ارشيف من : 2005-2008

ملف خاص في ذكرى الانتصار والتحرير

ملف خاص في ذكرى الانتصار والتحرير

حكاية مزارع شبعا اللبنانية المحتلة:‏

مثلث لبناني جيو ـ استراتيجي احتلته "اسرائيل" على عشر مراحل‏

كتب محمود حيدر‏

مرت خمس سنوات إلاَّ قليلاً على دحر قوات الاحتلال الاسرائيليمن القسم الأعظم من جنوب لبنان. وفي خلال تلك السنوات لم ينته الجدل المحلي والاقليمي والدولي حول طبيعة الزمن الجديد الذي حلّ على لبنان في سياق الصراع العربي ـ الصهيوني. ولهذا أسباب معقدة ومتداخلة لا حصر لها. أهمها وأبرزها ما يلي:‏

أولاً: بقاء جزء من الأرض اللبنانية أسيرة الاحتلال، في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فضلاً عن الإشكاليات الناجمة من الطريقة التي جرى فيها ترسيم الحدود من جانب الأمم المتحدة، وهي التي عُرفت يومذاك بـ"خط لارسن" أو "الخط الأزرق"، والتي كانت موضع تحفظات لبنانية جدية تتصل بالسيادة الوطنية.‏

ثانياً: بقاء لبنان بفضائه، وبرِّه، وبحره، مجالاً مشرعاً على الخروقات والاعتداءات الاسرائيلية، ما جعل سيادته الوطنية عرضة للاستباحة في كل لحظة. ولعل العودة الى التقارير اليومية التي صدرت عن مراقبي الأمم المتحدة، وتلك التي بحوزة المقاومة الاسلامية، إنما تكشف الحجم الهائل للانتهاكات السيادية.‏

ثالثاً: بقاء لبنان في حالة حرب مع "اسرائيل"، شأنه في ذلك شأن سائر البلاد العربية التي لا يزال جزء من أرضها تحت الاحتلال، أو تلك التي لم تفلح التسوية السياسية معها في اقامة منظومة استقرار أمني وسياسي للمنطقة ككل.‏

رابعاً: بقاء قضية الأسرى والمعتقلين اللبنانيين في سجون الاحتلال ضمن حالة من التجاذب والتنافر، ناهيك عن استمرار النيات الاسرائيلية العدوانية لتحقيق أطماعها بالثروات المائية اللبنانية، والسعي الى فرض "معاهدة سلام" على لبنان لا تقل خطورة وكارثية عن مضامين اتفاقية السابع عشر من أيار (مايو) 1983. وهي الإتفاقية التي جاءت كثمرة لغزو لبنان، ثم ما لبثت ان أسقطت بفعل مقاومة اللبنانيين وإجماعهم الوطني.‏

لم تكن هذه الأسباب مجرد أعراض. والذي جعل لبنان محفوظاً من حرب "اسرائيل"ية مضادة غايتها قلب موازين ما بعد التحرير أو الثأر لهزيمة جيش الاحتلال، يكمن في معادلة الردع التي شكلتها المقاومة الاسلامية كمنظومة دفاعية في اطار الاستراتيجية الوطنية اللبنانية الشاملة.‏

خلال الاسابيع المنصرمة، عاد الجدل حول المقاومة، والسيادة، وحول مصير لبنان في فضاء الصراع العربي ـ الصهيوني الى دائرة غير مسبوقة. ولقد جاء هذه المرة محمولاً على صهوة القرار الدولي رقم 1559، حيث ذهبت التفسيرات الاميركية والاسرائيلية الى توظيفه بصورة أساسية ضمن دائرة السجال المحتدم حول نزع سلاح المقاومة، مثلما جرى توظيف بنوده الأخرى في الاتجاه الذي يفك ارتباط لبنان بمحيطه القومي، ويمهد الطريق لنظام سياسي لبناني يصبح معه عقد اتفاقية سلام مع "اسرائيل" أمراً بديهياً.‏

إنَّ القضية الأبرز، والتي تربط بعروة وثقى مع مصير سلاح المقاومة، هي قضية الأرض المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. حيث تطرح مساحات شاسعة من التشكيك بلبنانيتها، أو بأن مصيرها يتعلق بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في حزيران (يونيو) عام 1967 وليس بالقرار الخاص بلبنان رقم 425 الذي صدر عن المرجعية الدولية نفسها، إثر ما سمي "بعملية الليطاني" في آذار (مارس) 1978.‏

لكن السجال حول هذه القضية ليس جديداً، وإن كان يتجدد اليوم على نشأة مختلفة. فقد كانت قضية مزارع شبعا تعود الى ساحة الجدل السياسي اللبناني والاقليمي والدولي كلما احتدم الكلام على وجوب وضع حد أخير للجبهة الأمنية ـ العسكرية المفتوحة بين لبنان و"اسرائيل".‏

غير أن بقاء ملف القضية المشار اليها مفتوحاً كان يعني في المنطق الجيو ـ استراتيجي أن لبنان لا يزال يمضي عميقاً في لجة الصراع العربي ـ الصهيوني، ومن دون أن يترك له القدر فرصة المغادرة. والمسألة من هذا الوجه لا تتعلق بأحكام القيمة حيث يجري الحديث المديد عن عدم جواز استمرار جنوب لبنان ساحة حرب منذ أكثر من ثلث قرن، بل هي تتصل في حقيقتها الواقعية بحقائق تاريخية وجيو ـ سياسية وأمنية لا يبدو لبنان بمنأى من مؤثراتها العميقة منذ نكبة فلسطين قبل أكثر من خمسين عاماً.‏

هكذا تبدو قضية مزارع شبعا وكأنها الباب المفتوح دوماً على قدر الجغرافيا والتاريخ الذي يجعل لبنان عضواً أساسياً في صراعات المنطقة، وفي تشكل أي نظام للأمن الاقليمي المقبل. فيما ظهر كأن الحدود الجنوبية مع فلسطين يعاد تشكيلها على نصاب جديد.‏

ما حكاية المزارع المحتلة... ولماذا لم تدخل في نطاق جلاء الاحتلال الاسرائيلي الذي حصل في الخامس والعشرين من أيار (مايو) 2000؟.. وهو السؤال الذي طالما عزّز ويعزز من حالة الجدل حول مدى تنفيذ "اسرائيل" للقرار 425؟‏

هنا الحكاية التاريخية ـ الجيو ـ سياسية، والأمنية لمزارع شبعا اللبنانية.‏

حين فرغت اللجنة الدولية لترسيم الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية من أعمالها الميدانية أواخر صيف العام 2000، دأب خبراء الأمم المتحدة ومن جانب واحد على ترسيخ خطاب صارم وجازم، مؤداه أن الجبهة الأمنية المفتوحة بين لبنان و"اسرائيل" غلَّقت أبوابها الى غير عودة. لم يتنبَّه هؤلاء، ومعهم الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ناهيك عن الاميركيين والاسرائيليين بصفة خاصة، الى أن خط الانسحاب الاسرائيلي المعروف بـ"خط لارسن" أو "الخط الأزرق" لم يكن سوى خط هدنة جديدة، وأن اختراقات اسرائيلية للأرض اللبنانية لا تنفك تجعل من أطروحة الاحتلال، أطروحة قائمة في الواقع.‏

هكذا جاء اندلاع الجدل السياسي ـ العسكري حول مزارع شبعا ليعيد الاحتلال الاسرائيلي لجزء من لبنان الى سياق مستأنف. وهو سياق حاولت "اسرائيل" أن تقيم عليه الحد، حين توافرت على غطاء واسع النطاق من جانب الأمم المتحدة والإدارة الاميركية. غير أن الموقف اللبناني الذي عبّر عنه رئيس الجمهورية إميل لحود قبل بضع سنوات في مذكرة بعث بها الى المنظمة الدولية، سيفتح ثغرة مهمة في هذا الغطاء، وسينزع أحد أبرز الأسلحة التي سعت اليها الأمم المتحدة، من خلال استدراج لبنان لإعلان موافقته على النتائج الميدانية والسياسية التي توصّل اليها مبعوث الأمين العام تيري رود لارسن لجهة ترسيم الحدود بين لبنان و"اسرائيل" في صيف العام 2000. ولقد جاء الخطاب اللبناني واضحاً حين اعتبر أن مزارع شبعا هي أرض لبنانية لا تزال تحت الاحتلال، وأن لبنان سيواصل العمل من أجل استعادتها بالوسائل كافة، بما فيها المقاومة المسلحة.‏

اعتبارات جيو ـ استراتيجية‏

أخذ الجدل القانوني والسياسي محلاً وازناً في الأوساط المحلية والإقليمية والدولية حول البعد الجيو ـ استراتيجي لمزارع شبعا الواقعة عند مثلث حدودي بين لبنان وسوريا وفلسطين. وربما يكون التعامل الخاص مع موقعها هذا عائداً الى التعقيدات والتداخلات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي مرّت بها قضية المزارع في امتداد زمن طويل.‏

تقع بلدة شبعا على السفوح الغربية لجبل حرمون قرب الحدود اللبنانية ـ السورية وعلى علو 1400 متر عن سطح البحر، وهي إحدى البلدات الكبرى في قضاء حاصبيا. وتعود أهميتها الاستراتيجية الى خمسة عوامل:‏

1 ـ اتساع ملكيتها العقارية بحيث تقدّر بـ200 كلم مربع، وتمتد من الجسر الروماني على نهر الحاصباني (علو 450 متراً) حتى جبل الشيخ (علو 2600 متر).‏

2 ـ موقعها المشرف على المنطقة، وخاصة في مرتفعاتها، حيث بنى الاسرائيليون محطتهم الشهيرة للإنذار المبكر التي يمكن منها مراقبة محيط كبير من منطقة الشرق الأوسط تمتد من العراق حتى مصر. وبحكم هذه الصفة فهي حارسة البوابة الجنوبية ـ الشرقية للبنان.‏

3 ـ ثرواتها الزراعية وبشكل خاص الثروة المائية. فبالإضافة الى وجود نبعين كبيرين في شبعا يغذيان المنطقة وصولاً الى جديدة مرجعيون (نبع المغارة ونبع الجوز) فإن شبعا تقع على خط المياه الجوفية الرئيسية لجبل الشيخ حيث يوجد ثاني أكبر خزّان مائي في شرق المتوسط (بعد خزان صنين ـ الأرز) ومنه تتفجر ينابيع بانياس واللدان والوزاني التي تشكّل المصدر الرئيسي لمياه نهر الأردن.‏

4 ـ كونها على مفترق الحدود بين ثلاث دول: لبنان وسوريا وفلسطين. وهذا ما يجعل ملكيتها (خاصة مزارعها الموجودة على مثلث الحدود هذه) عرضة للتجاذبات السياسية الدولية. فترسيم الحدود، في منطقة فقيرة بالمياه، يأخذ في الاعتبار الوضعية المائية كمصلحة حيوية للدولة، ويعرّضها بالتالي للتجاذبات من أكثر من جانب، ومن ثم للقضم وفقاً للتطورات الدولية ولميزان القوى.‏

5 ـ كونها منطقة سياحية من الدرجة الأولى حيث يوجد فيها أجمل المناخ وأطيب الفواكه صيفاً، وفيها أفضل الأمكنة للتزلج شتاءً.‏

هذا الوضع المميز لشبعا بالمعنى الجيو ـ ستراتيجي جعل من هذا الحيّز الممتد، من إصبع الجليل الى جبل حرمون، مكاناً مليئاً بالألغاز المتعددة وعدم الوضوح: في الحدود، في الإشارات، في الصور الجوية، في التحفظات، في الترسيم، الى الانتماء والهوية. وكانت مزارع شبعا الأكثر معاناة، ولا تزال، لأنها واقعة في قلب المثلث اللبناني ـ السوري ـ الاسرائيلي(1).‏

تاريخية الاحتلال‏

ربما كان من أهم عناصر الجدل الذي لم يحسم بيسر حول مزارع شبعا أن قضية احتلالها سابقة على أول احتلال فعلي لجنوب لبنان في حرب آذار (مارس) 1978، أي أنها لم تكن على صلة مباشرة بالقرار رقم 425 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي بعد الاحتلال المذكور. وهو ما سيبعث سجالاً متعدد المصادر والاتجاهات ـ سنأتي عليه لاحقاً ـ حول هوية المزارع، وتعلّق قضيتها بالقرار الدولي رقم 242 المتعلق بالتسوية الشاملة في المنطقة. على أن اضاءة الحكاية منذ فصولها الأولى ستفيدنا في جلاء هذه القضية في أبعادها الوطنية والقانونية والسيادية.‏

يذهب عدد من المؤرخين الى أن اغتصاب أراضي بلدة شبعا وغيرها من الأراضي التي استولت عليها "اسرائيل" قد بدأ حتى قبل قيام الدولة اليهودية بفترة طويلة، أي منذ حقبة حكم الإمبراطورية العثمانية، مروراً بالحقب التالية التي شهدت على السيطرتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية. وهي عملية مرّت بأطوار ومراحل متعاقبة:‏

ـ الأولى: بدأت منذ مؤتمر بال 1897 وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى.‏

