ارشيف من : 2005-2008

فليكن كلُ العرب اليوم محمداً

فليكن كلُ العرب اليوم محمداً

كتب محمد مراد‏

ما زالت ضجة الرسوم المسيئة للرسول الأكرم محمد (ص) تتفاعل في غير بلدٍ من العالم، لا بل إنها باتت قضية للتجاذبات المشحونة بردات الفعل المتقابلة، وربما كان هذا ما أراده مخرجو سيناريو الرسوم في تحولها إلى أزمة مفتوحة تنتهي إلى سلسلة من الأزمات العصية التي قد تترك بصماتها السلبية على مجمل العلاقات الدولية لعقود قادمة.‏

إنّ تفسيراً موضوعياً للحدث الظاهرة، أي لمسلسل الرسوم المعادة الانتشار في غير صحيفة أوروبية أو غربية بصورة عامة، لا بدّ أن يتوقف أمام مسائل ثلاث: الرمز المستهدف، التوقيت وفضاء الانتشار.‏

على مستوى الرمز المستهدف هو الاسلامي الأول أي محمد الرسول (ص). فهو في ذاكرة العرب والمسلمين عموماً أفراداً وأجيالاً متعاقبة. "إنَّ حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة إلى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالأسباب والنتائج، بل إنها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، أي أنها صورة صادقة ورمز كامل وخالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل".‏

هذا الموقع الروحي للرسول الأكرم بلغ منزلة القداسة المسيطرة على قلوب العرب والمسلمين وذاكرتهم وعقولهم. لذلك سينظر هؤلاء إلى المساس بشخصية الرسول على أنه مساسٌ لعمق مشاعرهم وحسهم الوجداني.‏

أما على مستوى توقيت الحدث وتركّز انتشاره في أوروبا فإنما يشير إلى مسألتين متلازمتين من حيث الدلالة والنتائج:‏

الأولى، تتعلق بتعثر المشروع الأميركي في العراق ودخوله دائرة المأزق الذي لا يمكن الخروج منه إلا بدفع أثمانٍ باهظة ليس أقلها الهزيمة العسكرية والاقتصادية التي قد تذهب بعظمة الامبراطورية وتسقطها عن عرشها الإمبريالي الذي تربعت عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أما المسألة الثانية فتتعلق باختيار المخرج لسيناريو رسوم الصحافة الأوروبية كي تكون السباقة في نشر تلك الرسوم، كل ذلك يهدف إلى استدراج أوروبا، التي بقيت ابان حرب العراق، أقرب إلى الحياد منها إلى الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة لخوض شراكة حربية أميركية أوروبية ضد عدو مزعوم هو "الإرهاب" والذي يعتبر العراق ودولا أخرى عربية وإسلامية شرق أوسطية ساحة الاشتباك المركزي بين قوى "الديموقراطية" الغربية وقوى "الإرهاب" الإسلامية.‏

من هنا، فإن مسألة الرسوم المسيئة لم تكن من حيث توقيتها وفضاء انتشارها، مجرد صدفة أو نزوع لحرية متفلتة باتت حقاً مكتسباً في المجتمعات الغربية، وإنما كانت متقنة التخطيط لجهة الأغراض والنتائج التي يمكن أن تتركها على مستقبل العلاقات الغربية الإسلامية. أبرز النتائج المتوقعة لها تتمثل بالتالية:‏

1 تحويل الحرب الأميركية على العراق إلى حرب أكثر شمولية تنخرط فيها أوروبا، إذ ترتدي معها طابعاً مسيحياً أميركيا أوروبياً غالباً في مواجهة قوى شرق أوسطية ذات طابع عربي إسلامي غالب.‏

2 الضغط الغربي المسيحي على الكتل المليونية الإسلامية المهاجرة إلى غير دولة أوروبية أو أميركية بدافع الخشية المتزايدة من انفجار ديموغرافي ليس ببعيد قد ينتهي بأسلمة أوروبا بسبب الفجوة الواسعة على مستوى معدلات النمو السكاني بين المهاجرين المسلمين من جهة، وسكان أوروبا الأصليين من جهة أخرى.‏

3 تكثيف الاختراقات الغربية للمجتمعات الشرقية تحت يافطة الحماية للمسيحيين من ذوي الأصول العربية التاريخية من "إرهاب" الأكثرية الإسلامية المسيطرة.‏

4 أدلجة الصراع الغربي الإسلامي بإعطائه بعداً روحياً هذه المرة، بعد أن كان الصراع الأميركي السوفياتي سابقاً قد ارتدى طابعاً أيديولوجياً مادياً أي بين أيديولوجية رأسمالية وأخرى اشتراكية نقيضة.‏

