ارشيف من : 2005-2008

المسرحي البريطاني العبثي هارولد بينتر يحسم الجدل ويفوز بنوبل الآداب

المسرحي البريطاني العبثي هارولد بينتر يحسم الجدل ويفوز بنوبل الآداب

أمير كوميديا التهديد المهووس بالحرية والإنسانية‏

اسكندر حبش‏

خلافاً لكل التوقعات، وخلافاً لكل الأسماء التي تكهنت بها وسائل الإعلام، في الأيام الماضية أعلنت أمس في العاصمة السويدية جائزة نوبل للآداب للعام 2005، وقد ذهبت إلى الكاتب المسرحي البريطاني الكبير هارولد بينتر الذي "يكشف الهوة الكامنة تحت الثرثرة اليومية ويفرض دخول غرف القمع المغلقة" وفق حيثيات الجائزة. هنا مقالة تعريفية، مستمدة من أخبار الوكالات وبعض المواقع الالكترونية، حول هذا المسرحي الذي ترجمت أعماله إلى العربية وبخاصة في سلسلة "عالم المسرح" الكويتية، كما قدم بعض المخرجين العرب، عدداً من أعماله.‏

بالتأكيد إذ لا شك في الأمر مطلقاً سيبدأ العديد من المثقفين العرب، بالنحيب على ضياع "جائزتهم الأثيرية" مرّة جديدة، وسيبدأون أيضا، بالتحضير لحملاتهم، من الآن ولغاية العام القادم، في استعادة الأسماء عينها وفرضها على الصحف ووكالات الإعلام، معتقدين أن الأكاديمية السويدية ستستجيب لأمانيهم "المزمنة". لن نقول إنها خيبة أخرى، إذ لا شيء يقدرون عليه سوى هذه الخيبات، من جيل إلى جيل.‏

ومع ذلك، قد يجد هؤلاء المثقفون بعض عزاء في فوز الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بينتر بجائزة نوبل للآداب هذا العام. أولا، لأنه كاتب تُرجم إلى العربية، أي ليس لديهم الحجة لكي يتفاجأوا مثل العادة بأن الفائز مجهول، ولم يقرأوا له (من قال إننا نقرأ حقا الآداب الأجنبية). ألا تعرفون هذه "الصرعة" التي غالبا ما نجدها في الصحف العربية وفي وكالات الأنباء، غداة الإعلان عن الجائزة؟ ببساطة، يتساءل الكثيرون من هو هذا الفائز، إننا لا نعرفه، ألم يكن من الأفضل أن يفوز بها فلان وفلان... وكأننا ببساطة، نستطيع أن نحكم على شخص، من دون أن نقرأ له، من دون أن نكون قد سمعنا باسمه حتى.‏

على كل، ثمة عزاء ثان، في فوز بينتر: كان من أشد المعارضين للحرب الأميركية على العراق، أي انقطعت من أمام هؤلاء المثقفين فرصة استسهال القول بأنه صهيوني، ومعاد للأمة العربية وما إلى هنالك من يافطات، نرفعها كل عام. لكن غصتهم الوحيدة ستكون في أنه ينتمي إلى عائلة يهودية، أي لا تتفاجأوا لو قرأتم مقالة تصطاد من بحيرة دين هذا الكاتب الكبير.‏

مهما يكن من حال، صحت بعض التوقعات التي سمعناها قبل أيام من إعلان الجائزة، والتي أفادت أن الفائز لن يكون شاعراً أو روائياً. لقد ذهبت إلى كاتب مسرحي كبير، تعده أوروبا أفضل كاتب مسرحي بريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين. إذ كانت آخر جائزة منحت لمسرحي، في عام 1997 للإيطالي داريو فو. كما أن بينتر هو ثاني إنكليزي بعد وليم غولدينغ الذي فاز بالجائزة عام 1983 (إذا استثنينا بالطبع نايبول البريطاني الترينيدادي وشيماس هينه الايرلندي).‏

وبالعودة إلى حيثيات منح الجائزة، فقد رأت الأكاديمية السويدية أن بينتر "يكشف الهوة الكامنة تحت الثرثرة اليومية ويفرض دخول غرف القمع المغلقة" ويضيف البيان بالقول: "يعيد بينتر المسرح إلى قاعدته الأساسية، الغرفة المغلقة والحوار غير المتوقع حيث تتواجه الكائنات في ما بينها وحيث تتحطم الأقنعة. من خلال حبكة صغيرة، تنبثق الدراما من النضال ومن عملية الاختفاء في المواجهة الكلامية". وتمضي الأكاديمية السويدية في وصف مسرح هارولد بينتر بالقول: "في مسرح بينتر النموذجي، نجد أناسا يدافعون عن أنفسهم ضد التدخلات الخارجية أو ضد نبضهم الخاص محتمين داخل وجود مصغر ومراقب. كما هناك موضوعة رئيسية في عمله: "سمة الماضي الهاربة والمتعذر إمساكها".‏

