ارشيف من : 2005-2008

سبعة وعشرون عاماً حتى الآن:اختفاء الإمام موسى الصدر.. اللغز الغامض

سبعة وعشرون عاماً حتى الآن:اختفاء الإمام موسى الصدر.. اللغز الغامض

الانتقاد/ ملحق خاص في الذكرى 27 لتغييب الامام السيد موسى الصدر‏

قلّة هم الرجال الرجال الذين يمثلون ـ أبداً ـ رموزاً دهريين في وجدان شعوبهم، كنجوم ساطعة متلألئة في سماء حالكة يهتدي السائرون في بَهْمَةِ الليل بأنوارهم فيسلكون طريقهم باطمئنان مدهش، على أمل الوصول أخيراً، الى مكان آمن يُعيد إليهم روعتهم ويُنزل عليهم سكينته.‏

الإمام السيد موسى الصدر، من تلك القلة النادرة، رمز فريد من نوعه، هو الذي لمَّا تزل مفاعيل حضوره الفكري والمعنوي، حاضرة، حضور الشمس وقت الهاجرة في وجدان شعبه وعقولهم، بالرغم من تغييبه القسري ـ جسداً ـ عن ساحة نضاله (الديني ـ السياسي) الفعلي سبعة وعشرين عاماً حتى الآن.‏

ذلك أنه لمّا تزل ومضات فكره الوقاد تُلهب مخيلة شعبه وتحفز عقوله للمطالبة ـ بجرأة وإقدام ـ بحقوقه الوطنية الكاملة، هذا الشعب الذي استلهم أفكار قائده التاريخي الإمام موسى الصدر وتوجيهاته، واقتدى بسلوكياته، ما جعله ندّاً لا يُقهر لعدوِّه الصهيوني الذي فُرض علينا جهاده لعدوانيته اللاأخلاقية واللامبررة، ولإجرامه المروّع دون مسوِّغ يُذكر.‏

فمنذ إنشاء الدولة اللبنانية بكيانها الحالي كوطن للطوائف المتعايشة على أرضه تاريخياً كان الشيعة في لبنان ـ في الجنوب والبقاع ـ مهدوري الحقوق الوطنية، بسبب عدم التفات زعاماتهم السياسية الشيعية الى مطالبهم الوطنية كالتفاتتها لمصالحها الخاصة.‏

وكان لا بد من منقذ يحفزهم على المطالبة بحقوقهم المشروعة وطنياً، ولأن يكونوا في نفس الوقت، رأس حربة حاداً، في الحفاظ على استقلال كيانهم اللبناني بمحاربتهم ـ دون هوادة ـ الأطماع الصهيونية التي تستهدفه دون شفقة أو رحمة.‏

وكان هذا المنقذ، الإمام السيد موسى الصدر، عالم الدين الذي يرى في السياسة جزءاً لا يتجزاً من رسالته الدينية في الحياة.‏

بعد رحلة علمية (حوزوية) طويلة أمضاها في إيران (حيث ولد في مدينة قم) والعراق (في النجف) جاء الإمام موسى الصدر الى لبنان في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ليملأ الفراغ الروحي الذي حصل إثر وفاة الزعيم الديني لمدينة صور الجنوبية السيد عبد الحسين شرف الدين.‏

وقد بدأ الإمام الصدر بعد السيد شرف الدين الذي قارع سلطات الانتداب الفرنسي، خوض تجربة النضال السياسي بقوة وزخم لافتين، وكان دور بعض الفقهاء الشيعة محصوراً فقط فيما يتعلق بالشؤون العبادية (دون السياسية) وإرشاداتها التربوية وطقوسها وشعائرها، ما أفقدهم الدور القيادي البارز والفاعل الذي لعبه الإمام السيد موسى الصدر بجدارة واقتدار، في مواجهة زعماء السياسة التقليديين للشيعة، أولئك الذين غلّبوا منطق تعزيز أوضاعهم في إطار التركيبة الطائفية للسلطة اللبنانية على حساب سياسة التنمية الإنمائية التي كانت الطائفة الشيعية بأمسّ الحاجة إليها أسوة بالطوائف اللبنانية الأخرى.‏