ـ الثانية: منذ نهاية الحرب العالمية الأولى الى نهاية الحرب العالمية الثانية.‏

ـ الثالثة: من عام 1967 حتى 1970 ثم الى عام 1992.‏

المرحلة الاولى: بعد المؤتمر الذي عقدته المنظمات الصهيونية والذي اتخذت فيه قرارها النهائي، بإقامة "دولة "اسرائيل" في فلسطين، بدأت هذه المنظمات تشجع اليهود على شراء الأراضي في فلسطين كعملية تمهيدية للسيطرة عليها وإقامة دولتهم فيها، وقد أصدر السلطان عبد الحميد "فرماناً" (أي مرسوماً) يقضي بمنع تطويب الأرض وبيعها لليهود في فلسطين. وكان ذلك سبباً لخلعه على ما تُبين ملفات الأحداث آنذاك. وفي هذه المرحلة لم تتمكن المنظمات اليهودية من الاستيلاء أو شراء أي قطعة أرض من اراضي مزرعة المغر، ولكنها استطاعت شراء بعض الأراضي في فلسطين، كما نالت وعداً من بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، هو الوعد الذي أصدره اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، المعروف بوعد بلفور.‏

المرحلة الثانية: حيث انتهت الحرب العالمية الأولى بسقوط الدولة العثمانية وزوال سيطرتها على بلادنا، إلا أن هذه النعمة لم تدم طويلاً، فقد جاء جور الانتدابين الفرنسي على سوريا ولبنان والبريطاني على فلسطين والأردن والعراق، ليضع السيطرة المستأنفة على نشأة جديدة. وخلالها بدأ رسم الحدود وفق اتفاقية سايكس ـ بيكو، البريطانية ـ الفرنسية. وقد تطورت الحدود وتغيّرت لتخدم الحركة الصهيونية وأطماعها حيث كانت حاضرة ومتنبهة لتستعمل أشكال النفوذ والضغط كافة، لرسم الحدود التي تتوافق مع أهدافها. وبعد أن كانت منطقة الحولة بكاملها تابعة للنفوذ الفرنسي، والتي غالبية مُلاك الأراضي فيها من قضاءي مرجعيون وحاصبيا اللبنانيين في أول الأمر، ضمت هذه الأراضي الى النفوذ البريطاني بين عام 1920 و1923 وذلك بموجب اتفاقات بين الدولتين المنتدبتين، ولا سيما في مؤتمر سان ريمو 1920 واتفاق 29 تموز (يوليو) 1920، ثم اتفاق تعديل الحدود الذي جرى في 23 حزيران (يونيو) 1923. وبموجب هذه الاتفاقات تمّ سلخ قسم كبير من الأراضي اللبنانية وضمها الى فلسطين، بالإضافة الى أراضي الحولة، حيث اقتطعت الاتفاقات المشار اليها شريطاً حدودياً شمل عدة قرى مع أملاكها، وهي المعروفة بالقرى السبع وهي: إبل القمح، هونين، النبي يوشع، قَدَسْ، المالكية، صلحا، طيربيخا. وبذلك حصلت القطيعة النهائية بين هذه الأراضي والأراضي اللبنانية. وعند قيام "دولة "اسرائيل" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بفترة أي في العام 1948 خسرت بلدة شبعا جزءاً من أراضيها في سهل الحولة لا سيما تل القاضي وسواها من الأراضي. ومما تجدر الإشارة اليه أن المنظمات الصهيونية حاولت مراراً شراء الأراضي من أهالي المغر والحولة من أبناء شبعا، لكنهم رفضوا بيع الأراضي رفضاً قاطعاً.‏

المرحلة الثالثة: وهي الأخطر بالنسبة الى اغتصاب مزارع بلدة شبعا، فبعد الحرب العربية ـ الاسرائيلية التي جرت عام 1967 بفترة وجيزة بدأت "اسرائيل" تستولي على مزارع بلدة شبعا بالتدريج، وذلك تحت حجج واهية للاستيلاء على الأرض وضمها اليها. وقد فعلت ذلك مستغلة ضعف وجود الدولة في المنطقة بعد توقيع اتفاق القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فكانت تدمر بيوت هذه المزارع وتزيلها لا سيما بين عامي 1970 و1986.‏

وقد ضمت "اسرائيل" أراضي هذه المزارع اليها بصورة تدريجية كما أشرنا، وأقامت الأسلاك الشائكة ومنعت أصحابها الشرعيين من استثمارها وحرمتهم من أملاكهم، وعلى هذا النحو فقد أهالي البلدة أملاكهم وأراضيهم الزراعية ومراعي الماعز وسائر المواشي، كما فقدوا مصادر الرزق الأساسية ونزحوا في كل اتجاه طلباً للرزق.‏

في هذا السياق يبيّن النائب اللبناني السابق منيف الخطيب في عدد من مطالعاته البرلمانية أن المزارع التي اغتُصِبَتْ، هي بكاملها أملاك لأبناء بلدة شبعا منذ القدم، باستثناء مزرعة المغر التي اشتراها حمود الخطيب في مطلع القرن التاسع عشر ووزعها ابنه علي أفندي الخطيب على أبناء بلدة شبعا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالتساوي. خصوصاً على آل برغش وآل زليخة وآل عساف وآل هاشم وغيرهم من عوائل المسيحيين.‏

لكن الكثيرين من هؤلاء باعوا أراضيهم في مزرعة المغر الى جيرانهم واستبدلوها بأراضٍ في المزارع الأخرى. وهكذا بقيت مزرعة المغر لأبناء بلدة شبعا حيث أقامت عائلات عدة بشكل دائم في المغر، ومنهم آل سرحان وآل ماضي وآل الزغبي وبعض العائلات المسيحية. ويؤكد الخطيب أن لدى أبناء شبعا مستندات تثبت هذه الحقيقة من سندات "طابو" ورخص بناء، ومحاضر تصنيف الأراضي.‏

ومن الأمور الجديرة بالذكر أن الأوقاف الاسلامية في بيروت قد سجلت باسمها مقام نبي الله ابراهيم (ع)(المشهد)، في دوائر "الطابو" اللبنانية(2).‏

عشر محطات لاحتلال المزارع‏

شكلت مزارع شبعا القضية الأولى والكبرى في مسلسل الضم والاقتطاع اللذين مارستهما "اسرائيل" في لبنان. وتمتد هذه المزارع في الطرف الشمالي الشرقي لمنطقة العرقوب، على مساحة تزيد على 100 كلم مربع بطول 15 كلم وبعرض يراوح بين 7 و 10 كلم. وقد اجتاحتها قوات الاحتلال بعيد انتهاء الحرب العربية ـ الاسرائيلية في حزيران (يونيو) 1967، ثم بدأت عملية الضم التدريجي على نحو يضعه الخبراء في سياق يمتد على عشر محطات:‏

المحطة الأولى: في الخامس عشر من حزيران (يونيو) 1967 حين اجتاحت الدبابات والمجنزرات الاسرائيلية المزارع الآتية: خلة غزالة ـ ضهر البيدر ـ رويسة القرن ـ جورة العقارب ـ فشكول. ويومها أُجبر الأهالي بعد قتل أعداد منهم على إخلاء المزارع المشار اليها.‏

المحطة الثانية: في 20 حزيران (يونيو)، وسّعت وحدات من جيش الاحتلال مجال تموضعها لتأخذ في طريقها مزارع قنوة ـ زبدين ـ والرمقا ـ وكان مصير الأهالي مشابهاً لمن سبقهم.‏

المحطة الثالثة: بدأت في 25 حزيران (يونيو) 1967 حين استولت قوات الاحتلال الاسرائيلي على ما تبقى من مزارع شبعا ـ بيت البراق ـ برختا الحتا ـ برختا الفوقا ـ مراح الملول.‏

المحطة الرابع : 26 حزيران (يونيو) 1967، في الواحدة بعد الظهر فجّرت قوات الاحتلال المنازل والزرائب في كل المزارع.‏

المحطة الخامسة: في آب (أغسطس) 1967 أحرقت "اسرائيل" البساتين والحقول ودمّرت مشهد الطير، وهو مقام النبي ابراهيم (ع).‏

المحطة السادسة: جرت في صيف عام 1972، إذ تم تسييج المزارع بالأسلاك الشائكة والألغام، واستتبعت للأراضي الفلسطينية المحتلة.‏

المحطة السابعة: في غمرة المواجهة الاسرائيلية ـ السورية عام 1973، اقتطعت "اسرائيل" عدداً من المواقع اللبنانية في مرتفعات جبل الشيخ أهمها في خراج بلدة شبعا: جورة العليق، وبركة النقار، والسواقي، وتلة السدانة، الواقعة بين شبعا والهبارية، وتتميز بموقعها الاستراتيجي المهم الذي يطل على القطاع الشرقي كله، وصولاً الى محيط قلعة الشقيف ومنطقة النبطية.‏

المحطة الثامنة: عام 1975 تقدمت قوات الاحتلال الاسرائيلي شمالي شرق كفرشوبا من جبل الشميس الذي يشرف على عموم القطاع الشرقي. وباحتلاله صارت كفرشوبا في وضع عسكري بالغ الحرج، وصارت سائر منطقة العرقوب ومرجعيون تحت التهديد الجدي. ولقد بات معروفاً أن هذه الأراضي المقتطعة من العرقوب خارج حالة المزارع كانت قد استبيحت بشكل دائم أمام حركة الدوريات الاسرائيلية، وصارت ميداناً حراً ابتداءً من عام 1975.‏

المحطة التاسعة: وكانت الأهم في تطور مراحل احتلال المزارع. ففي العام 1985 بدأت أول عملية استيطانية في مزارع شبعا حيث أقيمت مستوطنتان ليهود الفالاشا في مزرعتي رويسة القرن وزبدين تحت اشراف الحاخام مئير كاهانا، اضافة الى منتجع سياحي للتزلج في منطقة مقامر الدود، وتم اختيار هاتين المزرعتين لتميزهما بمناخ دافئ يتأقلم معه المستوطنون اليهود الأفارقة. وكذلك لتمتعهما بتربة خصبة وقربهما من سهل الحولة، لقد استوعبت البيوت الجاهزة في المستوطنتين قرابة 3000 يهودي سرعان ما بدأوا بالسطو على مواشي وأرزاق أهالي العرقوب والقيام بأعمال السلب لمواسم المزارعين ومقتنياتهم(3).‏

المحطة العاشرة: واستكمالاً للاقتطاع التام لمزارع شبعا، أقدمت "اسرائيل" في موازاة السيطرة على المنطقة المشار اليها في محيط حواضر العرقوب، على إحكام السيطرة على كامل المزارع بطرد ما تبقى فيها من سكان، وذلك عن طريق تخييرهم ما بين ترك هذه المزارع واخلائها في مدة لا تتجاوز العشرة أيام، وبين الموافقة على إمضاء صكوك البيع وقبض التعويضات والمغادرة مع بلاغ حاسم في هذا الأمر: "سواء قبضتم أم لم تقبضوا، فإنَّ اسرائيل قررت ضم المزارع". وهكذا صدر قرار عن القيادة العسكرية للاحتلال يقضي بضم المزارع. غير أن هذا العرض جوبه برفض قاطع. وفي صباح 21 نيسان (ابريل) 1989 نفّذت "اسرائيل" تهديدها وجمعت البقية الباقية من السكان (60 عائلة) في حدود الـ300 شخص. يومها كرر القائد الاسرائيلي التهديد طالباً منهم الموافقة على عرضه السابق، بضرورة القبول بالبدل المالي عن أملاكهم. إلا أن الأهالي رفضوا مجدداً التهديدات الاسرائيلية. لكنهم على وقع اطلاق النار غادروا على البغال الى شبعا عبر مسالك جبلية وعرة، من دون أن تنفع في رد ذلك تحركات وزارة الخارجية التي أرسلت تعليماتها الى مندوب لبنان الدائم بضرورة تكثيف الاتصالات لتأمين ضغط دولي من أجل وقف الإنذار، حتى "لو استلزم الأمر دعوة مجلس الأمن الدولي الى الانعقاد وبصورة طارئة".‏

لكن الأمر تم، واستتم لاحقاً! إذ بالرغم من إرسال شكوى عاجلة ثانية، فقد تابعت "اسرائيل" خطواتها بضم مزرعتي بسطرة وفشكول وهما آخر ما تبقى من مزارع شبعا، وإدخالهما مع غيرهما من المناطق البتراء من العرقوب، ضمن الحزام الذي يزنرها بدءاً بقرية الغجر ـ المجيدية، وصولاً الى امتداد الطرف الغربي لمزارع شبعا، مروراً بخراج بلدة الماري(4).‏

احتدام السجال حول هوية المزارع‏

لم تكد فرق عمل الأمم المتحدة تفرغ من ترسيم ما يسمى "الخط العملي" للحدود مع فلسطين المحتلة، وهو ما عرف بـ"خط لارسن" أو "الخط الأزرق" حتى انطلق سجال حاد من نوع جديد قادته الأمم المتحدة ومعها الولايات المتحدة الاميركية حول وجوب أن يوقّع لبنان على خطوط الحدود الجديدة. وفيما بدا أن الحكومة اللبنانية تحفظّت على هذه الخطوط بسبب بقاء جزء من الأراضي اللبنانية في منطقة العرقوب الجنوبية الشرقية تحت الاحتلال، بدأت حملة محمومة في الأمم المتحدة تشكك بلبنانية مزارع شبعا، وبأن هذه المزارع لا تدخل في نطاق عمل القرار 425 كونها احتلت في حرب العام 1967، ويرتبط مصيرها بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 المتعلق بالتسوية الشاملة للصراع العربي ـ الاسرائيلي.‏

