ارشيف من : 2005-2008

السلفية الجهادية : بديات ومآلات

السلفية الجهادية : بديات ومآلات

New Page 1

السلفية الجهادية

:بدايات ومآلات


إعداد : أسامة مناصفي ـ ينشر بالاتفاق مع موقع انباء الإخباري

مقدمة:

إذا صح أن ثمة تنظيماً حقيقياً يحمل اسم "القاعدة" بهرمية قيادة، ومركزية قرار،

وأهداف معلنة، وأيديولوجيا جامعة، وإذا كانت لهذه "القاعدة" استراتيجية ما في

صراعها مع الغرب والشرق معاً بما في ذلك كل حكومات الأرض، فلا مناص من قراءة عميقة

في الخطاب الذي تنتجه "القاعدة" بوفرة كمية وحدّة نوعية غير مسبوقة مقارنة بالحركات

الإسلامية المعاصرة ونظراً للظروف المختلفة التي تحيط بها.

إن ما يسمى بـ"القاعدة" قد يكون مجرد فكرة تجنِّد اشخاصاً وتسخِّر موارد، وقد لا

يكون التنظيم المفترض سوى شكل هلامي في أقل تقدير لا يقوى على الضغوط الأمنية

فيتفتت إلى مكوناته الأولى لدى أول صدمة عنيفة، وليس شرطاً أن يحافظ بعد ذلك على

انسجامه وتماسكه الداخلي. ويمكن القول إنه الآن بعد غزو أفغانستان ليس سوى كائن

"سيبرنطيقي" يخوض معارك الكر والفر على الشبكة العنكبوتية، أو هو في أفضل الأحوال،

نواة صغيرة جداً، لكن صلبة وعنيدة مكونة من الدعاة المتحمسين والخبراء العسكريين

الشديدي المراس، القادرين في أحوال ملائمة على تشكيل جسم عسكري وأمني وإعلامي متعدد

المهام والأجناس، مفارق للحدود واللغات، ومتجاوز للخلافات التكتيكية التي قد لا

تعدو أن تكون مجرد تفاصيل في التيار السلفي الجهادي العريض والذي يتخطى بالتأكيد

المدرسة السلفية التقليدية من أتباع محمد بن عبد الوهاب.

ولأن الفكرة تمثل نقطة الثقل في هذا التنظيم، بما هي قوة معنوية حافزة وسط التحديات

المتلاطمة التي لم يواجهها أي تنظيم من قبل، وبتصميم عز نظيره في التاريخ، فإن

مقاربة الجانب الفكري الأيديولوجي يكتسي أهمية فائقة لتحقيق هدفين متلازمين سواء

للخصوم أو الأنصار:

الأول سبر غور القاعدة لكشف نقاط القوة والضعف فيها.

والثاني تعيين الوسائل الأكثر نجاعة لاحتوائها في مرحلة أولى ثم القضاء عليها

لاحقاً، أو تسديد خطاها وترميم فجواتها وتقويتها من أجل متابعة المسيرة بالنسبة

للطرف الثاني.

وهنا يُطرح سؤال جوهري عن مدى قدرة الولايات المتحدة على إنجاز الأمر الأول منهما

فضلاً عن تحقيق الثاني، علماً أن الشواهد تدل على فشل نظري في فهم الظاهرة وفشل

عملي أكبر في مواجهتها بذكاء وحكمة ما أدى إلى تفاقم الخطر بدلاً من خموده.