إنَّ الأهداف المشار إليها لا تترك مجالاً للشك في أنّ المخطّط لسيناريو الرسوم المسيئة ليس ببعيدٍ أبداً عن سياقات الحرب الأميركية المعلنة على العراق والتي باتت تهدد بامتدادها المنطقة العربية برمتها. أما القوى المتحالفة المقرّرة لهذه الحرب فكانت ثلاث أساسية: رأسمالية الذروة الأميركية (الشركات العملاقة المتعددة الجنسية)، والصهيونية الطامحة إلى تحقيق حلم توراتي بإقامة دولتها الكبرى (إسرائيل) من الفرات إلى النيل، والبروتستانتية المتطرّفة المتمثلة باليمين الديني أو جماعة المحافظين الجدد. لقد تلاقت أهداف ومصالح هذه القوى في الشرق الأوسط وبشكل خاص الدائرة الأكثر جيواستراتيجية وجيوبترولية وجيوإسلامية أي الدائرة العربية تحديداً. من هنا جاء الاستهداف لمقام الرسول الأكرم لتوظّف تداعياته في خدمة الأهداف المشار إليها لتلك القوى، والتي رأت في إثارة المشاعر الدينية ما يساعدها في توسيع جبهة المواجهة وصولاً إلى غاياتها الشريرة.‏

إنّ اعتراضاً فاعلاً وقادراً على ممانعة المشروع الاستعماري الجديد القديم لقوى الغرب والصهيونية الطامعة بمنطقتنا العربية الإسلامية، لا يكون إلا بمسألتين متلازمتين: الأولى، وعي متعمق لمخاطر المشروع الاستعماري في أساليبه ووسائله المعتمدة، والثانية، إعادة تجديد محمد النبي العربي (ص)، وإحياء مشروعه كرسالة خلاصية ليس إلى العرب المسلمين وحسب، وإنما أيضاً إلى أمم وشعوب الأرض كافة.‏

لقد استغل الغرب، منذ الحروب الصليبة في العصور الوسطى، ثم في مرحلة الصعود الرأسمالي في أواسط القرن التاسع عشر وما بعدها، الشعارات الدينية كوسيلة تحريضية ذات فعالية في الشحن النفسي والتعبئة لتبرير هجومه على الشرق وتفتيته جغرافياً وسكانياً وسياسياً واستلاب ثرواته الطبيعية والبشرية. إنّ هذا الهجوم الغربي لم يكن يهدف فقط إلى الحاق الهزيمة بالإسلام وحسب، وإنما وبالدرجة الأولى، إلى فصل العلاقة التكاملية بين المسيحية والإسلام بوصفهما خصوصيتين عربيتين تاريخيتين، وإنّ هذه الخصوصية العربية لكلٍ منهما هي التي أضفت، وما تزال، الطابع الرسالي الإنساني المميز للأمة العربية، فالإسلام إغناء للمسيحية ببعدها الروحي الرسالي، وكذلك المسيحية هي إغناء للإسلام ببعده القيمي الإنساني الشامل. من هنا جاء التفاعل التاريخي الحي بين الإسلام والمسيحية العربية ليرسي مقومات القوة لحضارة عالمية إنسانية هي البديل الآخر لحضارة الرأسمالية المسيطرة التي لم تنشد، في حركتها التاريخية، سوى المراكمة الربحية المادية في عالم الرأسمال وتداعياته اللاإنسانية على الصعد الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية.‏

وفي العصر الحديث استمر الغرب في هجومه الاختراقي على المنطقة العربية تحديداً، حيث استطاع عبر حملات التبشير الارسالي المكثّف وكذلك عبر الحملات العسكرية والسيطرة على الأسواق وحركة التجارة، استطاع أن يفتت المسيحية الشرقية العربية، ويضربها من الداخل حيث نجح في تكوين مجموعات من الطوائف الشرقية ارتبطت به على قاعدة الاستتباع الديني والثقافي والسياسي. من هنا، فالحرب الأهلية التي عرفها لبنان على مدى خمس عشرة سنة، لم تكن في بعض جوانبها سوى حلقة من مسلسل غربي مستمر للإجهاز النهائي على النموذج التكاملي المسيحي الإسلامي، وهو النموذج الذي وصفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني على أنه نموذج لبنان الرسالة.‏

إنّ الهدف الغربي الدائم هو ضرب التراث الثقافي الاسلامي والمسيحي المتميز، الذي هو جزء رئيسي من الثقافة العربية الإسلامية.‏

لقد جاء استهداف الرسول الأكرم (ص) من وراء سيناريو الرسوم المسيئة، لا ليطال شخصه الكريم وحسب، وإنما لينال من الاسلام كقوة روحية استجابت لها الجماعة العربية من مسيحية وإسلامية وأنتجت مشروعاً حضارياً على مستوى العالم، فالاسلام "بالنسبة إلى العرب ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مُفصحٍ عن شعورهم الكوني ونظرتهم إلى الحياة وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم". أما الرسول الأكرم (ص) فهو عربي الهوية إسلامي العقيدة عالمي الرسالة. فهو الرجل الذي تلخصت في شخصه "حياة أمته كلها، واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كلَّ العرب، فليكن كلُّ العربِ اليوم محمدا".‏

(*)باحث وأستاذ جامعي‏

المصدر: صحيفة السفير ـ 28 شباط/فبراير 2006‏

2006-10-28