله لما يحيط بهما. تظن أنها بذلك تضمن صحة القراءة وتلتزم بالأمانة للنص. لكن العلاقة بين الكاتب والمحيط هي علاقة متشعبة، فيها من التأثير والتأثر بقدر ما فيها من تباين ردود الفعل. ان المعنى الإجمالي لثقافة معينة في هذا النحو لا يمكن أن تُستخرج من مجرد ركام المعلومات، فالفكر العربي الحديث يبدو أمام إشكالية من الإشكاليات الكبرى التي تطرحها الهرمنيوطيقا الحديثة، حيث السؤال الكبير هو: ما العمل أمام تشوّش: الرابط المرجعي"؟..
(كان المفكر والفيلسوف الفرنسي بول ريكور يسعى دائماً الى البرهنة على حقيقة أن الكتابة تجعل النص مستقلاً عن مقصد صاحبه.. اذ ان معنى النص المكتوب لا يطابق تماماً ما أراد الكاتب قوله، وإن المعنى المنطوق، أي المعنى النصّي، والمعنى الذهني، أي المعنى السيكولوجي، يتوجهان نحو مصيرين مختلفين، والمشكل لا يُطرح هنا لمجرد أن آثار محمد عبده كانت في الأصل دروساً أُلقيت في الغالب مشافهة، لكن لأن الكتابة في ذاتها كانت تمثل لديه شكلاً من أشكال المشافهة.
ثمة إذاً قراءة تنطوي على ضرب جديد من التناول المعرفي للإمام وأعماله، وهو ما يعطي أهمية للنص الذي جاء في محاذاة ركام هائل من النصوص النهضوية، والتي لا تني تدور في تلك الحلقة المغلقة من الأسئلة التي لم نجد جواباً عنها منذ نحو قرن كامل من الزمن.
هل أفلح الحداد في ما صنع؟
ذلك ما سيتبين للقارئ من خلال القراءة والتأويل والتأمل.
الانتقاد/ قضايا واتجاهات ـ العدد 1157ـ 14 نيسان/ ابريل 2006