في هذا الوقت كانت وزارة الخارجية اللبنانية تنقل معلومات عن أوساط في الأمم المتحدة تطلب من لبنان وسوريا التقدم بكتاب خطي حول مسألة ترسيم الحدود بين البلدين على أن يودع هذا الكتاب أو الاتفاقية في الأمم المتحدة. وفي ضوء ذلك الكتاب تقرر المجموعة الدولية لمن تعود أحقية مزارع شبعا. يومئذٍ لفتت المصادر الى أن هذه الاتفاقية تعتبر بمثابة اعتراف وإقرار سوري بأن هذه الأراضي هي أرض لبنانية، وخصوصاً أن الكتاب الذي تقدم به ممثل سوريا في الأمم المتحدة السفير مخايل وهبة في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2000 حول مزارع شبعا يطالب المجتمع الدولي بالعمل على إخراج الاحتلال الاسرائيلي من هذه المزارع.‏

وفي حين لم تقتنع أوساط الأمين العام كوفي أنان بكفاية الكتاب المقدّم من السفير السوري، شككت هذه الأوساط بلبنانية المزارع وقالت: إنه عندما احتلت "اسرائيل" الأراضي اللبنانية عام 1967 وحتى اجتياحها للأراضي اللبنانية عام 1978 لم يتقدم لبنان طوال هذه الفترة الطويلة بأي شكاوى الى الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول احتلال "اسرائيل" لهذه المزارع، إضافة الى أن مزارع شبعا لا تدخل في نطاق القرار 425 ولم تبحث في حينه، فالأمم المتحدة ترى اليوم أن القرار قد طبّق. وعندما حصلت المفاوضات بين لبنان والأمم المتحدة قبل الانسحاب الاسرائيلي لتحديد الخط الأزرق طلبت المجموعة الدولية من لبنان وسوريا التقدم بكتاب خطي أو معاهدة بين الدولتين لبّت مسألة لبنانية مزارع شبعا. فهذه المزارع هي في نظر الأمم المتحدة أرض لا سيادة لها. فقد تكون المزارع سورية، حيث كان السوريون فيها قبل الاحتلال الاسرائيلي لها عام 1967، وقد تكون لبنانية إذا جاز المغزى القانوني لاعتماد مبدأ الملكية والوجود. وهكذا كان الرأي السائد خلال الأشهر التي تلت الانسحاب الاسرائيلي حتى حدود "الخط الأزرق"، يميل الى أن قضية المزارع ستبقى عالقة الى حين الاتفاق بين لبنان وسوريا على معاهدة لترسيم الحدود بينهما(5).‏

وعلى الرغم من انصرام خمسة أعوام على هذا النوع من الطرح السياسي القانوني، لا يزال المنطق الدولي على حاله. الأمر الذي أفسح في المجال أمام عودة التسييس الاسرائيلي للقضية، وتوظيفها تبعاً للتحولات التي عصفت بلبنان والمنطقة بعد صدور القرار 1559 خلال العام 2004.‏

ذرائعية المنطق الاسرائيلي‏

الحجة الاسرائيلية في هذه القضية راحت تظهر على خط موازٍ مع ما تسوقه الأمم المتحدة من وجهات نظر. غير أن المنطق الاسرائيلي كان بطبيعته أشد حرصاً على امتلاك المزيد من الذرائع التي تتيح له جعل قضية المزارع خارج دائرة ترسيم الحدود مع لبنان، وبالتالي على أن تكون عديمة الصلة بروح القرار 425 وتطبيقاته. وهذا هو الكاتب في صحيفة "هآرتس" تسفي هرئيل يبيّن ما يذهب اليه الاسرائيليون في هذه القضية يقول: ان لبنان لم ينجح في البرهنة على أن المزارع عندما احتلت كانت تابعة للبنان وليس لسوريا... ويضيف: حاول لبنان الاستناد الى اتفاق شفهي جرى بين سوريا ووزير الدفاع اللبناني عام 1946 عندما تم تقسيم منطقة المزارع بين سوريا ولبنان، وقد جرت النقاشات فعلاً، لكن لم يتم حينئذٍ التوصل الى وضع أي وثيقة موقّعة. وحتى الخرائط العائدة لأعوام 1961 ـ 1966 التي عرضتها حكومة لبنان على وفد الأمم المتحدة تظهر ـ كما يزعم هرئيل ـ أن المزارع هي منطقة واقعة تحت السيطرة السورية. وتابع: "عملياً، لم يكن يهم الأمم المتحدة كثيراً لمن تعود الملكية الفردية لمزارع شبعا. فالوفد المكلف ترسيم الحدود كان مطلوباً منه التحقق من تطبيق القرار 425 المتخذ عام 1978، حيث يتعلق هذا القرار بالأراضي المحتلة في لبنان فقط، وليس بالأراضي السورية التي احتلت في حرب الأيام الستة، والتي يطبّق عليها القراران 242 و 338 اللذان من المفترض البحث في كيفية تطبيقهما في إطار تسوية سلمية بين سوريا و"اسرائيل"(6).‏

واللافت أن الحجة الاسرائيلية في شأن المزارع لم تصل الى درجة اعتبارها جزءاً مما يسمى "أرض "اسرائيل". لكنها تسعى إلى توظيفها في سياق أي تسوية مفترضة مع سورية. وهكذا سنرى بحسب هرئيل أن "اسرائيل" لا تزعم أن مناطق شبعا هي جزء من "اسرائيل"، ولا تطالب بأي ملكية لها هناك. وتدعم موقف الأمم المتحدة القائل بأن مزارع شبعا هي أراضٍ احتلت عام 1967 واقتطعت من سوريا، علماً أن هناك قرية واحدة من هذه المزارع احتلت عام 1982 وكان فيها قوة سورية ما زالت موجودة هناك. وفي إطار سعيه لتوكيد ذريعة الاحتلال يؤكد الكاتب الاسرائيلي تسفي هرئيل: أن أكثر من 15 ألف مواطن لبناني كانوا يعيشون في المزارع من قبل أن تحتلها "اسرائيل"، ومعظمهم غادرها، ولم يبق غير النساء والأطفال الذين غادروها أيضاً مع مرور الزمن، ولم يعد يسكن هناك إلا بضع عشرات من الذين يعتاشون من الزراعة. على أي حال فإن مؤدى الحجة الاسرائيلية يركز على التعامل مع قضية المزارع كباب من أبواب اللعبة المفتوحة على الجبهتين اللبنانية والسورية، بحيث إن الحرص على بقاء هذا الجزء تحت سلطة الاحتلال غايته إبقاء خيط وصل تفاوضي مع الحكومة اللبنانية يفتح على قضايا أساسية مثل معاهده السلام والتطبيع والمياه والترتيبات الأمنية وسواها. هذا بالإضافة الى هدف آخر قوامه تحويل هذه الثغرة الواقعة على مثلث الحدود المشتركة اللبنانية ـ الفلسطينية ـ السورية الى مجال جيو سياسي وأمني للضغط على سوريا.‏

إن هذا الأمر سيتبين بوضوح من خلال ما سبق ونقله المبعوث الدولي الى لبنان تيري رود لارسن من شروط اسرائيلية بالتواتر الى المسؤولين اللبنانيين، وبحسب المتابعين في ذلك الوقت فقد جاءت الشروط والرؤى الاسرائيلية حيال المزارع على الشكل التالي:‏

أولاً: ان "اسرائيل" لا تعتبر مزارع شبعا مشمولة بالقرار 425، وبالتالي فإنها احتلت هذه الأراضي قبل هذا التاريخ، وخلال حرب 1967. اضافة الى أن هذه الأراضي غير لبنانية، وأن "اسرائيل" ستتفاوض بشأنها مع سوريا من ضمن القرار 242 وفي إطار مفاوضات السلام الشامل، وان "اسرائيل" أعلنت من خلال الرسالة التي وجهتها الى كوفي أنان، أنها ستعمل على تنفيذ القرارين 425 و426، وعلى تراجع جيشها الى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً، وتعود بالتالي الى الحدود التي كانت عليها عام 1978، وهذا يعني أنها تحتفظ بمزارع شبعا كونها كانت تحتلها قبل ذلك التاريخ، بمعنى أنها احتلت هذه المزارع عام 1967. وبالتالي فإن "اسرائيل" ترفض الخوض في هذا الموضوع لأنها تعتبره خارج إطار البحث، وهي تبلغ لبنان هذا الموقف. ثم يمضي لارسن الى القول: "أنا هنا أنقل الموقف الاسرائيلي لأننا لسنا هنا لترسيم حدود، وإنما لنضع أهداف عملنا، ونعمل على التأكد من أن الانسحاب الاسرائيل يتم الى ما وراء الحدود الدولية، وفق ما يشير الى هذه الحدود الفنيون والخبراء، إضافة الى ان "اسرائيل" تقول إن لبنان لا يملك خرائط لمزارع شبعا، ولم تكن يوماً ضمن حدوده، بل كانت ضمن الحدود السورية، وكان هناك نزاع عليها بين لبنان وسوريا".‏

ثانياً: يشترط الاسرائيليون للانسحاب أن يتم انتشار القوة الدولية في المناطق التي ستنسحب منها، وتتخذ هذه القوات مواقعها في هذا "الجيب"، كما يفترض إقامة ثلاث نقاط أو أكثر لمنطقة حقوق الانسان لمنع حصول أعمال انتقامية على هذه المجموعات. وهكذا يتم الانتشار الدولي قبل الانسحاب الاسرائيلي بحيث عندما تنجز القوة الدولية انتشارها ينسحب الجيش الاسرائيلي.‏

ثالثاً: لا بد من أن تقوم المنظمة الدولية بمسؤولياتها وفق ما يشير الى ذلك القرار 426 وتتولى القوة الدولية الموجودة في الجنوب مهماتها ودورها في تأمين انسحاب اسرائيلي بظروف هادئة، وفي أجواء طبيعية، لذلك قد تعطى هذه القوة صلاحيات جديدة، وبتوسيع إطار مهمتها تبقى من اهتمام الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وقائد قوة الطوارئ في الجنوب، اللذين يتخذان القرار المناسب واللازم في ضوء المعلومات والمعطيات، وفي ضوء ما تفرضه المصلحة الدولية، لأنهما يعملان على السهر والإشراف على حسن تطبيق القرارات الدولية في جنوب لبنان(7).‏

ما لا يُشك فيه، أن حال التردد الذي حكم الرأي الاسرائيلي العام إزاء مزارع شبعا، عائد الى الآثار السياسية والأمنية والمجتمعية المترتبة على قرار الجلاء المفاجئ والسريع في أيار (مايو) 2000، فالقرار الذي اتخذته حكومة ايهود باراك جاء بحسب كثيرين من الخبراء، ليعكس حصيلة مساومة جرت بين المجتمعين السياسي والعسكري في "اسرائيل". وربما لهذا السبب نشأت الرؤية الحائرة بين القيادات الاسرائيلية المختلفة حيال البقاء في مزارع شبعا.‏

وهكذا، فإن أكثر الذين تابعوا تحوّلات الموقف الاسرائيلي حيال مزارع شبعا اتفقوا على خلع صفة الغموض عليه. فالجدل حول فضائل الانسحاب وسلبياته ظل على احتدامه بين القوى والتيارات المختلفة في "اسرائيل". فعلى هذا الخط من الرؤية سيبيِّن الكاتب الاسرائيلي في صحيفة "يديعوت احرونوت" غي باخور "درجة الغبطة التي هلّت على مستوطني الشمال بفضل الانسحاب. وأن ما حصل شكّل ضربة وُجهت بقوة الى نظرية الأمن الاسرائيلية التقليدية التي تقول بضرورة نقل الحرب الى أرض العدو"(8).‏

وسنرى على خطّ موازٍ لهذه الرؤية كيف مضى قطاع واسع من المجتمع السياسي والأمني الاسرائيلي الى طرح الأسئلة بكثافة حول إصرار الحكومة على الاحتفاظ بمزارع شبعا. وبحسب هؤلاء فإن "اسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي تزعم أن تلك المزارع هي أراضٍ سورية. فسوريا نفسها، كما لبنان، أعلنت أمام الأمم المتحدة والعالم أن المنطقة أراضٍ لبنانية، ومع ذلك تصرّ "اسرائيل" على موقفها المصرِّ على أن تلك الأراضي هي أراضٍ سورية. ظاهرياً يبدو الأمر وكأنه مجرد شوقٍ الى القتال ـ كما يبين منتقدو النزعة الحربية ـ اذ إن إبقاء التوتر على الحدود الشمالية هو وضع مريح أكثر للمراتب العسكرية والسياسية. فدويُّ المدافع والأحلام المرعبة يخففان على الدوام أعباء الحياة عن الحكومات الفاشلة، والجيوش التي لم تحقق منذ زمن بعيد انتصاراً في أي معركة على ما يعبِّر به ميخال الكاتب في "يديعوت أحرونوت"(9).‏