سيرة‏

ولد هارولد بينتر في العاشر من تشرين الأول عام 1930 (تأتي الجائزة كهدية عظيمة بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين)، في حي "هاكني" بمنطقة "إيست أند"، أحد أحياء لندن الشعبية والصناعية في تلك الحقبة. ولدٌ وحيدٌ لعائلة يهودية (كان والده خياطا متواضعا، يكسب قوته بصعوبة عند مولده)، وقد احتفظ بينتر، في ذاكرته، بالعديد من الصور عن هذه الطفولة الأولى والتي بقيت محفورة في وجدانه طيلة عمره: النتانة المنبعثة من معمل الصابون في الحي الذي كانوا يقطنونه، الأزمة الاجتماعية، البطالة، صعود النازية، الحرب الأهلية الإسبانية، الحملة الكبيرة المعادية للسامية التي عرفتها بريطانيا.‏

في عام 1940، غادر والداه لندن هربا من الغارات الجوية الألمانية. وقد وسمته عملية الابادة التي تعرض لها اليهود خلال الفترة النازية، فرفض في عام 1948 أن يقوم بخدمته العسكرية: "برأيي، إن إعادة التسلح فكرة سخيفة. لقد وعيت جداً آلام الحرب ورعبها ولن أذهب، مهما تنوعت الحجج، للمشاركة في هذا الأمر. لقد قلت لا. وسأقول لا مرة إضافية. الأمر يبدو أسخف اليوم". إزاء ذلك، بدأ بدراسة الفن الدرامي في لندن.‏

في عامي 1952ـ1951 بدأ العمل ممثلا تحت اسم مستعار هو ديفيد بارون، نشر بعض القصائد وكتب رواية تستمد الكثير من أحداثها من سيرته الذاتية بعنوان "الأقزام". أولى مسرحياته التي كتبها بعنوان "الغرفة" قدمت على الخشبة في بريستول للمرة الأولى عام 1957، وكانت السبب في لفت أنظار أحد المنتجين المسرحيين إليه الذي طلب منه عملا ثانيا، فجاءت مسرحية "حفل عيد الميلاد" في عام 1958، لتعرض في كل من كامبردج وأكسفورد، ومن ثم لندن على خشبة "الليريك تيَاتر"، لكنها لم تستمر لأكثر من أسبوع واحد إذ كان الناس يفضلون أعماله الإذاعية، وبخاصة "ألم صغير" و"ب ب" (1959).‏

نجاحه الفعلي بدأ عام 1960 مع "حارس السيارات" لتتبعها "المجموعة" (1961)، و"العشيق" (1963)، و"حفلة شاي"، و"العودة" (1965) التي اقتبسها بنفسه للسينما بعد عدة سنوات.‏

بعد سنة من تقديمها في لندن، قدمت مسرحية "العودة" في باريس، بفريق عمل فرنسي على رأسه المخرج كلود ريجي، وفريق تمثيل من بينه بيير براسور وكلود ريك وجان توبار وإيمانويل ريفا...‏

في عام 1962، كتب بينتر سيناريو فيلم "الخادم" الذي أخرجه جوزف لوزي. وقد عاد للعمل مع المخرج نفسه في فيلمي "الحادث" (1967) و"الرسول" (1969).‏

في مقابل عمله ككاتب مسرحي، استمر بينتر في التمثيل، وبخاصة في المسرحيات التي كان يكتبها، قبل أن يتحول إلى إخراجها بنفسه. عدة محاور توزعت حياة بينتر إذاً، العمل المسرحي بكل تنوعه، العمل الاذاعي، والعمل السينمائي حيث كتب سيناريو فيلم "البحث عن الزمن الضائع" (اقتباس لرائعة الكاتب الفرنسي مارسيل بروست).‏

في عام 1999ـ1998، نشر بينتر كتابا يضم قصائد ومقالات سياسية، إذ كانت السياسة إحدى مشاغله الكبرى، وبدءا من الثمانينيات، حيث عرفت عنه معارضته لكل من تاتشر وريغان، كما معارضته لكل من بلير وبوش، من هنا مناهضته الكبرى لحربي الولايات المتحدة على العراق، كما عرف عنه دفاعه المستميت لحرية التعبير وحقوق الإنسان وبخاصة في ظل حكم بينوشيه في تشيلي. ففي تصريح ألقاه في آذار الماضي قال بينتر: "لقد حملنا للشعب العراقي العذاب والقنابل العنقودية واليورانيوم المخصب والعديد من عمليات القتل العمياء، حملنا إليه البؤس والانحدار، كل ذلك تحت غطاء الحرية والديموقراطية في الشرق الأوسط".‏

