ارشيف من : 2005-2008

"اتفاقية 17 أيار: الصفحة السوداء التي يجب أن تطوى إلى الأبد"

"اتفاقية 17 أيار: الصفحة السوداء التي يجب أن تطوى إلى الأبد"

بقلم: أحمد دروبي‏

في أعقاب اجتياح "إسرائيل" للبنان في 5 حزيران/ يونيو 1982، جرت مفاوضات لبنانية ـ إسرائيلية برعاية الولايات المتحدة أسفرت عن "اتفاق 17 أيار/ مايو"، الذي جاء انعكاساً لذاك الخلل الذي ساد يومذاك النظام السياسي اللبناني، والذي مكّن كلاً من العدوان الإسرائيلي والنفوذ الاميركي من التأثير المباشر على توجهات السياسة الخارجية اللبنانية.‏

إن ضرب صيغة التعايش اللبناني كان هدفاً صهيونياً أساسياً كي يغرق لبنان في التجزئة والانحلال، وحينئذ يبقى النموذج الإسرائيلي عبر دعايته الواسعة في العالم، النموذج الأول في "غابة الشرق الأوسط"، حيث انه يبدو جلياً أن لبنان لم يكن يوماً مستثنى من الخريطة الصهيونية.. فإضافة إلى المطامع الصهيونية في أرضه دينياً وتاريخياً واستراتيجياً واقتصادياً نجد أن لبنان بحكم صيغة التعايش التي سادت مجتمعه، كان يشكل النموذج المغاير للنموذج الإسرائيلي القائم على التعصب الديني واللامساواة، لذلك كانت وما زالت عملية القضاء على وحدة الشعب اللبناني هدفاً صهيونياً أساسياً.‏

من هنا جاء اتفاق 17 أيار ليعبر تعبيراً واضحاً لا لبس فيه عن حقيقة المطامع الصهيونية في لبنان، التي كان الحديث عنها قبيل الاجتياح الإسرائيلي يعتبر في بعض الأندية السياسية حديث ترف فكري، وخاصة أن السياسة الإسرائيلية بمجملها كانت تتحاشى الإعراب عن مطامعها الحقيقية في لبنان.‏

كما عكس اتفاق 17 أيار مدى ضعف الالتزام الوطني والقومي الذي ساد السياسة اللبنانية بمجملها. اذ برغم التزام لبنان بالقرارات العربية التي من أهمها القرار الصادر عن مؤتمر القمة العربي الأول (1964) الذي قضى بإنشاء القيادة العربية الواحدة، فإن تلك السياسة لم تُبن يوماً على سياسة الحرب ضد "إسرائيل"، ولا حتى على سياسة الدفاع.‏

وبالنظر إلى الدوافع التي تقف وراء إبرام اتفاق 17 أيار، نجد أنه إذا كان الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي وسيلة في نظر الحكم اللبناني (وفقاً لتصريحات بعض المسؤولين حينذاك)، لإجلاء القوات الأجنبية عن الأراضي اللبنانية، فإنه كان في نظر الإسرائيليين هدفاً في ذاته بالدرجة الأولى، ووسيلة بالدرجة الثانية لتأمين سلامة الحدود الشمالية للدولة اليهودية. كما أنه كان خطوة ثانية على طريق عقد مصالحة مع كل دول المواجهة العربية، دولة إثر أخرى، بدءاً بمصر ومروراً بلبنان.‏

وكان هذا المطلب (السعي لعقد معاهدة سلام ذات شروط استسلامية مع لبنان) على رأس المقررات الستة لمجلس الوزراء الإسرائيلي في 10 ـ 10 ـ 1982 حول شروط المفاوضات والانسحاب من لبنان. كما وضع سادس تلك المقررات الترتيبات الأمنية التي يجب أن تُتخذ قبيل الانسحاب للتأكد من أن لبنان لن يكون مرة أخرى "قاعدة لأعمال عدوانية ضد إسرائيل".‏

وهكذا نجد أنه اذا كانت الصهيونية القديمة قد ركّزت ـ على لسان بن غوريون ـ على وجوب أن تعقد "إسرائيل" في المستقبل البعيد معاهدة سلام مع لبنان، فإن الصهيونية الجديدة التي تنتهج سياسة تزداد عدوانية وتصلباً مع مرور الوقت، لم تغفل أهمية أن يجري تسخير التقدم العسكري الذي حققته "إسرائيل" باجتياح عام 1982 لفرض معاهدة سلام ذات شروط تعجيزية على لبنان.‏