قوة لبنان في حجته‏

يؤسس لبنان مواقفه وآراءه حول مزارع شبعا وأحقية سيادته عليها على بديهيات: في مقدمها أن هذه الأرض احتلت بالتدريج في ظل المناخ الاحتلالي الذي فرضته حرب حزيران (يونيو) 1967. ولئن كانت الحجة الاسرائيلية تقوم على أن هذه الأرض قد جرى احتلالها استتباعاً بهضبة الجولان السورية، فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنها جزء من الهضبة، ولو كان احتلالها يومذاك قد تم لدواعٍ عسكرية واستراتيجية. أما في ما يتعلق بالادعاء بما إذا كانت المزارع لسوريا أو للبنان فبالتأكيد إن المزارع ليست "لاسرائيل". ثم إن لبنان يملك صكوكاً موجودة لدى الدوائر العقارية في مدينة صيدا تؤكد لبنانية المزارع.‏

هناك مثلاً أراضٍ تابعة للأوقاف الاسلامية مثل "مشهد الطير"، وهناك ولاية قضائية، حيث كان القضاة يذهبون الى هناك للتحقيق في قضايا مختلفة وجرائم. فلو كانت أرضاً سورية لما ذهب اليها قضاة لبنانيون، في هذا الإطار يتحدث الخبراء والباحثون عن عدد من نقاط القوة، منهم من كان يقول: "إن لدينا قرار الجنرال غورو للعام 1920 الذي يقول إن حاصبيا جزء من لبنان، ثم بعد ذلك معطيات المساحة لهذه الأراضي وهوية السكان، وهما موجودتان في لبنان. فصكوك الأراضي تؤخذ من الدوائر العقارية في صيدا، والمزارع مثل الرمتا، القفوة، الفشكول، مغر شبعا، مزارع زبدين والنخيلة، كانت فوق النقطة 39. لذا فإن حدودنا لم تكن قد وصلت الى الحاصباني بترسيم بوليه ـ نيو كمب عند جسر الغجر. فنحن هنا وصلنا الى بانياس. ولو كانت هذه النقطة غير لبنانية لكانت الحدود توقفت عند الحاصباني". أما وأن الحدود بعيدة عن الحاصباني لمسافة كيلومترين ونصف الكيلومتر تقريباً، على بعد قليل من بانياس، فيعني ذلك أن المناطق التي تقع وراءها هي لبنانية. وما يؤكد ذلك هو القرار الإداري للسراي الحكومي عام 1925 حيث نظم لبنان محافظات ومديريات، ومؤداه ان النخيلة لبنانية، وهي تقع تحت المزارع. ولو عدنا الى خريطة العام 1920 لوجدنا أن هناك مشروع خط انطلاقاً من بانياس وليس انطلاقاً من الحاصباني.‏

ومن نقاط القوة أيضاً، ما يعود الى العام 1949 حين جرى تجديد ترسيم الحدود بين لبنان و"اسرائيل". ويبين الخبراء استناداً الى حشد من الخرائط والوثائق: "أنه في أقصى نقطة شرقية للحدود الاسرائيلية ـ اللبنانية لا توجد علامة بتاتاً لذا يجب وضعها". في حين يوصي الخبراء بوضع حجر وعلامة (A) جنوب محور الجسر والضفة الغربية من النهر، والكلام عن نهر اللدان. إن هذه الوثيقة المتعلقة بإحياء ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا تؤكد أن بدء الحدود اللبنانية هو قرب بانياس وليس قرب الحاصباني. وهناك خريطة وضعها العالم الجغرافي الفرنسي "دوبرتريه" في العام 1943 تثبت أن الحدود لا تبدأ من الحاصباني، وإنما من منطقة قريبة من بانياس السورية. الى هذا هناك مؤرخ اسرائيلي هو (موشيه براور) وهو من أهم الجغرافيين المتخصصين بمسائل الحدود يقول في كتابه "حدود اسرائيل" إن مزارع شبعا هي منطقة متنازع عليها. فهناك خرائط تقول إنها للبنان وخرائط تقول إنها لسوريا(10).‏

المزارع وجبل الشيخ: رباط جيو ـ استراتيجي‏

مهما يكن من أمر فإن ما يسوقه الخبراء الاسرائيليون من حجج يجري توظيفها على الجملة ضمن استهدافات أتينا على ذكر بعضها، بالإضافة الى استهداف آخر يرمي الى الاحتفاظ بمزارع شبعا لإجراء مساومة أو مقايضة بجبل الشيخ لأسباب اقتصادية ودينية. ويزيد خبراء لبنانيون سبباً ثالثاً يتعلق بالمطمع المائي. إذ إن جبل الشيخ أو "حرمون" يضم أكبر خزان للمياه في الشرق الأوسط. أما بالنسبة الى مزارع شبعا فهي تنطوي على قيمة اقتصادية استثنائية إن من ناحية أهميتها الزراعية أو الجغرافية، حيث تتدرج من مستوى سطح البحر في مزرعة المغر حتى تصل الى مزرعة برختا على علو 1150 متراً.‏

لقد كان وادي التيم، ومنطقة حرمون، وتالياً المنطقة الجنوبية للبنان، هدفاً للأطماع الصهيونية، قبل قيام دولة "اسرائيل" وفي المرحلة اللاحقة لقيامها.‏

فمنذ العام 1948 اعتبر البروفسور جورج آدام سميث أن الجنوب اللبناني ومنه جبل حرمون يشكل امتداداً للأراضي المقدسة. ويزعم أن أسباط "اسرائيل" الأربعة: ابزاشر، زبولون، أشر ونفطالي، قد سكنوها فترة من الزمن(11).‏

وقد ركّز هرتزل، في مذكراته، على جنوب لبنان وجبل الشيخ نظراً الى أهميته الاقتصادية والعسكرية، ولاحتوائه على مصادر المياه الضرورية لتطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين.‏

وبعيد وعد بلفور وُضعت الخطط من قبل القيادة الصهيونية لاستغلال مياه الليطاني واليرموك وثلوج حرمون. وفي مذكرتها الى مؤتمر الصلح شددت الحركة الصهيونية على مسألة مياه جبل حرمون ونهر الليطاني. وكذلك صدرت مقالات متتالية في مجلة المنظمة الصهيونية ركّزت على ضم حرمون والليطاني الى فلسطين. وقد أيّد هذا الطرح ضباط انكليز كبار أمثال "هاجن" الذي كتب الى وزير الخارجية كيرزون (في 15 - 12 - 1919) يطالب بإلحاق الليطاني وحرمون بفلسطين. وقد رفض الفرنسيون هذا الضغط، وأقصى ما تنازلوا عنه هو الإقرار بحصة فلسطين من مياه جبل حرمون المتدفقة جنوباً بنسبة 33 في المئة، إلا أن المنظمات الصهيونية في اميركا أصرّت على ضم مياه الليطاني وجبل حرمون الى فلسطين. وكذلك قبيل مؤتمر سان ريمو نيسان (أبريل) ـ 1920، أرسل "وايزمن" رسائل عدة الى قادة الدول المجتمعة مؤكداً إصراره على "اعتبار الليطاني وجبل الشيخ حدودنا الشمالية".‏

وبرغم الاتفاق الفرنسي ـ البريطاني على تحديد الحدود بين فلسطين ولبنان فقد استمرت الدعاية الصهيونية، خصوصاً من خلال نشرة "Palestine"، بالإصرار على أن مياه الليطاني وحرمون هي مسألة حياة أو موت بالنسبة الى مستقبل الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وبإزاء حملة الضغط التي مارستها المنظمات الصهيونية في أميركا أرسل ويلسون رسالة الى الحكومة البريطانية جاء فيها "... إن نجاح القضية الصهيونية يتوقف على توسيع الحدود في الشمال والشرق إلى أن تشمل نهر الليطاني ومنابع المياه في حرمون..." (12).‏

في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1920 تم توقيع اتفاق بين فرنسا وبريطانيا حول تنظيم الحدود والمياه وسكك الحديد وما اليها. وفي المادة الاولى تم الاتفاق على تحديد الحدود، بحيث بقي حرمون بكامله ضمن الأراضي اللبنانية السورية.‏

في اتفاق بوليه ـ نيو كمب تم ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا من جهة وفلسطين. وفي المنطقة موضوع اهتمامنا مرّ الترسيم من جسر البراغيت على نهر مرجعيون، وبعد الجسر ركّزت النقطة 38، ثم اتجه خط الحدود في اتجاه الجنوب الشرقي ليسير في موازاة نهر الحاصباني وصولاً حتى جسر الغجر جنوب نبع الوزاني الذي يقع داخل الأراضي اللبنانية. ومن جسر الغجر يتجه الخط شرقاً نحو وادي العصافير شرق خربة الدوير. ويمرّ الخط فوق عين تل القاضي ليصل الى النقطة الحدودية 39. بعدها تبدأ الحدود السورية ـ الفلسطينية انطلاقاً من النقطة 40 (حيث مجرى نهر بانياس) حتى العلامة الرقم 71.‏

في دراسته الموضوعة تحت عنوان: "جيوبوليتيكا جبل الشيخ" يتوصل الباحث اللبناني عصام خليفة الى نتائج موثقة تؤكد أن حدود فلسطين الشمالية لم تصل الى نقطة تعلو أكثر من 800 متر تقريباً. وهذا يعني أن جبل حرمون الحقيقي هو جبل لبناني ـ سوري من وجهة نظر القانون الدولي، باعتبار أن اتفاق بوليه ـ نيو كمب قد أقرّ في عصبة الأمم عام 1934 وكرّس الحدود الدولية. أما بالنسبة الى حدود لبنان مع سوريا في جبل الشيخ فإنها تبدأ من شمال عين التنور وتتجه شمالاً شرق وادي المغر حتى تصل الى جبل السماق، ومن ثم جبل الروس (1530م) شرق كفرشوبا، ثم تتجه الحدود على خط انحدار المياه جنوب جبل حوراتا لتصل الى شرق ضهور عين الجوز على علو 2300 م. ويستمر خط الحدود مع خط انحدار المياه ليصل الى أعلى قمة في جبل حرمون التي هي قمة قصر شبيب، وعلوها 2814 م. بعدها تتجه الحدود شمالاً نحو الخرشونة (2296م) ومن ثم قرنة السفحة وحرمون الشرقي (2154م).‏

ويوضح خليفة استناداً الى ما سبق أنه بعد قيام "اسرائيل"، وعقد اتفاق الهدنة مع لبنان في آذار (مارس) 1949 تم التأكيد على أن خطوط الهدنة متطابقة مع الحدود الدولية المعترف بها في اتفاق بوليه ـ نيو كمب.‏

وبرغم أن لبنان وقّع مع "اسرائيل"، وبإشراف الأمم المتحدة، تجديداً لاتفاق ترسيم الحدود، مع اعادة احياء نقاط الحدود الموضوعة سابقاً، حاولت "اسرائيل" أن تطرح ضرورة تغيير الخط الحدودي الممتد من (مرتفع كبرح) الواقع على بعد ألف ومئتي متر من جنوب شرق المطلة وحتى ضفة نهر الحاصباني. بينما خط الهدنة بين سوريا و"اسرائيل" لم يكن متطابقاً تماماً مع خط بوليه ـ نيو كمب. ثم يتابع، أنه بعد حرب حزيران (يونيو) 1967، وحرب تشرين الأول(أكتوبر) 1973 حصل تقدم اسرائيلي واسع في القطاع الشمالي من هضبة الجولان وجبل الشيخ، ويزعم موشيه برافر الباحث الاسرائيلي في مسألة الحدود، أن الحدود الجديدة لـ"اسرائيل" تصل الى منطقة تعلو 2224م، من جبل الشيخ، حيث يمس الحدود اللبنانية التي كانت في رأيه، حدود سوريا مع لبنان. ويبدو واضحاً أن ثمة تمركزاً واسعاً في المناطق الغنية بالمياه. فيذكر براور أنه بدءاً "من ضفاف نهر الحاصباني ـ بجوار جسر غجر، والذي كان حسب الحدود الدولية واتفاقات الهدنة بين "اسرائيل" ولبنان يقع في الجانب اللبناني ـ في الشرق، وحتى كنف جبل الشيخ ـ الواقع على بعد كيلومترين ونصف جنوب شرق قرية شبعا، تسير الحدود الحالية بين "اسرائيل" ولبنان على طول الخط الذي كان في الفترة بين عام 1921 وعام 1967 بمثابة الحدود بين سوريا ولبنان". هذا يعني، من وجهة نظر المؤرخ الاسرائيلي، وراثة "اسرائيل" بعد احتلالها الجولان في أعقاب حرب 1967، قسماً من حدود سوريا / لبنان.‏

وهكذا تطرح "اسرائيل" توسيع حدودها مع لبنان من 79 كلم تقريباً كما كانت في ترسيم 12 كانون الأول (ديسمبر) 1949 ـ المبني على اتفاق بوليه ـ نيو كمب، الى أكثر من مئة كلم، وذلك في منطقة جبل الشيخ حتى ارتفاع ألفي متر حيث يلتقي بخط فصل القوات بين "اسرائيل" وسوريا(13).‏

حجج لبنانية إضافية:‏

الى هذه المعطيات فإن هناك حشداً من القرائن والحجج القانونية الموثقة يؤكد ما يذهب اليه المنطق اللبناني الرسمي في اظهار لبنانية مزارع شبعا وأحقية السيادة عليها، اخترنا منها ما يلي:‏

أولاً: "في إحدى الخرائط المرسومة عام 1932 يبدو مكان التقاء الحدود الاسرائيلة ـ السورية ـ اللبنانية، أسفل جبل الشيخ، على بعد مئات من الأمتار شمال قرية بانياس، ويمتد من هناك في خط مباشر تقريباً لمرتفعات الجبل.‏