وإذا كانت الاستراتيجية لدى هذه الحركة غير قائمة بنظر من هم خارج "القاعدة"، حيث

يتهمونها بعمى الألوان والجهل بالأولويات وعدم التعامل مع الواقع كما هو، بل كما

يرغب فيه قادة "القاعدة" ومنظروها المعروفون، فإن ثمة استراتيجية موجودة بالفعل

برأي من هم في الداخل، وهي مبثوثة في البيانات والتصريحات والمقالات والدراسات

والأفلام المتداولة على شبكة الإنترنت خاصة، هذا مع لحاظ أن "القاعدة" تفكر وتراجع

أساليبها حتى وهي في طور القتال دفاعاً وهجوماً، فراراً من الأعداء المطاردين لها

في كل مكان، وتسللاً من مكان غير آمن إلى آخر قد يكون أقل أمناً. وهي أيضاً تكتب

أفكارها وتجاربها، وأفضل كتابها هم الممارسون المجربون في ميادين القتال، وبعضهم من

أشهر قادتها الميدانيين الذين سقطوا في صدامات مسلحة في ساح مختلفة من العالم. إذاً

نحن أمام تجربة غريبة من نوعها، ولعله هنا تكمن خطورتها وقدرتها على التجنيد

والتخطيط والتنفيذ، فالفكر الذي يُقتل صاحبه في الميدان يرتقي إلى درجة عالية من

التقدير والاحترام بين جمهوره فيستعصي على النقد عادة رغم ميل "القاعدة" إلى مراجعة

أخطائها بنفسها، كما أن "القاعدة" تمعن باطراد في مقارباتها العملية استقاء من

الواقع نفسه بعيداً عن التنظيرات الجامدة التي تقع فيها عادة الحركات الإسلامية غير

المجربة، وإن كان ثمة خطر آخر هو أن تنجرف في المقتضيات العملية فتبتعد عن مبادئها

هي تدريجياً. ولا ينحصر التأثر والتأثير في الحلقة الأقرب إلى المدرسة السلفية

فالأقل قرباً على التوالي، بل ربما حقق الفكر المذكور قفزات نوعية وغير متوقعة في

النفاذ داخل شرائح بعيدة كانت حتى زمن قريب غير متدينة أصلاً أو حتى غير

مسلمة‍‍‍‍‍‍‍، والفضل لا يعود بالضرورة إلى القيمة الذاتية لهذا الفكر، بل إن الفكر

المضاد الهائج الذي لا يفرق بين الإسلام ككل وبين أيديولوجيا الجهاديين خاصة، يتسبب

بانتشاره بدلاً من الانحسار المتوقع في كل مرة تصيب فيها الأضرار الجانبية الجسيمة

عدداً كبيراً من المسلمين في موقع الحدث.

باختزال أولي يمكن القول إن استراتيجية "القاعدة" امتداد طبيعي للأيديولوجيا

الحاكمة فيها، إن لم تكن تنطوي على الأيديولوجيا نفسها مع بعض الإضافات الفنية وحسب

مما يقتضيه الحال، في حين أن الفكر الجهادي يتضمن بذاته الأهداف والوسائل التي تشكل

بمجموعها الاستراتيجية المعمول بها، ويتجلى ذلك أحياناً عبر فتاوى مفصلية أباحت

الإرهاب بمعنى قتل المدنيين في سياق الصراع، فيما سمي بالإرهاب المحمود حسب أدبيات

التنظيم..

فما هو الوعاء الأيديولوجي لـ"القاعدة"؟ هل هو السلفية؟ وأي سلفية تتبعها

"القاعدة"؟ وما الذي يميزها عن السلفيات الأخرى؟ هل "القاعدة" إطار موحد تنصهر فيه

الجماعات المتشابهة المنبت والهدف والأسلوب، أم هي غطاء فضفاض لمجموعات متفاوتة في

التشدد وكذلك في الأسلوب؟

النشأة الأولى

لقد انبثق التيار السلفي الجهادي في المملكة العربية السعودية من رحم المدرسة

السلفية التقليدية المتحالفة تاريخياً مع آل سعود، في الثمانينات من القرن العشرين،

إثر اجتياح الجيش السوفياتي لأفغانستان، ومع توجه أمريكا للاستعانة بالإسلام في

مواجهة الشيوعية الزاحفة آنذاك نحو المياه الدافئة ونفط الخليج. هذا التيار تعضّد

بالمجاهدين العرب الذين قادهم الدكتور عبد الله عزام، وهو وإن كان من جماعة الإخوان

المسلمين ابتداء لكنه تأثر أكثر بفكر سيد قطب المتميز عن المقولات الرسمية للإخوان،

ويمثل عزام مدرسة إخوانية متأثرة بالسلفية دون أن تذوب فيها. كما أن سلفية أخرى

كانت قد نشأت في مصر الرافد الثاني لتنظيم "القاعدة" لاحقاً، وهي تتخطى المنطق

السني التقليدي وكذلك التوجهات السلفية المعروفة التي تتحفظ على أي محاولة للثورة

ضد الحاكم الظالم ما دام مسلماً في الظاهر. وهي سلفية جهادية بهذا المعنى وانطلقت

إلى أفغانستان وهي تحمل هذا الفكر المعتمد على كتابات ابن تيمية بشكل أساسي. وهناك

في أفغانستان تفاعل التياران المتشابهان المترادفان، فابتعد السلفيون الجهاديون

السعوديون تدريجياً عن المرجعية التقليدية دون أن يتخلوا عن ميراث محمد بن عبد

الوهاب، وتميز السلفيون القطبيون (المصريون وغيرهم) على مراتبهم المختلفة عن تيار

الإخوان المسلمين، بل انشقوا عنهم قولاً وفعلاً في نهاية الطريق.

وحين تمكنت حركة طالبان من السيطرة على معظم أفغانستان بات على "القاعدة" التعامل

مع سلفية من نوع آخر، لا علاقة لها بالوهابية، لكنها تلتقي معها في كثير من الأمور.