كما أنه نظراً الى مواد اتفاق 17 أيار وفقراته، نجد أن ذلك الاتفاق لم يكن في حقيقته إلا انتهاكاً للسيادة الوطنية، وتأميناً للوجود العسكري الإسرائيلي بشكل أو بآخر عوضاً عن إخراجه، وإبعاداً للبنان عن محيطه العربي، وإلغاءً لكل التزاماته السابقة في جامعة الدول العربية. فقد ورد في المادة (4 رقم 2) من "اتفاق بين حكومة الجمهورية اللبنانية وحكومة دولة "إسرائيل": "يحول كل فريق دون وجود أو إنشاء قوات غير نظامية أو عصابات مسلحة أو منظمات أو قاعدة أو مكاتب أو هيكلية تشمل أهدافها أو غاياتها الإغارة على أراضي الفريق الآخر.. أو أي نشاط يهدف الى تهديد أو تعريض أمن الفريق الآخر أو سلامة شعبه للخطر".‏

"ويُفهم من هذا أن لبنان لن يستطيع الموافقة على افتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية (مجرد مكتب سياسي وإعلامي شبيه بالمكاتب المفتوحة للمنظمة في مختلف بلدان العالم) دون أن تعتبر "إسرائيل" ذلك خرقاً للاتفاق"، كذلك سيصبح بموجب ذلك "كل حديث أو بيان أو تفكير بالجنوب والقدس والجولان والأراضي العربية المحتلة مخالفاً للقانون يستوجب السجن والتعذيب".. كما يرى الدكتور عدنان السيد حسين في كتابه: "الاحتلال الإسرائيلي في لبنان".‏

وبناءً على اتفاقية 17 أيار كان يفترض أن تنسحب "إسرائيل" من الأراضي اللبنانية خلال مدة تتراوح بين ثمانية أسابيع واثني عشر أسبوعاً من تاريخ سريان مفعولها، ولما لم تنسحب، ظهر أن ما كان مستتراً بُعيد الاتفاقية كان أكثر إمعاناً في المذلة.. فالانسحاب الإسرائيلي كان مشروطاً بالانسحاب السوري والفلسطيني وتسلم الأسرى، وتلك الشروط حددتها "إسرائيل" في رسالة خاصة الى الولايات المتحدة. ولا يبدو أن الجانب اللبناني أثناء المفاوضات كان متنكراً لهذه الشروط، وما خلت منه بنود الاتفاقية لمّح اليه انطوان فتّال رئيس الوفد اللبناني عند التوقيع، إذ قال بالفرنسية: "ان الاتفاق الذي لي شرف توقيعه اليوم باسم حكومة الجمهورية اللبنانية هدفه الأساسي وضع حد لثماني سنوات من الحرب والفوضى.. إنه يرمي الى تأمين انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان التي دخلت أرضنا في أزمات وظروف مختلفة".‏

ومن هنا يُلاحظ "أن المعاني التي تضمنتها كلمة رئيس الوفد اللبناني تعدت حدود اتفاقية مع عدو محتل لإنهاء حرب، فهي لفظاً وضمناً قد وضعت الخطوط السياسية التالية:‏

ـ مساواة الأشقاء العرب من سوريين وفلسطينيين بالعدو الصهيوني.‏

ـ ربط الحرب الأهلية بالموضوع الإسرائيلي، لا باعتبار "إسرائيل" من مؤججي تلك الحرب، بل باعتبارها منقذاً.‏

ـ الابتعاد كلياً عن تحديد مسؤولية الاجتياح، وإلقاء اللوم كلياً على مسببي الحرب الأهلية بصفة الغائب. ويبدو أن الفرقاء الثلاثة المجتمعين كانوا متفقين على ذلك الغائب.‏

وبالتالي "لم تكن الخطوط السياسية هذه الا خطوطاً رئيسية تجذب السياسة اللبنانية نحو المحور الإسرائيلي الأميركي". كما ترى الدكتورة بيان نويهض في كتابها: "تطور النظام الدستوري والسياسي في لبنان 1992 ـ 1995".‏

وأما رأي المحللين السياسيين في الاتفاق فهو الرفض القاطع. وفي هذا الصدد يرى الدكتور جورج ديب أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية أن التفاوض مع "إسرائيل" "على ترتيبات أمنية يعني التنازل عن السيادة اللبنانية، والإقرار بحق "إسرائيل" في التدخل في شؤوننا الداخلية. فالقاعدة القانونية المتفق عليها لا تُجيز لأي دولة سواء أكانت دولة احتلال أو دولة صديقة أو معادية، أن تحدد الطرائق والوسائل التي ينبغي لدولة أخرى أن تتبعها في توفير الأمن وتحقيق الهدوء والاستقرار في أراضيها".‏

واعتبر الدكتور حسن الجلبي الأستاذ السابق في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية والرئيس الحالي للجامعة الإسلامية في لبنان، أن المادة العاشرة الفقرة الثالثة التي تنص على أنه يمكن تعديل الاتفاق أو تنقيصه أو استبداله برضا الفريقين، قد أغلقت الباب بالكامل في وجه إنهاء ذلك الاتفاق.. إلا باستبداله باتفاق آخر يمضي الى أبعد منه، إذ لا يعقل أن تقبل "إسرائيل" بالتعديل والتغير إلا بما هو أقوى وأمضى في خدمة مصالحها وأهدافها وسياستها في المنطقة.‏

