ارشيف من : 2005-2008
السلفية الجهادية: بدايات ومآلات ـ الحلقة الرابعة

بحث/خاص: ينشر بالتعاون مع موقع "إنباء" الإخباري
كتب أسامة مناصفي
القاعدة الصلبة بعبارة أخرى، لا يكفي الإسلام وجود قاعدة نظرية هي العقيدة، بل لا بد من تأسيس القاعدة المادية التي عبّر عنها سيد قطب بـ"التجمع العضوي الحركي". أما عبد الله عزام فراح يبحث عن بقعة أرض لهذا التجمع فوجدها في أفغانستان. ويقول في هذا المجال: "إن المبادئ لا ينصرها إلا النفوس الصادقة والفطر السليمة، وإن هذا الدين قد انتصر في كل مرة بشعب خامته طيبة وفطرته سليمة; فانتصر أول مرة بالعرب الأميين، وحكم الشعب التركي بإسلامه مع أميته ربع العالم وعلى مدى خمسة قرون متتالية. ولقد رأيت أن أصالة الشعب الأفغاني بإباء رجاله وحصانة نسائه مع الحياء والعفة والوفاء وسلامة الجبلة والفطرة تكو ن لمجموعها قاعدة صلبة يمكن أن يقام عليها هذا الدين ويشاد فوقها صرحه العظيم. إن الدين عند الشعب الأفغاني أصبح مع الزمن سليقة وليس تصنعـاً، وطبعاً وليس تطبعـاً، ومعدناً وليس طـــلاء، وخليقة وليس تمثيلاً . إن هذا الدين لا ينتصر بجيل نخرته الشهوات، وأنهكته الملذات وحطمت نفسيته وأذلته أجهزة المخابرات، وأتلفه الترف وأفسده السرف. فهل ينتبه المسلمون إلى هذا الكنز العظيم بين أيديهم (الشعب الأفغاني وجهاده)؟ وهل يقف المسلمون بجانب هذا الشعب الكريم وينهلون معه من نفس المعين؟ هل يبادر المسلمون للحفاظ على هذه القاعدة الصلبة لعلها تكون بإذن الله المنطلق لهذا المارد الجبار ولهذا العملاق الكبير ليحرر الإنسان المعذب في الأرض؟ أم تفلت من بين أيديهم هذه الفرصة الذهبية كما أفلتت من أيديهم فرص كثيرة؟ إنه غيب دونه حجب مسدلة لا يعلمه إلا الله الذي علمنا أن الحياة والنصر مقامة على قوانين وسنن، وألزمنا الأخذ بالأسباب وأوجب علينا الإعداد". أصالة الشعب الأفغاني المسلم مجلة الجهاد ـ العدد الثامن والثلاثونـ جمادي الأولى 1408هـ، يناير 1988م وفي مقال آخر، انتقل عزام من الحديث عن "القاعدة الصلبة" في أفغانستان البقعة الملائمة للجهاد، إلى الطليعة المجاهدة التي تحمل الدين وتؤسس الدولة، وهو يؤكد: "كل مبدأ من المبادئ لا بد له من طليعة تحمله، وتتحمل وهي تشق طريقها إلى المجتمع تكاليف غالية وتضحيات باهظة، وما من عقيدة من العقائد أرضية كانت أو سماوية إلا واحتاجت إلى هذه الطليعة التي تبذل في سبيل نصرة عقيدتها كل ما تملك، وتتحمل لأواء الطريق الصعب الطويل حتى تصل إلى إقرارها في واقع الحياة إذا كتب الله لها التمكين والظهور. وهذه الطليعة تمثل، القاعدة الصلبة للمجتمع المأمول. ومالم تجد العقيدة ـ ولو كانت من عند رب العالمين ـ هذه الطليعة المضحية التي تبذل كل ما تملك من أجل إظهار عقيدتها فإن العقيدة ستولد ميتة وتوأد قبل أن ترى النور والحياة". شروط الطليعة المجاهدة ومن غمار التجربة الأفغانية استنتج أنه "لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يقوم بدون حركة إسلامية تشب على نار المحنة وينضج أفرادها على حرارة الابتلاء، وهذه الحركة تمثل الصاعق الذي يفجر طاقات الأمة، ويقوم جهاد طويل تمثل فيه الحركة الإسلامية دور القيادة والريادة والإمامة والإرشاد، ومن خلال الجهاد الطويل تتميز مقادير الناس وتبرز طاقاتهم وتتحدد مقاماتهم، وتتقدم قادتهم لتوجه المسيرة وتمسك بالزمام، وهؤلاء بعد طول المعاناة يمكن الله لهم في الأرض ويجعلهم ستاراً لقدره وأداة لنصرة دينه. وإن حمل السلاح قبل التربية الطويلة للعصبة المؤمنة يعتبر أمراً خطيراً لأن حملة السلاح سيتحولون إلى عصابات تهدد أمن الناس وتقض عليهم مضاجعه". وحدد عزام شروط تربية الطليعة المجاهدة وهي:
ـ أن تشب في أتون المحن وأمواج البلاء.
ـ أن تكون القيادة المربية تشارك الطليعة مسيرة الابتلاء والعرق والدماء، فلا بد أن تكون القيادة هي المحضن الدافئ الذي تنمو تحت أجنحته هذه الأفراخ ولابد من طول مدة الحضانة والتربية.
ـ لا بد لهذه الطليعة أن تترفع عن متاع الدنيا الرخيص، ويكون لها طابع متفرد من حيث الزهد والتقشف.