فعندما وصل الإمام الصدر الى لبنان وجد الساحة الشيعية تحديداً عرضة لصنفين من التجاذبات، بين الإقطاع السياسي (الزعامة التقليدية) والأحزاب العقائدية (الماركسية والاشتراكية والقومية)، لذا كان عليه هو عالم الدين الآتي من خارج هذه البيئة (إيران) أن يشق طريقاً آخر بموازاة طريق الزعامة السياسية الشيعية التقليدية، وطريق علماء الدين المنعزلين (سياسياً), وطريق علمانية الأحزاب العقائدية كالقومية والاشتراكية.‏

ولأنه كان يتمتع بزعامة قيادية مميزة وحنكةٍ عالية تمكن الإمام موسى الصدر من الانتقال بالشيعة من الهامشية الى الحضور السياسي، فكان عامل تعبئة وتجهيز بإسهاماته الفكرية المميزة والمكثفة لأخذه دور الأحزاب السياسية في إنجاز مهمته الشاقة. فبفضل برنامجه الإصلاحي الشامل (الديني ـ السياسي ـ الاجتماعي) أيقظ صحوة الشيعة الذين قُدر لهم أن يلعبوا دوراً هاماً وبارزاً، بل مميزاً في تحديد مصير لبنان لاحقاً، في تأسيس كيان الدولة على شراكة فعلية وحقيقية، وفي إطلاق المقاومة ضد العدو الصهيوني. لقد كان الإمام موسى الصدر صاحب مشروع استنهاضي تعبوي، وخاطب المشككين بمبادراته الإصلاحية بقوله: "كنت لا أرى سبباً لهذه الشكوك سوى أنني خرجت برجل الدين الى عالم الحياة والحركة، ورفعت عنه غبار السنين، ليسير مع الحياة في تطورها ورقيّها، منسجماً بذلك مع الفكر الديني الأصيل". فالدين عنده ليس سوى محرّك فاعل للواقع لأنه منهج حياة. الدين الذي لا يفكر مطلقاً بإلغاء الآخر ـ الشريك الوطني ـ على الإطلاق، وذلك على قاعدة صادقة حريصة وواضحة، جامعة وكفيلة ببناء وطن: "التعايش الإسلامي المسيحي في لبنان ثروة يجب التمسك بها والمحافظة عليها"، فكان من أبرز أولوياته المطلبية إلغاء الطائفية السياسية بتعزيز العيش المشترك، ورفع الحرمان والغبن عن المناطق المحرومة، وتحصين المناطق الحدودية بتأمين مستلزمات صمودها، كل ذلك في إطار تصوّر سياسي يقوم على الشراكة، الفعلية والمؤثرة، بتعزيز وحدة الاتجاه العام بين أبناء الوطن اللبناني الموحَّد للنهوض عبر توفير وسائل القوة فيه، إضافة الى حمله للهمّ القومي الإسلامي العربي المتمحور بوضع استراتيجية العودة الى فلسطين، وفي أوائل السبعينيات عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية كان من أوائل الرافضين لها، وكانت له مواقفه المعروفة على هذا الصعيد.‏

وأخيراً لا بدَّ لنا أن نسأل: أكل هذه المعطيات التي ذكرناها، وسواها مما هو معروف لدى شخصية الإمام موسى الصدر، بما قام به من إنجازات، وكان له من مواقف جريئة ومشرّفة ما لا يتسع المجال لذكرها كلها هنا، أكلّها مجتمعة كانت سبباً في عملية اختطافه ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، بعد وصولهم الى ليبيا القذافي.‏

أحمد ياسين‏

2006-10-28