ارشيف من : 2005-2008
فلسطين والقدس في فكر الإمام الصدر

الانتقاد/ ملحق خاص في الذكرى 27 لتغييب الامام السيد موسى الصدر
... وأنت تبحث في زوايا القصاصات التي حكت عن الشخصية الفذة للإمام المغيب السيد موسى الصدر، وفي ما تم تسجيله أو تدوينه عن فكره وآرائه، تطالعك قضية تصدرت في أهميتها وأولويتها ذلك الفكر، وشغلت حيزاً هاماً منه، وتكاد بحيثياتها تنعطف به نحو التشدد بعد ما اتسم بالانفتاح والسعة والشمولية في الاتجاهات الأخرى، إنها قضية فلسطين ومظلوميتها ونصرتها والدفاع عنها، نشأ في هذا الإطار من مقاومة وجبهاتٍ وما نشب من حروبٍ ومواجهات، أخذت كلها مساحة واسعة من ذلك الفكر النير الذي يمكن نعته بعد كل التجارب التي مرت بأنه استراتيجي بامتياز، إلى جانب الحكم عليه بأنه أصولي يرتكز على مبادئ ذات منابت قيمية رفيعة منبعها الإسلام الحنيف، كما انه فكر حواري منفتح واسع الإطلالات متعدد الاتجاهات.
لقد تصدرت قضية فلسطين موقع الأولوية في اهتمامات الإمام الصدر، فإنه وبالرغم من الظروف السياسية الضاغطة، وحالة الأمة العربية الجانحة نحو التخاذل والتشرذم والضياع، وبالرغم من القضايا السياسية الداخلية التي ولجت بها المقاومة الفلسطينية، وانشغالها بالواقع اللبناني عن الجدية في ممارسة الصراع، وبالرغم من المتاعب التي لحقت بالشعب اللبناني وبجنوبه نتيجة الصراعات الضيقة التي حرفت المقاومة عن وجهة صراعها، مع ذلك كله فإن الإمام الصدر لإيمانه بحقانية قضية فلسطين والقدس، وانطلاقاً من التزامه بتكليفه الشرعي، فإنه تحمّل كل التبعات، وغضّ النظر عن المثالب، وتحاشى الدخول في المهاترات، وأبقى على هذه القضية ناصعة حية نابضة معلناً في أكثر من مناسبة بأنه سيحمي المقاومة الفلسطينية بعباءته التي تعني انتماءه والتزامه وتكليفه، وانه سيقاتل "إسرائيل" بأسنانه وأظافره، وان "إسرائيل" هي العدو، وهي الشر المطلق الذي لا يمكن التعايش معه والانفتاح عليه أو القبول به، كما هو حال الإمام الصدر في انفتاحه على الآخر وفي قبوله له أياً كان، إلا العدو الإسرائيلي الذي أعلن حرباً عليه لا هوادة فيها.
ومع أن الإمام الصدر كان متصدياً لترتيب الأوضاع السياسية في الداخل اللبناني وللمساهمة في إنتاج حوار بنّاء بين اللبنانيين، ولصناعة اللحمة بينهم، مقراً بالتنوع القائم، معتبراً إياه مصدر غنى وثراء للبنان، منفتحاً بذلك على كل الطوائف والتشكلات في الواقع اللبناني، مع ذلك كله فإن الإمام الصدر لم ينس فلسطين وقضيتها، ولم تحرفه كل التحديات الداخلية عن حمل لوائها والدفاع عنها.
ومن جملة خصوصياته في الفكر والممارسة مواءمته بين المصلحة الوطنية وبين الدفاع عن قضية فلسطين، فهو اعتبر أن المشكلة الفلسطينية أحد عوامل التوتر التي صنعها الاحتلال في لبنان، وتقتضي مصلحة لبنان العمل على علاج هذه المشكلة التي لا تبدو قابلة للحل إلا عن طريق المقاومة، فهو لأجل ذلك دعا إلى حمل السلاح والى التدرب على استخدامه من أجل المواجهة التي اعتبرها مستمرة إلى حين التحرير الذي لم يكن بالنسبة إليه سوى أمر واقع حتماً بغض النظر عن المسافة الزمنية التي يحتاجها، فهو كان من المؤمنين بأن القدس ستتحرر، وأن تحريرها سيتم على أيدي المؤمنين المجاهدين، فكان من جملة ما قام به لأجل هذا الغرض أن يعد المجاهدين، وأن ينشر الإيمان، فكان فكره مفعماً بمفاهيم الإيمان ومعاني الجهاد، وهو في ذلك عبر عن المسار الصحيح والاتجاه الصائب لوجهة الصراع في المنطقة، فالعدو هو الصهيوني، وقضية الأمة هي فلسطين، ويجب تحريرها لإعادة الكرامة، ولصياغة الحرية ولإحلال السلام والأمن في المنطقة، وهذا التحرير لا يتم إلا بالمقاومة المسلحة، لذلك يجب أن تقوم هذه المقاومة, فأسس حركته ونضاله وعمل على دعم المقاومة الفلسطينية المسلحة، لكن في حركتها النضالية الهادفة لتحرير فلسطين.
واليوم ونحن نشاهد فلول المستوطنين تفر من غزة، والصهاينة يتخبطون في أمنهم وحياتهم، يتوزعهم الشعور باليأس وبالخوف على الوجود، كل ذلك على أثر الهزيمة في لبنان، ونتيجة الانتفاضة الشعبية في فلسطين، نستذكر طلائع الفكر المتقدم للإمام الصدر الذي أسس لهذه اللحظة الراهنة.
ومع هذا الانتصار الجديد لمنطق المقاومة علينا واجب التحية لأحد الذين صنعوا وروجوا وعملوا من أجل هذا المنطق المتحدي للواقع، إنه الإمام الصدر أعاده الله سالماً، والذي قد يكون احد أسباب اخفائه هو الجدية التي اتسم بها عمله في حمله لقضية فلسطين. فهل يا ترى تبدأ قضيته بالجلاء مع الجلاء الذي يحصل من غزة، فتنكشف حقيقة اختفائه مع الانكشاف التدريجي للعدو عن أرض فلسطين؟!
بلال نعيم