وفي ضوء هذه الخريطة فإن المناطق الواقعة بين مجرى نهر الحاصباني، وبين جنوب جبل الشيخ تعود جميعها للسيادة اللبنانية".‏

ثانياً: إذا كان صحيحاً أن بعض الخرائط قد وضعت نسبة غير قليلة من مزارع شبعا ضمن الحدود السورية، وأوصلت الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الاسرائيلية الى نهر الحاصباني، فإن خرائط أخرى لحظت وجود نقطة تلاقي الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الاسرائيلية بين بانياس والحاصباني، فعلى سبيل المثال لا الحصر إن خريطة لبنان الطبيعية الصادرة عام 1943 (400000/1) من قبل L.Dubertret رئيس القسم الجيولوجي في فترة الانتداب، تؤكد أن مزارع شبعا هي ضمن الأراضي اللبنانية.‏

ثالثاً: شبعا ومزارعها في الدوائر العقارية اللبنانية وأهلها يدفعون الضرائب للدولة اللبنانية: ومؤدى هذه الحجة أنه إذا كانت قرية شبعا ومزارعها وحدة عقارية، وإذا كانت الصكوك والإفادات العقارية التي يحملها سكانها تصدر عن الدوائر العقارية في مدينة صيدا، وإذا كان سكانها يدفعون الضرائب للدولة اللبنانية، فكيف يمكن التشكيك بانتمائها للدولة اللبنانية. علماً أيضاً أن سكان قرى النخيلة تحت مزارع شبعا يدفعون الضرائب ويأخذون الإفادات العقارية من السجل العقاري في صيدا.‏

رابعاً: السلطة القضائية اللبنانية تمارس صلاحياتها على شبعا ومزارعها: إن القوانين اللبنانية الصادرة في فترة الانتداب أكدت أن صلاحية سلطة محكمة حاصبيا البدائية كانت تمتد على كامل قرى مديرية حاصبيا ومنها شبعا ومزارعها (القانون الصادر في 20 نيسان (ابريل) 1928) وثمة دعاوى مدنية وجزائية وجنائية في شبعا ومزارعها بتت بها محاكم البداية والاستئناف والتمييز.‏

خامساً: إن تقارير درك الجنوب اللبناني، من خلال الصحف اللبنانية (وتحديداً جريدة "النهار") تؤكد أن شبعا ومزارعها بقيت حتى 14 - 9 - 1965 تحت السلطة اللبنانية. ولكن في المرحلة التي تلت ذلك خضعت منطقة العرقوب لمعادلة الصراع الميداني الفلسطيني الاسرائيلي، حتى سميت منطقة العرقوب، وصولاً الى مزارع شبعا، بأرض فتح، أو "فتح لاند". وبرغم ذلك بقيت السيادة للدولة اللبنانية. ولم يصدر أي قرار عن مجلس الوزراء اللبناني يشير الى تخلي لبنان عن سيادته على شبعا ومزارعها.‏

سادساً: ثمة رسالة مرسلة من الحكومة السورية تحت الرقم 574 (53/124) بتاريخ 29 - 9 - 1946 تؤكد أن مزارع شبعا، بعكس ما يرد في بعض الخرائط، هي أراضٍ تحت السيادة اللبنانية.‏

سابعاً: ثمة مستندات جمركية ورخص بناء لأهالي من هذه المزارع صادرة عن قائمقام مرجعيون.‏

أما في مسألة شبعا ومزارعها وخط الحدود بين سوريا ولبنان، فقد سبق وأشرنا الى أن القرار الذي أصدره الجنرال غورو في 31 آب (أغسطس) 1920 تحت الرقم 318 عرّف حدود لبنان الشرقية بحدود الأقضية ومنها قضاء حاصبيا، وقد تم التأكيد على هذه الحدود من خلال المادة الاولى في الدستور اللبناني الذي صدر عام 1926، ومما جاء فيها عن الحدود الشرقية للدولة اللبنانية أنها تتبع: ".. حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية"(14).‏

الجيوبوليتيكا الرماديـة‏

ظلَّ الغموض في جيوبوليتيكا الحدود بين لبنان وفلسطين محرِّكاً لصراع مفتوح في جنوب لبنان على مدى ثلاثة أرباع القرن. وعلى قاعدة الترسيم المهزوز الذي أجراه الانتدابان الإنكليزي والفرنسي عام 1920 وعرف يومها باتفاقية (بوليه ـ نيوكمب)، ستنفلت سلسلة طويلة من الخروقات والاختراقات، لم تنته مع جلاء الاحتلال في ربيع العام 2000. ولو راجعنا الآليات التي خضع لها اتفاق الترسيم الذي وضعه الجنرالان الإنكليزي والفرنسي آنذاك، لوجدنا أن الغموض شكَّل قاعدة أمنية اسرائيلية ممتازة للإبقاء على الجيوبوليتيكا الغامضة والمتحركة على حدودها مع لبنان. وهنا لا بد من الإشارة إلى جملة أمور حصلت بعد الاتفاق:‏

أولاً: لم يجرِ تنفيذ الاتفاقية إلاَّ في نيسان (أبريل) 1924 أي بعد أربع سنوات على توقيعها.‏

ثانياً: تألفت لجنة فرنسية ـ بريطانية لدراسة نتائج هذه الاتفاقية، وتمَّ على إثرها توقيع اتفاق حسن الجوار (2/2/1926).‏

ثالثاً: أقرَّت عصبة الأمم اتفاق بوليه ـ نيوكمب عام 1934، وعندها فقط أصبحت هذه الحدود تحمل صفة الحدود المعترف بها دولياً. وما تجدر الإشارة إليه أيضاً، أنَّ هذه الاتفاقية أودعت في عصبة الأمم منذ العام 1924، وأقرَّت في شباط (فبراير) من العام نفسه. لكن في عام 1932 تمَّ استكمال ترسيخ الحدود السورية ـ الفلسطينية بين الحمة واليرموك. ويبدو أنَّ هذا السبب كان في أساس تكرار إيداع هذا الاتفاق مجدداً عام 1934 في أدراج عصبة الأمـم(15).‏

بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً ستترسَّخ حقائق إضافية، لجهة السعي الصهيوني الأصلي لإبقاء فكرة الحدود المتحركة بين دولة "اسرائيل" ومحيطها حيَّة وفاعلة. وتكشف الوثائق إلى أي مدى استطاعت حكومة "اسرائيل" الأولى بقيادة بن غوريون التسلل خارج دائرة الشروط الدولية، وخاصة شروط الأمم المتحدة التي تؤكد على وجوب التزام "اسرائيل" باتفاق "بوليه ـ نيوكمب" المتعلق بترسيخ الحدود.‏

ففي 11 أيار (مايو) 1949 تمت الموافقة على انضمام "اسرائيل" إلى الأمم المتحدة وعلى نحو استثنائي. فقد ربطت عضويتها بشروط وردت في مقدمة القرار، منها التعهد بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وأخصّها القرار المتعلق بالحدود (29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1949).‏

في هذا المجال ثمة جملة من الملاحظات الأساسية يلخصها الخبراء على النحو التالي:‏

1- أثار مندوبو "اسرائيل" في أثناء اجتماعات لجنة التوفيق الدولية عام 1949 مسألة مياه الليطاني، ما حدا باللجنة إلى أن توصي في تقريرها الصادر في كانون الأول (ديسمبر) باستثمار سبعة أثمان مياه الليطاني في "اسرائيل"، وذلك بتحويله إلى وادي الأردن.‏

2- نصَّ اتفاق الهدنة الموقَّع في 23 آذار (مارس) 1949 في المادة الخامسة على ما يلي: "يجب أن يتبع خط الهدنة الدائمة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين...".‏

3- ألزم الاتفاق الاسرائيليين بالانسحاب من عدة مناطق شمال الحدود كانوا قد احتلوها إبّان معارك 1948.‏

4- تطبيقاً لروحية الاتفاق، قامت لجنة الهدنة اللبنانية ـ الاسرائيلية، وبإشراف الأمم المتحدة بعملية مسح جديدة وتثبيت نقاط الحدود. وقد بدأ هذا المسح في 5/12/1949 وانتهى في 15 من الشهر نفسه.‏

5- تقاسم لبنان و"اسرائيل" تكاليف إقامة العلامات الحدودية (من فئتي A وB) والعلامات اللبنانية تكون زرقاء أما الاسرائيلية فتكون حمراء.‏

6- مثَّل الجانب الاسرائيلي غوزنسكي وسيغال، ومثَّل الجانب اللبناني الكابيتان غانم والكابيتان ناصيف، والسيدان مسرّة وبيتغور كتقنيين.‏

7- تمَّ الاتفاق على ما يلي:‏

أ ـ الترسيم يتم على قاعدة اتفاق بوليه ـ نيوكمب.‏

ب ـ العمل سيتم على أساس خريطة 2000/1 PALESTINE والخريطة 150,000 LEVANT.‏

ج ـ أعمال ترسيم الحدود وإعادة إحياء الإشارات التي كانت موضوعة سابقاً تبدأ انطلاقاً من الشرق.‏

د ـ توضع نقاط أساسية (38 نقطة) ونقاط ثانوية.‏

هـ ـ العمل يجب أن يتسم بالسرية.‏

و ـ الأعباء المالية يتحملها لبنان و"اسرائيل".‏

8- حصلت تباينات وخلافات في تفسير (بوليه ـ نيوكمب) لا سيما شرق المطلّة وحتى ضفة نهر الحاصباني.‏

في المرحلة اللاحقة، وخاصة بعد 1967، علَّقت "اسرائيل" العمل بلجنة الهدنة، وقامت باحتلال جنوب لبنان عام 1978. هكذا تبيَّن أن هناك خطاً ثابتاً لدى "اسرائيل" يسعى لتغيير الحدود. وفي هذا السياق يمكن أن نتفهَّم ما ذكره أحد الباحثين الأميركيين (برنارد راش) من أنَّ الاتجاهات السياسية الاسرائيلية والرأي العام الاسرائيلي كان منقسماً بالنسبة إلى تحديد الرقعة أو الحدود التي يريدونها. ومن ثم اتفقوا على شيء واحد، وهو عدم التكلم في هذا الموضوع وتركه للوقت. والظروف التي ستحدد مقدار الرقعة التي يمكن أن تضمّها "اسرائيل" تبدو وكأنها آخذة بمفهوم راتزال للحدود السياسية. هذا المفهوم البيولوجي الذي يركِّز على "التوسع والاستيلاء على المناطق والأقاليم العامة في إطار إعلان سلطات الدولة وقوتها"(16).‏

بعد نحو نصف قرن على اتفاقية الهدنة واللبس الذي اكتنفها نصاً وتطبيقاً، ظهرت السيرورة الاسرائيلية كما لو أنها تعيد إنتاج ثوابتها الجيوبوليتكية بأشكال أخرى. لقد بدا أنَّ السجال الحدودي بين لبنان و"اسرائيل" لم ينته عند حد إعلان فريق الأمم المتحدة إنهاء الخروقات من الجانب الاسرائيلي. لكن السجال في المجال الجيوبوليتيكي والأمني على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية سيمتد إلى فضاء أوسع مما يتصوره مراقبو اللحظة الراهنة. لقد كان الرابع والعشرون من تموز (يوليو) 2000، يوماً مشهوداً في حلقات النقاش المتسلسلة حول الالتزام الاسرائيلي بما يسمى "الخط الأزرق". في هذا اليوم كان ثمة موقفان يفصحان عن حصاد شهرين مضنيين من عمل فرق مراقبة خط الحدود التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة لفريق الخبراء اللبناني. الموقف الأول أعلنه الموفد الدولي تيري رود لارسن بعد اجتماعه إلى رئيسي الجمهورية والحكومة في بيروت، وجاء على الشكل التالي:‏

1- إنَّ "اسرائيل" أزالت جميع الخروقات التي كانت قائمة على الخط الأزرق.‏

2- إنَّ قيادتي الجيش اللبناني والطوارئ ستجتمعان لبحث خطة إعادة انتشار القوات الدولية في المنطقة الحدودية.‏

3- إنَّ الأمانة العامة للأمم المتحدة تبلَّغت مضمون البندين المذكورين.‏

4- إنَّ قوات الطوارئ سترصد مستقبلاً منطقة الحدود فتبلِّغ الأمم المتحدة بأي خروقات مستجدة، والمنظمة الدولية ستبلِّغ مجلس الأمن بذلك.‏

5- إنَّ الأمم المتحدة ستبدأ جهودها لدعم تلبية حاجات لبنان من خلال مؤتمر الدول المانحة.‏

أما الموقف الثاني، فهو موقف لبنان، وقد حدده رئيس الحكومة سليم الحص على الوجه التالي:‏

1- إن لبنان سوف يلتزم موجبات القرار 425.‏

2- إنَّ "اسرائيل" أزالت الخروقات التي كانت قائمة على مستوى الخط الأزرق.‏

3- إنَّ لبنان سيظل يطالب بأرضه حتى الحدود الدولية، وباستعادة حرية الأسرى والمعتقلين في سجون "اسرائيل" وبمزارع شبعا وبالأراضي التي لم تزل محتلة ما بين الحدود الدولية وبين "الخط الأزرق".‏