واعتبر الدكتور إلياس سابا وزير المالية والدفاع السابق، أن المادة السادسة من الاتفاق التي تنصّ على أن "يمنع كل فريق دخول أرضه أو الانتشار عليها، أو عبورها لقوات عسكرية، أو معدات أو تجهيزات عسكرية عائدة لأي دولة معادية للفريق الآخر، بما في ذلك مجاله الجوي وبحره الإقليمي.."، هي تخالف المادة (2) من اتفاق الدفاع العربي المشترك، حيث تعتبر الدول المتعاقدة بموجبها "كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها أو على قواتها، اعتداءً عليها جميعاً.. وكذلك فإنها تلتزم بأن تبادر الى معونة الدولة أو الدول المُعتدى عليها".‏

وهكذا وبعدما تبين لمعظم اللبنانيين حقيقة الهدف الإسرائيلي من وراء إبرام اتفاق 17 أيار، الذي يقوم على إقامة حكم لبناني طائفي هزيل تابع لـ"إسرائيل"، صفته الأولى أنه حكم على "طوائف لبنانية" لا على "شعب لبناني"، أي أنه نظام حكم قائم على أساس الانقسامات الطائفية، وأما صفته الثانية فتكمن في تجاوزه لما يُسمى "بالهوية العربية اللبنانية"، حينذاك انبرت الفئات الوطنية والإسلامية على اختلاف معتقداتها ومنطلقاتها السياسية، وبالتعاون الوثيق مع كل من سوريا وإيران، للتصدي لاتفاق 17 أيار، فكانت الحرب غير المنظورة، وهي الحرب الحقيقية التي انتهت بإلغاء اتفاقية 17 أيار، حيث عاد البرلمان اللبناني وألغاها، وذلك بعدما أدرك رجال الحكم في لبنان استحالة تنفيذ اتفاق 17 أيار، نتيجة للانتصار الذي حققته المعارضة في الجبل وفي الضاحية الجنوبية، ونتيجة لتصاعد أعمال المقاومة الإسلامية والوطنية، ونتيجة لمعارضة سوريا المطلقة له.‏

وقد سادت "إسرائيل" خيبة أمل كبيرة لفشل الاتفاقية، وفي اطار مراجعة الحسابات تجلى عبر وسائل الإعلام المتعددة اتفاق في الرأي العام الإسرائيلي على فشل أهداف الحرب كلها. وفي هذا الصدد قال أوري لوبراني: ان إلغاء لبنان من جانبه لاتفاقية 17 أيار كان صفعة لـ"إسرائيل" وصفعة للولايات المتحدة. كما أكد إسحاق رابين في مقال له حول أهداف "إسرائيل" في لبنان: غياب أي إنجاز حقيقي من حرب لبنان.‏

ان إلغاء اتفاقية 17 أيار لم يكن من باب المعجزات أو المصادفات، فالساحة الوطنية اللبنانية برغم كل ما يبدو فيها من تناقضات هامشية، قد تمكنت عبر التعاون الوثيق مع سوريا، ليس من تخطي عقبة 17 أيار، فحسب، بل إعلان عروبة لبنان حقيقة تاريخية، وهوية دائمة ما عادت تخضع للمساومات.‏

من هنا تكمن اليوم أهمية وجود حالة من الممانعة الذاتية لدى الفئات الوطنية والإسلامية على اختلاف معتقداتها ومنطلقاتها السياسية من أجل مواجهة الأطماع الصهيونية والمخططات الاميركية في المنطقة العربية، وكذلك من أجل مواجهة دسائس ومراهنات القوى الطائفية المتطرفة التي ما زالت موجودة اليوم على الساحة السياسية اللبنانية برغم ضعفها الظاهر.‏

ومن هنا أيضاً تكمن أهمية تلك العلاقات المميزة التي يقيمها لبنان مع كل من سوريا وإيران من أجل مواجهة المؤامرات الصهيونية التي تتمثل اليوم في بنود القرار الدولي رقم 1559 والتي تهدف الى القضاء على المصدرين الأساسيين لحالة الممانعة اللبنانية وهما: سلاح المقاومة والعلاقات الاستراتيجية مع سوريا، وذلك تمهيداً لنشوء اتفاق 17 أيار جديد، وهذا أمر مستحيل التحقيق لأن عجلة التاريخ لا يمكن أن تعود الى الوراء ما دامت موازين القوى وأوراق اللعبة السياسية في المنطقة العربية في تغير مستمر.‏

الانتقاد/ قضايا واتجاهات ـ العدد 1161 ـ 12 أيار/مايو 2006‏

2006-10-28