ـ يجب أن تكون ممتلئة باليقين الراسخ بالعقيدة مع الأمل العريض الذي يملأ جوانحها بانتصارها.
ـ لا بد من الإصرار والعزيمة على مواصلة السير مهما طال الأمد.
ـ الولاء والبراء.
ـ لا بد أن تدرك المخططات العالمية ضد الإسلام".
وهناك بحسب عزام أسباب رئيسية لهذه التربية الطويلة، "لأن طول التضحية وفداحة التكاليف مع طول الزمن يؤدي إلى الملل واليأس إلا إذا كانت هذه التربية العميقة هي صمام الأمن لهذه المسيرة. ولأن الاغراءات والمساومات على الطريق مستمرة ولكنها كلما اقتربت من النصر تزداد العروض ومحاولات الاحتواء فلا بد أن تكون القيادة عناصر غير قابلة للذوبان. ولأن هذه القيادة إذا مكن الله لها في الأرض هي التي ستوضع بين أيديها الكنوز وهي التي ستشرف على حماية أموال الشعب المسلم وأعراضه ودمائه، فما لم تكن أمينة فويل للأمة من قيادتها. ولقد كانت العناصر الثمانية الآنفة الذكر بارزة من خلال التربية النبوية للجيل الأول ولذا فعندما ارتدت الجزيرة بأسرها قامت القاعدة الصلبة وارجعتها إلى الإسلام". (القاعدة الصلبة، مجلة الجهاد ـ العدد الحادي والأربعونـ شعبان 1408هـ، الموافق ابريل 1988م). تأثر عزام بقطب هنا يبدو عبد الله عزام وهو يترجم حرفياً مقولة سيد قطب فيما يخص التجمع العضوي الحركي الذي يشكل القاعدة المادية للمجتمع الإسلامي، وليس هذا بمستغرب فكان قد واظب على مطالعة كتبه وهو صغير، وأُرسل في بعثة إلى الأزهر للحصول على شهادة الدكتوراه، حيث حصل عليها عام 1973م، فعاد مدرساً في الجامعة الأردنية، وفي فترة إعداده للدكتوراه التقى بآل قطب، وأخذ عنهم أخبار سيد قطب، وفترة سجنه وإعدامه، والفتن التي تعرضت لها الحركة الإسلامية أثناء اعتقال أفرادها. وكان يعتقد "أن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم.. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم.. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق. ولقد مضى سيد قطب إلى ربه رافع الرأس ناصع الجبين عالي الهامة بحسب رأيه، وترك التراث الضخم من الفكر الإسلامي الذي تحيا به الأجيال، بعد أن وضح معان غابت عن الأذهان طويلاً، وضح معاني ومصطلحات الطاغوت، الجاهلية، الحاكمية، العبودية، الألوهية، ووضح بوقفته المشرفة معاني البراء والولاء، والتوحيد والتوكل على الله والخشية منه والالتجاء إليه. والذين دخلوا أفغانستان يدركون الأثر العميق لأفكار سيد قطب في الجهاد الإسلامي وفي الجيل كله فوق الأرض كلها، إن بعضهم لا يطلب منك لباساً وإن كان عارياً ولا طعاماً وإن كان جائعا ولا سلاحاً وإن كان أعزلاً ولكنه يطلب منك كتب سيد قطب. وكم هزني أن أسمع أن هنالك قواعد جهادية في أفغانستان وعمليات حربية يطلق عليها اسم سيد قطب. والذين يتابعون تغير المجتمعات وطبيعة التفكير لدى الجيل المسلم يدركون أكثر من غيرهم البصمات الواضحة التي تركتها كتابة سيد قطب وقلمه المبارك في تفكيرهم". ويقر عزام أنه ما تأثر بكاتب كتب في الفكر الإسلامي أكثر مما تأثر بسيد قطب، "وإني لأشعر بفضل الله العظيم علي إذ شرح صدري وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب، فقد وجهني سيد قطب فكرياً وابن تيمية عقدياً وابن القيم روحياً والنووي فقهياً، فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثراً عميقاً" . ولما صدر حكم الإعدام بسيد قطب ود لو يفتديه بنفسه وأمه وأبيه، وكتب برقية لعبد الناصر يقول فيها: (الدعوة لن تموت والشهداء خالدون والتاريخ لا يرحم). (عملاق الفكر الإسلامي بقلم عبد الله عزام). ومع ذلك لقد كان للحركة الإسلامية خصوصاً مؤسسها الشهيد حسن البنا (رحمه الله) أشد الأثر في تكوين شخصية عزام الحركية، وكان معجباً برسائل البنا، وكان يقول: (هذا المنهج الذي وضعه البنا إنما هو فتوح من الله تعالى، فقد وضع أسس الحركة الإسلامية ولم يسبقه في ذلك أحد)، وكان يوزع هذه الرسائل الصغيرة على مجموعات أسر الإخوان التي نظمها في القرية ويطالبهم بحفظها وفهمها جيداً. (الشهيد عبد الله عزام بين الميلاد والاستشهاد بقلم أبو مجاهد)
في الحلقة القادمة: العدو القريب
الحلقة الأولى: المقدمة ـ النشأة الأولى ـ وسطية عزام وبن لادن
الحلقة الثانية: الجهاد قبل الصلاة ـ لا إذن في الجهاد الفرض ـ فلسطين وخطأ البنا
الحلقة الثالثة: مرجعية سيد قطب ـ قواعد من التجربة الحركية ـ التجمع العضوي الحركي
الحلقة الرابعة: القاعدة الصلبة ـ شروط الطليعة المجاهدة ـ تأثر عزام بقطب