4- إن القوات الدولية سوف تنتشر حتى الحدود الدولية وإن قوة مراقبي الهدنة U.N.T.S.O. سوف تكون عند الحدود، وسوف تراقب مدى احترام لبنان و"اسرائيل" لخط الانسحاب، وهي التي سوف تتلقّى ملاحظات أو شكاوى الطرفين.‏

5- إذا وافق لبنان على خارطة الانتشار المقترحة من جانب القوة الدولية فسوف يكون الانتشار سريعاً، وربما خلال يومين أو ثلاثة.‏

6- إن القوات المسلحة اللبنانية ستنتشر بالتزامن مع انتشار القوات الدولية، للحكومة اللبنانية الحق في تقدير موجبات إرسال قوات من الجيش لدعم القوة المشتركة اللبنانية الموجودة في مناطق الجنوب، وهذا ما حدده تقرير الأمين العام للأمم المتحدة(17).‏

بين "الخط الأزرق" وخط الحدود الأصلي‏

يمكن القول إنه بهذين الموقفين، الدولي واللبناني، يكون المبعوث الدولي لمراقبة جلاء قوات الاحتلال، تيري رود لارسن قد نجح ضمن حدود مهمته المعلنة في المهمة الموكولة إليه. أي في إعادة تثبيت علامات الحدود بين لبنان و"اسرائيل" بحيث صار ما يسمى الخط الأزرق أو خط لارسن هو خط انسحاب قوات الاحتلال من جنوب لبنان.‏

لكن هل حصل لبنان فعلاً على حقه النهائي في حدود أراضيه المعترف بها دولياً؟‏

حتى إعلان الفريقين اللبناني والدولي إنجاز الانسحاب الاسرائيلي، كان الجدل لا يزال يدور حول النقاط الغامضة التي تشكّل المنطقة الوسطى بين حدود 1923 وحدود الانسحاب، أو ما يسمى الخط الأزرق. وثمة فرق مهم سبق وأفصح عنه رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود عندما أشار إلى أن بين لبنان وفلسطين حدوداً دولية معترفاً بها لم تكن في أي يوم موضوع نزاع بين البلدين، بل إن الرسم الوصفي لتلك الحدود الذي وضع عام 1923، قد أعيد ترسيمه بصورة دقيقة، وبإشراف الأمم المتحدة ومراقبيها عام 1949 من النقطة B.P.I إلى النقطة B.P بما فيها النقاط الوسيطة. ولقد فوجئ لبنان، بحسب ما بيَّن الرئيس لحود في مذكرة أرسلها إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان (في 11/6/2000) بطرح يقول باعتماد "خط الانسحاب"، لتثبيت الانسحاب الاسرائيلي. والمفاجأة هنا تكمن في أن هذا الطرح يخالف منطق الأمم المتحدة حيث إنَّ إقرار مجلس الأمن رقم 242 وتقرير الأمين العام الملحق به، لا يشيران مطلقاً إلى هذا الخط، بل إلى خط يتطابق مع الحدود الدولية. وبالتالي فإنه لا يمكن تأكيد الانسحاب إلاَّ على أساس خط هذه الحدود، وليس على أساس خط وهمي غير موجود، هو ما يسمّى بـ"خط الانسحاب".‏

هل "خط الانسحاب" الذي أكَّدت عليه الأمم المتحدة هو نفسه الخط العملي الذي سعى الأمين العام كوفي أنان إلى اعتماده وبما يتوافق مع ما توافر من خرائط لدى المنظمة الدولية؟‏

لنتعرَّف أولاً إلى ما يقصد بالخط العملي:‏

إنه الخط الذي سبق وتحدث عنه رئيس الجمهورية اللبناني ومعه عدد غير قليل من السياسيين والخبراء اللبنانيين، واعتبروه خطاً وهمياً تحاول الأمم المتحدة وفريقها جعله أمراً واقعاً ليرسم الحدود الفاصلة بين لبنان و"اسرائيل" في مرحلة ما بعد الاحتلال. لذا فإن هذا الخط هو نفسه الذي سبق واقترحه الأمين العام للأمم المتحدة عبر موفده تيري رود لارسن، وينطلق من الامتداد الأرضي وتضاريس الهضاب التي تفصل لوجستياً بين قوات الأمم المتحدة التي تشرف على فض الاشتباك في الجولان بين سوريا و"اسرائيل"، والمعروفة باسم "أندوف"، وقوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان والمعروفة باسم "يونيفيل". ومن منطلق أن هناك نقاط تماس لوجستي ـ أرضي في عمل هاتين القوتين يفترض أن تكون قائمة وموجودة، ولكنها بقيت حتى الآن من دون تنفيذ عملي من الجانب اللبناني، لأن قوات الأمم المتحدة "يونيفيل" لم توسع انتشارها إلى الحدود منذ مجيئها إلى لبنان لأسباب تتعلَّق بالوضع الأمني الدائم المتفجِّر في الجنوب. وكذلك لأن "اسرائيل" رفضت على امتداد 22 عاماً الانصياع إلى رغبة الشرعية الدولية وتنفيذ القرار 425. هكذا يشكِّل اقتراح "الخط العملي" في جانب منه دعوة إلى تقدم قوات الطوارئ "اليونيفيل" إلى خط تماس مع قوات مراقبي الهدنة "أندوف"، وفي هذا الإطار سعى كوفي أنان إلى ضخ كمية وافرة مما أسماه المراقبون بـ"الغموض البنَّاء" في نطاق الجدال الدائر حول "مزارع شبعا"، وهو ما راهنت عليه المنظمة الدولية لكي تتجاوز العقبات التي سببتها عقدة المزارع في تأخر الانسحاب الاسرائيلي. وإذا كانت حجة الأمم المتحدة يومئذٍ أن ليس من مهماتها رسم الحدود بين لبنان و"اسرائيل"، فهي لا تستطيع أن تنكر ـ وبحسب الرأي الرسمي اللبناني ـ الحدود المعترف بها دولياً وفق مستندات ووثائق 1923 و1949. حتى مزارع شبعا التي أدخلتها الأمم المتحدة على مثلث جغرافي غامض بين سوريا ولبنان وفلسطين، فإن ثمة وثائق تؤكد لبنانيتها، وبهذا يبقى القرار 425 غير نافذ ما دامت باقية تحت الاحتلال. في هذا المجال يقول الخبراء اللبنانيون إن خط الحدود المعتمد خلال الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا أغفل آنذاك الإشارة إلى مزارع شبعا، ووضعها ضمن الأراضي السورية. ولهذا فإن الحكومة اللبنانية قامت في عام 1946 بتوجيه مذكرة إلى الحكومة السورية رقمها 574 بتاريخ 29/9/1946 تؤكد أن ما حصل هو خطأ فني من الانتداب لم يكن القصد منه تعديل الحدود أو إدخال هذه المزارع في نطاق الأراضي السورية. وإنَّ المفاوضات بين لبنان وسوريا التي أرسل رئيس الحكومة سليم الحص نسخاً من محاضرها إلى كوفي أنان تتضمن إقراراً بلبنانية هذه المزارع دعمته بالطبع تأكيدات وزير الخارجية السورية فاروق الشرع إلى الأمين العام، وهذه أمور ثابتة دامغة يجب أن تكفل إغفال المنظمة الدولية لمزاعم "اسرائيل" التي تقول إن هذه المنطقة كانت في عهدة السوريين عندما احتلتها القوات الاسرائيلية في حزيران (يونيو) عام 1967، وإن المفاوضة عليها يجب أن تتم مع السوريين لا مع اللبنانيين (18).‏

وإذا كان صحيحاً أن بعض الخرائط قد وضعت نسبة غير قليلة من مزارع شبعا ضمن الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الاسرائيلية إلى نهر الحاصباني، فإن خرائط أخرى لحظت وجود نقطة تلاقي الحدود السورية ـ اللبنانية ـ الفلسطينية بين بانياس والحاصباني. فعلى سبيل المثال لا الحصر إن خريطة لبنان الطبيعية الصادرة عام 1943 من قبل L.DUBERTRET رئيس القسم الجيولوجي في فترة الانتداب، تؤكِّد أن مزارع شبعا هي ضمن الأراضي اللبنانية.‏

ربما كانت نقطة الضعف الأساسية في الموقف الرسمي اللبناني حول السيادة على مزارع شبعا تتمثَّل في توافر خرائط رسمية لحظت وجود العديد من المزارع في هذه المنطقة بالإضافة إلى قرية النخيلة ضمن الحدود السورية.‏

لكن بعض الخبراء يردون على هذه النقطة بتسجيل نقطتين مهمتين:‏

أولاً: إنَّ السيادة الفعلية، وليس السلطة الفوقية كانت للدولة اللبنانية، على شبعا ومزارعها، والنخيلة ضمن الحدود الدولية اللبنانية.‏

ثانياً: إن السيادة الفعلية، وليس السلطة الفوقية كانت للدولة اللبنانية، على شبعا ومزارعها وعلى النخيلة عند بدء الاحتلال الاسرائيلي لها عام 1967، وعليه فإنَّ التطبيق الصحيح للقرارات الدولية وخاصة القرارين 425 و426 يحتم الانسحاب الكامل والشامل من كل الأراضي اللبنانية حتى الحدود المعترف بها دولياً، أي خط بوليه ـ نيو كمب بالنسبة إلى الحدود بين لبنان وفلسطين. كما يجب الانسحاب من شبعا ومزارعها ومن النخيلة حتى حدود القرى العقارية على امتداد قضاء حاصبيا(...) وثمة توكيد آخر على لبنانية المزارع حتى عندما احتلتها القوات الاسرائيلية في حزيران (يونيو) عام 1967. وفيه أن "اسرائيل" عندما بدأت باحتلال مزارع شبعا كانت السيادة الفعلية عليها للدولة اللبنانية، على الصعد كافة (قضائياً وضريبياً وأمنياً وسكانياً) وذلك على الرغم من وجود قوات عسكرية سورية، ذلك أن هذا الوجود لم يلغِ بأي حال سيادة الدولة اللبنانية على هذه المنطقة. وفي الفترة اللاحقة للعام 1967 قامت لجنة سورية لبنانية مشتركة (عن الجانب اللبناني ترأس اللجنة العقيد أنطوان دحداح، وكان من أعضائها أمين عبد الملك وفوزي ساروفيم، وعن الجانب السوري ترأس اللجنة عبد الحليم خدام (محافظ دمشق) في ذلك الحين بدراسة مسائل الحدود، ووضعت تخطيطاً عاماً لها. وبموازاة هذه اللجنة حصلت مفاوضات سورية ـ لبنانية ساهمت فيها الهيئة الدائمة اللبنانية ـ السورية (وكان يرأسها كل من مديرَي وزارة الخارجية في البلدين) وعنها تفرَّعت لجنة عقارية مشتركة مؤلفة من قاضٍ لبناني وآخر سوري. وقد تمَّ الاتفاق، بخصوص المناطق غير المحددة والمحررة أو التي لم ينته التحديد والتحرير فيها، على أن تكون الحدود بين سوريا ولبنان هي الحدود الإدارية للقرى. وانطلاقاً من كل ذلك وبرغم وجود تخطيط وتحديد عام للحدود بين سوريا ولبنان، وخاصة في منطقة جبل الشيخ، فإنه لا يوجد ترسيخ وتثبيت للحدود الخاصة في هذه المنطقة (19).‏

في أي حال، فقد ترك بيانا التحقق من الانسحاب في الرابع والعشرين من تموز (يوليو) 2000 كمية لا بأس بها من الغموض حول جغرافية الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، وضمن هذا المناخ فإن الأسئلة راحت تعيد نفسها حول ما إذا كان القرار 425 قد طبِّق وفقاً لنصِّه وروحه في ما يتعلق بالحدود المعترف بها دولياً. بل أكثر من ذلك فإن المذكرة التي سبق وأرسلها رئيس الجمهورية اللبنانية إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، ظلَّت على حيويتها، وجدِّيتها، ولا سيما لجهة المخاطر المترتبة على تبني الأمم المتحدة خط الانسحاب وليس خط الحدود لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي.‏

الأميركيون على "الخط الأزرق"‏

قد تكون العلامة الأبرز في السجال الذي افتتح عقب الاندحار الاسرائيلي من لبنان، هي تلك المتعلقة بالكيفية التي تعاطت فيها الديبلوماسية الاميركية مع القضية. فقبل أيام من احتفال اللبنانيين السنوي الأول بالتحرير في الرابع والعشرين من أيار (مايو) 2001، صرح السفير الاميركي في لبنان دايفيد ساترفيلد "ان لبنان وافق منذ حزيران (يونيو) من العام 2000 على الخط الأزرق بما فيه مزارع شبعا". وقد ترك التصريح الذي أدلى به ساترفيلد استياءً لدى مراجع رسمية اعتبرت أنه تحدث عن الموقف اللبناني الرسمي المدوّن في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في 16 حزيران (يونيو) 2000 مجتزأ، محملاً بذلك لبنان موقفاً لم يتخذه أساساً، ولا ورد في أي من المذكرات الرسمية اللبنانية، ولا في التقرير النهائي لأنان عن تنفيد القرار 425، ولا ورد بالتأكيد، تبعاً لهذه المراجع، في أي وثائق او مستندات رسمية أخرى لدى أي جهة معينة آنذاك بتطبيق القرار 425 وبالتثبت من انسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلة.‏