فالطالبانيون تابعون مذهبياً للإمام أبي حنيفة النعمان، وهو رأس مدرسة الرأي لدى

أهل السنة، وهو مقل في الاحتجاج بالحديث النبوي. لكن مسلمي شبه القارة الهندية

الذين نبغ منهم علماء حديث كبار في القرون الحديثة، أوجدوا مؤالفة غريبة بين نصوص

الحديث وقواعد الفقه الحنفي، أي ظلوا أتباع المذهب مع ترجيح العمل بالحديث وتحكيمه

بالفقه. وطالبان تبعاَ لذلك، سلفية حنفية مختلفة عن السلفية الحنبلية (نسبة إلى

الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب السني الرابع) وعن الوهابية انتهاء.

وسطية عزام وبن لادن

ويُعتبر سيد قطب المرجع الثاني المشترك بين التيارين السلفيين المتعادضين في

البداية المندمجين أخيراً بما سمي بـ"قاعدة الجهاد"، والمؤلفة من تنظيم القاعدة (بن

لادن) والجهاد الإسلامي (الظواهري). فإذا كان عبد الله عزام واسطة العقد بين

التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والتيار الجهادي الطري العود آنذاك، كان يُلقب

بسيد قطب الأردن، بما يميزه عن التيار الأم، فإن الدكتور أيمن الظواهري الذي هو جسر

العبور للمجاهدين العرب وعلى رأسهم أسامة بن لادن من العقيدة السلفية التقليدية إلى

عقيدة الولاء والبراء المكفرة أخيراً للدولة السعودية الحالية، قد استند إلى "ظلال

القرآن" و"معالم في الطريق" لسيد قطب من أجل رسم عالمه الجديد من دون حسن البنا

الرجل الأسطورة والمؤسس لتيار الإخوان، بل إنه خصص كتاباً منفرداً لإدانة البنا

وسياساته البراغماتية إزاء الملك فاروق تحت عنوان "الحصاد المر".

أما عزام فهو وإن كان يعتبر أن حسن البنا قد أحسن الظن بالحكام العرب في عصره، وأنه

أخطأ في عدم إرسال أعداد كافية من الشباب المسلم لتحرير فلسطين عام 1948، لكنه يجله

ويحترمه وقد تأثر كثيراً بكتاباته، لا سيما "الرسائل".

وعلى حواف القطبين المتنافرين ظاهراً، عزام والظواهري يميناً ويساراً، تبرز أسماء

أخرى وتيارات، منها ما هو أقرب إلى السلفية التي تدين الولاء لولي الأمر وتلتزم

بالبيعة، أو من يعتبر حركة الإخوان مرجعه الأساسي، ومنها من تذهب إلى حد التنصل من

فقهاء السلطان كما يوصفون وتكفير الدولة السعودية ذاتها رغم ما تمثله المملكة في

العالم الإسلامي، ومن يوسع دائرة الإقصاء ليشمل شرائح إسلامية أخرى، كما في

المبالغة في تكفير أهل السلطة والموالين لهم ومعاونيهم. وعليه، يحتل أسامة بن لادن

موقعاً وسطياً بين هؤلاء وهؤلاء، والوسطية هنا نسبية طبعاً، فهو متعدد المشارب

الفكرية، بين الإخوان المسلمين والسلفية الوهابية، وقد تدرج في المعارضة من النصيحة

لولي الأمر والتشديد عليه بالكلام بسبب الاستعانة بالقوات الأمريكية لطرد صدام حسين

من الكويت وحماية المملكة، نهاية بتكفير النظام السياسي بسبب موالاته للغرب وخضوعه

للأمم المتحدة وشرعة القانون الدولي.

وسطية بن لادن تختلف عن وسطية عزام بالتأكيد، وذلك مرجعه إلى اختلاف طبيعة التحالف

الجديد بالمقارنة البسيطة بين الجبهة الإسلامية العالمية لمقاتلة اليهود والصليبيين

عام 1998 ومكتب الخدمات أيام الجهاد الأفغاني بداية الثمانينات من القرن الفائت،

واختلاف موازين القوى داخل كل جهة، كما اختلاف الظروف المحيطة واختلاف نوعية

المخاطر والتحديات، واختلاف الطموحات كذلك. فإذا كانت أغلبية المجاهدين العرب أيام

عزام من الحركيين والسلفيين التقليديين، فإن الكتلة الرئيسية في تنظيم "القاعدة"

الآن من المنشقين عن التيارات الإسلامية الرئيسية.

في الحلقة القادمة:

ـ الجهاد قبل الصلاة

ـ لا إذن في الجهاد الفرض

ـ فلسطين وخطأ البنا

2006-10-28