مفهوم "البينتيرية"‏

بعد الحرب العالمية الثانية، ولد مسرح جديد، لم يكن أحد قد شاهد مثله من قبل. مسرح ذو شخصيات لم يعهد أحد وجودها في المسرح السابق. مسرح يتضمن حوارات قيل عنها يومها إنها لا بداية لها ولا نهاية، تنتقل من موضوع إلى آخر من دون أن يعرف أحد لماذا. مسرح "غريب" بعض الشيء، هذه الغرابة عرفت في ما بعد باسم مسرح العبث. لقد ولد مسرح العبث فوق أنقاض عالم كان دمر كل آمال البشرية.‏

كان صموئيل بيكيت "جَد" هذا النوع، أما جاره الإنكليزي هارولد بينتر فسرعان ما أصبح أمير هذا النوع "الوقح". كان أكثر سبابا وأكثر أناقة، وأكثر اهتماما بميتافيزيقا الفراغ والامتلاء. كان يُقشر عبر حواراته "المفرومة" رغبات وغيرة جيل يتطلع إلى الجنس والمال ويتحدث عن الأساسي وإن كان لا يبدو عليه ظاهريا أنه يهتم بهذه الأمور. جاءت جمل هارولد بينتر المسرحية جملا غير منتهية، متقطعة، وكأن هناك العديد من اللاأقوال غير الملفوظة، حيث نجد هذه الذاكرة وهي تستسلم وهذه الكلمات التي لا قيمة لها لتتحول إلى سيف قاطع.‏

هذه المناخات "اللغوية" إذا صحت التسمية أدخلها القاموس الإنكليزي في عام 1996 تحت تعبير "البينتيرية"، حيث يفيد الشرح بما معناه أن أناسا يعبرون بطريقة كما لو أن حواراتهم تأتي بمثابة المفاجأة. هذه "البينتيرية" هي التي جعلت من هذا الكاتب الممثل الأكثر بروزا في الدراما الإنكليزية منذ خمسينيات القرن المنصرم ولغاية اليوم، لدرجة أنه صار يعد من الكلاسيكيين الحداثويين، ويرى البعض أنه يقف على ذات الدرجة مع شكسبير.‏

يتداخل في فن هارولد بينتر المسرحي كل تنويعات مسرح العبث التي يطلق عليه أيضا "كوميديا التهديد" حيث تظهر تعقيدات الكائنات البشرية وعلاقات قواها عبر هذه الأحاديث العادية جدا. ومع ذلك، فقد أثر في أجيال لا تحصى من أجيال المسرحيين البريطانيين، وبخاصة من هذه الزاوية الحاضرة بقوة في مجمل أعماله: هذه التهديدات الطافحة وهذه الفانتسمات الايروتيكية، التي تشكل مفاصل حقيقية في مسرحه. مفاصل أطلق النقاد عليها أيضا اسم مسرح اللاطمأنينة.‏

هذه اللاطمأنينة، كان يسحبها أيضا على المتفرج، إذ لم يهتم يوما في أن يساعده على الدخول إلى قلب هذا الغموض الذي يلف مسرحياته: "ليس هناك أي تمييز حقيقي ما بين ما هو واقعي وبين ما هو غير واقعي".‏

هذه "البينتيرية" عادت لتتجلى أمس في تصريح له من منزله عقب الإعلان عن فوزه بالجائزة: "أعتقد أن العالم ذاهب إلى خسارته إن لم ننتبه إلى ذلك. العالم، مثلما هو عليه، هو عالم خطير جداً وأظن أن بلادي لا تقوم بالشيء الكثير لتحسين شروطه". وأيضا: "ليس العراق إلا رمزا للديموقراطيات الغربية تجاه باقي العالم والطريقة التي تختارها لتمارس سلطتها".‏

هارولد بينتر أكثر من مسرحي وسياسي "ملتزم". إنه أحد الانسانويين الكبار في تاريخ الكتابة في العالم. إنه أحد الباحثين عن عالم أفضل، أكثر اقترابا من مشكلات البشر اليومية، المعبرين عن تعبهم وحنينهم إلى كائنات أكثر انسانية.‏

من دون شك، ليس في اختيار هارولد بينتر مفاجأة، إلا بالقدر الذي لم يطرح فيها اسمه عبر التكهنات الصحافية المفبركة. ربما كان يستحق نوبل، منذ زمن بعيد. على كل، لقد أدركته ولو متأخراً، لعلها تعيد الجميع إلى إعادة اكتشاف هذا المهووس بالحرية والإنسانية.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية 14 تشرين الاول/ اكتوبر 2005‏

2006-10-28