اعتقدت المراجع الرسمية اللبنانية أن تقرير أنان في 16 حزيران (يونيو) 2000 هو تتويج لكل المذكرات والوثائق الخاصة بالمفاوضات ومراحلها، والتي تبادلها أو أجراها لبنان مع المنظمة الدولية، فضلاً عن تقرير أنان في 23 أيار (مايو) 2000، وفي حصيلتها أثبت أنان الموقفين اللبناني والسوري من مزارع شبعا، وتالياً موافقة لبنان على "تقويم" الأمم المتحدة لـ"الخط الأزرق" على أنه خط عملي يفصل بين انتداب القوة الدولية في جنوب لبنان والقوة الدولية لفض الاشتباك في الجولان "في انتظار إيجاد صيغة مشتركة لمنطقة المزارع موقّعة بينه وبين سوريا لتقديمها الى الأمم المتحدة" (20).‏

وسيذهب عدد من الأوساط اللبنانية الداخلية الى القول إنه كان على السلطة اللبنانية بعدما انسحبت القوات الاسرائيلية من الجنوب ومن البقاع الغربي حتى "الخط الأزرق"، وليس الى الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً، أن تعتمد اتفاق الهدنة ناظماً للوضع الأمني مع "اسرائيل" في انتظار أن يتم التوصّل الى تنفيذ القرارين 242 و 338 المؤديين الى اتفاق سلام شامل يشارك لبنان في توقيعه، لأن ما يعنيه فيه بصورة خاصة هو حل مسألة الوجود الفلسطيني على أرضه. وأصحاب وجهة النظر هذه يؤكدون أن العودة الى اتفاق الهدنة هي التي ترسم الحدود بين لبنان و"اسرائيل"، ولا يبقى الخط الأزرق عندئذٍ موضع جدل مع الأمم المتحدة، والعودة الى هذا الاتفاق الذي نصّت عليه كل القرارات الدولية المتعلقة بوضع الجنوب، حتى إن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول تنفيذ القرار 425 قال باستمرار قوة المراقبين الدوليين في عملها على خط حدود الهدنة بعد انتهاء فترة انتداب القوات الدولية. لكن السلطة اللبنانية لم تستطع في الماضي إرسال الجيش الى الجنوب نظراً الى وجود المقاومة الفلسطينية، وهي ترفض حالياً إرساله الى الجنوب نظراً الى وجود المقاومة اللبنانية (الاسلامية)، وخطأ السلطة بحسب وجهة النظر هذه أنها تربط تحقيق الأمن على الحدود مع "اسرائيل" بتحقيق السلام الشامل، وهذا السلام لا يتحقق بمجرد انسحاب "اسرائيل" من الجنوب والبقاع الغربي، بل بانسحابها أيضاً من الجولان ومن الأراضي الفلسطينية وبتأمين عودة اللاجئين الى ديارهم. لقد كانت "اسرائيل" في مفاوضات واشنطن تصرّ على دمج تنفيذ القرار 425 بالقرارين 242 و 338 للتعجيز، بينما كان لبنان يرفض هذا الدمج ويصرّ على تنفيذ القرار 425 بمعزل عن القرارات الأخرى. وبعدما انسحبت "اسرائيل" من الجنوب والبقاع الغربي تنفيذاً للقرار 425 صار لبنان هو الذي يطالب بتنفيذ القرارين 242 و338 ولا يكتفي بتنفيذ القرار 425، ويرفض تحقيق الأمن على طول الحدود الا بعد تنفيذ هذين القرارين، أي أنه ربط تحقيق الأمن على الحدود بتحقيق السلام الشامل في المنطقة، مع أن الأمن على الحدود السورية ـ الاسرائيلية مستتب قبل أن يتحقق هذا السلام (21). لقد رد عدد من الخبراء على وجهة النظر التي تقول بالعودة الى اتفاقية الهدنة، معتبرين أن مثل هذه الدعوة تنطوي على خطورة كبرى تتصل بالسيادة الوطنية، ذلك أن العمل بنظام اتفاقية الهدنة يعيد لبنان الى منطق الخضوع لميزان القوى الناجم عن اغتصاب فلسطين عام 48، بينما يطيح بالانجاز الوطني الكبير الذي تحقق بطرد الاحتلال عام 2000.‏

الى هذا يمضي عدد من المراقبين الى الملاحظة التالية: "اذا كان الخط الأزرق بالنسبة للبنانيين يبقي ملف الحدود مفتوحاً ولا يقفله على اعتبار أن هناك أراضي لبنانية لا تزال وراءه، وبينها أراضٍ في قطاع كفر شوبا، فإن الحديث عن مزارع شبعا له معنى مختلف، ما يقتضي ضرورة وجود مصارحة لبنانية تعترف بضعف الحجة التي نملكها في مواجهة هذه القضية من أجل التحضير لإجراءات قانونية وديبلوماسية بالتنسيق مع سوريا تقوّي الموقف اللبناني، و"تشرعن" المطالبة بالمزارع تحت سقف المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة.‏

وفي حين أنه لا يوجد خلاف داخلي صريح حول لبنانية المزارع، وإن هذا الخلاف يظهر في الشق المتعلق بالخيارات المتاحة، وما اذا كانت تحظى بإجماع اللبنانيين بعد إنجاز التحرير، ومعها حسابات الكلفة والفاعلية في إطار الصراع العربي ـ الاسرائيلي، فإن استكمال الملف اللبناني حول المزارع تجاه المجتمع الدولي وربما تجاه الداخل اللبناني، يعيد نسب المزارع الى القضية الوطنية اللبنانية، وربما يمنع أو يخفف من تداعيات التدخل الاسرائيلي في الشأن اللبناني بنسخته الجديدة من ثغرة شبعا.‏

الى هذا سيكون لكلام الرئيس سليم الحص في هذا السجال أصداؤه الحاسمة، ولا سيما أن الفترة التي تحدث فيها السفير الاميركي ساترفيلد كان هو رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية، وفي ما يلي التعليق الذي يوضح فيه الرئيس الحص الملابسات التي حملت الدبلوماسي الاميركي على الزعم بأن لبنان وافق منذ حزيران (يونيو) 2000 على "الخط الأزرق" بما فيه مزارع شبعا. وهو تعليق لا يزال ينطبق بنصِّه وروحه على الوضع الحالي. حيث يدور النقاش حول هذه القضية على قاعدة السؤال عن جدوى أو عدم جدوى استمرار حضور المقاومة على خطوط المواجهة لصدِّ أي عدوان اسرائيلي محتمل. أما النقاط التي انطوى عليها تعليق رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق فيمكن إيرادها على الوجه التالي:‏

أولاً، في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الى مجلس الأمن في تاريخ 16 - 6 - 2000، جاء تحت عنوان "موقف حكومة لبنان" ما نصّه حرفياً: "وفي ما يتعلق بمزارع شبعا، فإن موقف لبنان هو أن هذه المنطقة تقع داخل لبنان، كما أن الموقف السوري يعتبر أن هذه المزارع لبنانية". وكما جاء في تقرير الأمين العام، فإن خط الانسحاب الذي حددته الأمم المتحدة لا يمس الاتفاقات الحدودية المقبلة بين الدول الأعضاء المعنية، ولذا فإن الأمم المتحدة، باعتمادها خط قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (في الجولان) باعتباره خطاً لتأكيد انسحاب القوات الاسرائيلية، لم تشكل سابقة ملزمة قانونياً أو ذات صلة في ما يتعلق بهذا الجزء من الحدود بين لبنان والجمهورية العربية السورية.‏

ثانياً، في مذكرة لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود الى الأمين العام للأمم المتحدة في 4 - 5 - 2000، جاء ما نصه حرفياً: إن "تنفيذ القرارين (425 و426) يستوجب انسحاب "اسرائيل" الكامل من الأراضي اللبنانية الى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً من دون قيد أو شرط. وهذه الحدود هي تلك التي تم ترسيمها عام 1923 مع فلسطين، والانسحاب الكامل يجب أن يشمل أيضاً مزارع شبعا. وأي تجاوز لهذه الحدود يعني أن "اسرائيل" لم تنسحب بموجب القرار 425، وأن تراجعها في تلك الحال يشكل إعادة انتشار وليس انسحاباً".‏

ثالثاً، في مذكرة وجهها الرئيس الحص نفسه بصفته رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية آنذاك، الى الأمين العام للأمم المتحدة في تاريخ 12- 5 - 2000 جاء ما نصه حرفياً "بالاستناد الى ما تقدم، يتبين بصورة مؤكدة لا تقبل التأويل أن مزارع شبعا لبنانية، ويشكل الانسحاب الاسرائيلي منها جزءاً لا يتجزأ من تنفيذ القرار 425، وخلاف ذلك يكون هذا الانسحاب غير كامل وتنطبق عليه صفة إعادة الانتشار لقوات الاحتلال الاسرائيلي، مع ما يترتب عليه من نتائج، وليس الانسحاب الكامل من جميع الأراضي اللبنانية بحسب ما ورد حرفياً في القرار".‏

رابعاً، في مذكرة للرئيس لحود موجهة الى الأمين العام للأمم المتحدة في تاريخ 9- 6 - 2000، جاء ما نصه حرفياً: "أما بالنسبة الى مزارع شبعا فقد كان واضحاً في تقرير سعادة الأمين العام (22 - 5 - 2000) أنه اعتمد خطاً عملياً في تلك المنطقة في ضوء عدم توافر خرائط قديمة تؤكد الحدود هناك بين لبنان وسوريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الخط العملي هو الخط الفاصل ما بين انتداب "اليونيفيل" وانتداب "الأندوف"، مع اشارة الأمم المتحدة الى أن هذا الخط العملي لا يمكن اعتباره في أي حال يمس الحقوق الحدودية المتبادلة بين الأطراف المعنيين. ولقد وافق لبنان على هذا التقويم في انتظار ايجاد صيغة مشتركة لمنطقة المزارع موقعة بينه وبين سوريا لتقديمها الى الأمم المتحدة" (22).‏

لقد تقدمت الحكومة السورية حينها بمذكرة الى الأمم المتحدة تؤكد فيها أن المزارع لبنانية. وقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة الموقف السوري ذلك صراحة في تقريره في تاريخ 16 - 6 - 2000 الى مجلس الأمن، كما يظهر في النص المدرج أعلاه.‏

على أن التطور الأبرز الذي ظهر في إطار الجدل المفتوح حول هوية المزارع هو ما جاء على لسان الرئيس السوري بشار الأسد في مؤتمر صحافي عقده في ختام زيارته الى فرنسا في السابع والعشرين من حزيران (يونيو) 2001.‏

يؤكد الرئيس الأسد أنه تم التأكيد بشكل رسمي على لبنانية هذه المزارع، "لكن من يحدد جنسية هذه المزارع في القانون الدولي هما الدولتان الموجودتان على جانبي الحدود (لبنان وسوريا)، أما الأمم المتحدة ـ والكلام للرئيس السوري ـ فيمكن أن نسميها مستودعاً للاتفاق النهائي بين الدولتين الموجودتين على طرفي الحدود (...) نحن أعلنا بشكل رسمي أن مزارع شبعا لبنانية. وهذه المناطق هي محتلة الآن، لذا لا يمكن الحديث في هذا الموضوع. وفي المستقبل بعد أن يتم تحديد الحدود تقوم الدولتان بتسجيل هذا التحديد في الأمم المتحدة" (23).‏

يتبين مما سبق بوجه قاطع أن لبنان لم يتخلَّ يوماً عن مزارع شبعا، وأنه لم يعتبر القرار 425 مُنفََََّذاً على وجه كامل لأن الانسحاب لم يشمل مزارع شبعا. وموقف الحكومة الرسمي والنهائي عبّر عنه خير تعبير الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الى مجلس الأمن في تاريخ 16 - 6 - 2000، كما سبقت الاشارة، وهذا كله يدحض الاستنتاجات التي بنيت في بعض وسائل الاعلام على تصريح السفير الاميركي.‏

استئناف السجال‏

يعود السجال اليوم حول مزارع شبعا ليأخذ السياق نفسه الذي أخذه قبل نحو خمس سنوات، لكنه هذه المرة يأتي على نحو أكثر حدة، وإن اتخذ السياق السابق عينه. ففي سياق الجدل السابق واللاحق ستمضي احدى مناطق السجال الى ما يمكن اعتباره اعادة تعويم أطروحة الفصل بين لبنان، وما لا يزال عالقاً من قضايا الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ولقد تبين لكثيرين في الوضعين المحلي والدولي، أن قواعد اللعبة قد تغيرت مع الانسحاب السوري الكامل من لبنان، وذلك لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بـ"اسرائيل"، ومنها ما يتصل بالمجتمع الدولي.‏

بالنسبة لـ"اسرائيل" يقول خبراؤها وسياسيوها إنه تم الانسحاب من جنوب لبنان بحسب القرار 425، وإنه تم فك الارتباط منذ الانسحاب الاسرائيلي في أيار (مايو)2000 بين الوجود العسكري الاسرائيلي في مزارع شبعا، سواء اعتبرت محتلة أو غير محتلة، وبين السياسة الاسرائيلية.‏

ويخلص أصحاب هذا الرأي الى الاستنتاج بأن "الرد الاسرائيلي على سوريا في لبنان نتيجة انهاء وضع الاحتلال في الجنوب ـ بغض النظر عما نعتبره نحن من أن الانسحاب النهائي لم يحصل بعد ـ واعتراف المجتمع الدولي بهذا الأمر، والتسليم بأن مزارع شبعا سورية وليست لبنانية، كلها أمور أعطت "اسرائيل" هامشاً من الحركة تغيرت معه قوانين اللعبة. وبذلك سيكون العمل الاسرائيلي مبرراً عند المجتمع الدولي الذي يعتبر أن "اسرائيل" انسحبت بحسب القرار 425، وأن مسألة مزارع شبعا يمكن حلها بوسائل أخرى" (24).‏

لم تكن هذه الرؤية غريبة ـ مع الأسف ـ على روح السجال المزمن بين اللبنانيين في فهمهم للقضية الوطنية، وخاصة في ما يتعلق بالصراع مع "اسرائيل". ولن نذهب بعيداً الى الوراء لنجد كيف انقسم اللبنانيون في الرأي خلال الشهور التي سبقت التحرير، حيث كان الطرح الاسرائيلي بالانسحاب من طرف واحد يشكل الباعث على هذا الانقسام. وقد ظهرت مواقف عدة، منها من أخذ على الحكومة ترددها في اغتنام فرصة الطرح الاسرائيلي، وجاهر بوجوب الدخول في تفاوض مباشر مع "اسرائيل" حتى ولو أدى ذلك الى فصل المسارين (...) وكان مؤيدو هذه الرؤية ـ ومنهم اليوم من يتصدر قيادة المعارضة ـ يُسدون النصائح، ويقولون إن من الحكمة والتعقل ألا يوازن لبنان بين ثمن التزام "وحدة المسارين " وثمن الإقدام على فصلهما، فهذه مفاضلة لا مكان لها لأكثر من سبب. ثم إن موقف "اسرائيل" على الجبهة اللبنانية ليس متطابقاً بالضرورة مع موقفها في الضفة الغربية وفي الجولان، وإن ما تحققه "اسرائيل" من الانسحاب (وليس البقاء) من الجنوب اللبناني قد يساعدها في تحقيق أهدافها على الجبهتين الفلسطينية والسورية. وهذا سبب آخر يضاف الى أن ما تتكبده "اسرائيل" في الجنوب اللبناني بات يفوق ما تكسبه ببقائها هناك (25).‏

لقد اتفق الخبراء في القانون الدولي فضلاً عن السياسيين والرسميين اللبنانيين على أن المرحلة التي تلت هذا المنعطف أكَّدت بما لا يدع فسحة للشك، أنَّ القرار 425 لم يُنفَّذ، حتى في ظل معادلة الجلاء الاسرائيلي عن الشطر الأعظم من الجغرافيا المحتلة التي صدر القرار في شأنها.‏

ما لم يحصل فعلياً، وجعل تنفيذ القرار مبتوراً من سياقه القانوني والسياسي والأمني، هو جملة من الاعتبارات، منها أن القرار محكوم في تطبيقه كما هو معروف بالتفاصيل التي أوردها القرار 426. غير أن الأمم المتحدة لم تركِّز ـ وتحديداً بعد الخامس والعشرين من أيار (مايو) 2000 ـ على القرار 426. فهذا القرار، كما بات معروفاً، يوضح ثلاثة أمور أساسية هي:‏

أ ـ قوات الأمم المتحدة هي التي تشرف على الانسحاب الاسرائيلي، وتتأكَّد من تطبيقه واستكماله حتى الحدود المعترف بها دولياً.‏

ب ـ هذه القوات (UNIFIL)هي التي تتولى حفظ الأمن والسلام ضمن دائرة عملياتها الجديدة بعد جلاء الاحتلال، وهي التي تساعد الحكومة اللبنانية في مرحلة لاحقة في إعادة سيطرتها على الأراضي اللبنانية من دون استثناء.‏

ج ـ تنسحب هذه القوات بعد إنجاز المهمات المذكورة، ويبقى مراقبو الهدنة للتأكد من احترام أحكام هذه الهدنة على طول الحدود المعترف بها دولياً بين لبنان وفلسطين، وهو ما تنص عليه المادة الخامسة من اتفاقية الهدنة الموقعة في العام 1949.‏

لقد بدا أن هذه الأمور الثلاثة لم تجرِ ضمن سياق يطابق الآليات التي رافقت وأعقبت جلاء الاحتلال في بداية صيف العام 2000. فالخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة لا يتوافق جغرافياً مع مفهوم الحدود المعترف بها دولياً، والواردة في القرار 425. وهي الحدود التي عيَّنتها الاتفاقية البريطانية ـ الفرنسية المعروفة باتفاقية "بوليه ـ نيوكامب" الموقعة في العام 1923. في هذا التاريخ لم تكن دولة "اسرائيل" موجودة أصلاً على خريطة العالم.‏

الخلاصة من ذلك كله، أنَّ مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، والتباين الجغرافي بين الحدود الدولية والخط الأزرق، تفضي إلى الاستنتاج بأن القرار 425 لم ينفَّذ بكامله، وبذلك يبقى سلاحاً في يد لبنان إلى آجال مفتوحة.‏

على خط مقابل من هذه الرؤى، التي أخذت تدريجاً تتشكل كتيار سياسي داخلي، استوت قناعات واعتقادات تعترض على هذا المنطق، وترى في اجتهادات القائلين بالفصل، سابقاً أو لاحقاً، ضرباً من تغييب للحدود الفاصلة بين المرغوب والممكن في الواقع السياسي للبنان والمنطقة.‏

فالخوف المزمن من "الترابط الإكراهي" بين أزمة لبنان وأزمة المنطقة، صار حقيقة سياسية لا تقبل النقض أو الجدال. بل إن تقدير عدد من المجتهدين ذهب الى القول بضرورة أن يأخذ لبنان بمبدأ التلازم مع المسار السوري، وخصوصاً أن لبنان لا يمكنه التوقيع على أي اتفاق سلام مع "اسرائيل" إلا في إطار الحل الشامل. والحل الشامل لا يؤمّنه إلا توقيع سوريا عليه، لأن الأطراف الأخرى (مصر ـ الأردن ـ فلسطين) قامت بإبرام اتفاقات منفردة معروفة. وسيأتي الوقت لكي نرى ان من أبرز نتائج جلاء الاحتلال على المستوى الاسرائيلي، هو أن القيادة الاسرائيلية بشقيها السياسي والعسكري سعت الى إغلاق جبهة جنوب لبنان نهائياً لتوظف قواها وتحشدها على الجبهة الفلسطينية. وبعد نحو عشرة شهور من الحرب الفلسطينية ـ الاسرائيلية المفتوحة، عاد التفكير الاسرائيلي الى ضرب من خيبة الأمل. فالهزيمة في لبنان لم تنته آثارها ومفاعيلها. والجبهة الجنوبية لا تزال في المنطقة الرمادية بين الخط الأزرق وخط النار. والالتباس الذي أثاره الاسرائيليون بالتعاون مع فرق الأمم المتحدة حول لبنانية مزارع شبعا لم يؤتِ أُكله. وموقف الدولة اللبنانية متطابق وموقف المقاومة حيال ضرورة تحرير ما تبقّى من الأرض اللبنانية المحتلة، وتسوية مشكلة ترسيم الحدود وإطلاق الأسرى والتعويضات الخ (26).‏

على أن النقاش الذي احتدم منذ سنوات، وها هو يحتدم اليوم، على غير هدىً حول انتشار الجيش اللبناني على "الخط الأزرق"، ومصير سلاح المقاومة، سيكون من بين مناطق الخلاف الأساسي بين التيارات اللبنانية. لقد انطلق منطق التريث في عدم إرسال القوات المسلحة الى الحدود تبعاً للشروط والأوضاع وموازين القوى والحسابات التي أعقبت جلاء الاحتلال. ومؤدى هذا المنطق أن ارسال الجيش للانتشار على الحدود وفق الآليات التي وضعتها الأمم المتحدة عبر وثيقة الأمين العام كوفي انان، هو أمر سيؤدي عملياً الى تثبيت ما يسمى بالخط العملي، وهو خط قابل للتحريك والتغيير وفق الضرورات الاسرائيلية، وبتغطية من الشرعية الدولية هذه المرة. كما سيؤدي من وجه آخر، الى توريط الجيش اللبناني في ترتيبات أمنية تحفظ "حدود اسرائيل".‏

لكن التساؤل الكبير الذي ظل مطروحاً في هذا المجال، هو المتصل بمصلحة لبنان الوطنية التي ترتب وجوب أو عدم وجوب منح "اسرائيل" الطمأنينة الكاملة على الحدود، وهو ما ذهبت اليه الدولة والمقاومة عن طريق المحافظة على إبقاء الوضع الحدودي في المنطقة الوسطى، ولو الى أجل معيّن، بين هدنة الحدود الموقوفة، وبين التوتر المفتوح. وهو أمر سوف يفيد لبنان في أية تسوية سياسية مفترضة.‏

وأياً يكن الأمر، فإن قضية المزارع لن تدخل إطار التحكيم الدولي بحال من الأحوال. فلبنان سيرفض هذا التحكيم الذي من شروطه موافقة طرفي النزاع عليه (27)، وبالتالي، فإن من حق لبنان السيادة على المزارع سواء حُصّل هذا الحق بقوة حرب المقاومة أو عن طريق المفاوضات. مع أنه حتى وقت متأخر من السجال المحتدم في هذه القضية بقي من القرائن ما لا يترك مجالاً للشك، حول الاستمرار الفعلي لمقولة الاحتلال، الأمر الذي يمنح مشروعية إضافية لتجديد وترسيخ مقولة المقاومة كضرورة وطنية في إطار استراتيجية الردع والتوازن.‏

على أن القيادة الاسرائيلية بمختلف اتجاهاتها تحرص على ابقاء مزارع شبعا نافذة مفتوحة على لعبة إقليمية لم تخمد مفاعيلها بعد، وهو استهداف يدخل ضمن استراتيجية سياسية وأمنية متحركة تسعى "اسرائيل" الى توظيفها في أية تسويات أو حلول مقبلة.‏

يبقى المهم، هو الوجه اللبناني للقضية. فالتحولات التي أعقبت صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، والتداعيات الدراماتيكية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، سوف تضع قضية مزارع شبعا ومستقبل الصراع مع "اسرائيل" ضمن سياق تاريخي جديد. غير أن من أبرز وأخطر الثوابت التي تؤكدها تلك التحولات، هو أن لبنان لا يمكن له أن يغادر قدر الصراع مع الكيان الصهيوني، ما دام قسماً من ترابه الوطني محتلاً، وما دامت حالة الحرب مع هذا الكيان مفتوحة على احتمال الاندلاع في أية لحظة. وهذا الأمر يجعل من المقاومة وسلاحها ضرورة وطنية وسيادية لا جدال فيها مثلما يجعل منها عامل ردع استراتيجي في إطار المواجهة الوطنية الشاملة.‏

ـ صحافي وباحث في الفكر السياسي‏

الهـوامـش:‏

(1) نبيل خليفة: الوسط (العدد 440) 3 - 7 - 2000.‏

(2) راجع منيف الخطيب: شبعا ـ نافذة على التاريخ، الطبعة الأولى، منريخ للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت 995 (ص129، 130، 131، 132).‏

(3) راجع: الأسبوع العربي 15 - 5 - 2000.‏

(4) منذر جابر:الشريط اللبناني المحتل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية،1999، ص 427، 428.‏

(5) الشرق الأوسط، 3 - 12 - 2000.‏

(6) تسفي هرئيل، هآرتس 15 - 12 - 2000.‏

(7) الأسبوع العربي 15 - 5 - 2000.‏

(8) غي باخور، يديعوت احرونوت 10 - 5 - 2001.‏

(9) ب . ميخال، يديعوت أحرونوت، 5 - 3 - 2001،راجع ايضاً: النقاد عدد 47 في 12 آذار /مارس 2001.‏

(10) عصام خليفة: جيوبوليتيكا جبل الشيخ السفير 19 - 5 - 2000.‏

(11)Georges Adam Smith the historical geography of the holy Land London 1894, pp, 414.‏

(12) عصام خليفة: "السفير" 2 كانون الاول 1999.‏

(13) جيوبوليتيكا جبل الشيخ ـ مصدر سبقت الاشارة اليه.‏

(14) المصدر نفسه.‏

(15) عصام خليفة، لبنان في مفاوضات التسوية، إصدار شخصي، بيروت، 2000.‏

(16) المصدر نفسه، ص18 ـ 20.‏

(17) سليم الحص، "السفير"، 25/7/2000.‏

(18) راجح الخوري، "الشرق الأوسط"،الأحد، 21/10/2000.‏

(19) عصام خليفة، "السفير"، 19/5/2000.‏

(20) راجع الصحف اللبنانية ـ 19 أيار (مايو) 2001.‏

(21) اميل خوري: النهار 1 حزيران (يونيو) 2001.‏

(22) راجع الصحف اللبنانية 19 أيار (مايو) 2001.‏

(23) Le Monde Paris, 28 - 6 - 2001‏

(24) فريد الخازن "المستقبل".‏

(25) ـ سيمون كرم ـ القرار 425 بين سياسة الاهمال ولغة السجال، مداخلة في اطار ندوة أقامها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في 15 آذار (مارس) 1998.‏

(26) محاضرة للمؤلف ألقيت في نادي جامعيي الشمال ـ طرابلس ـ لبنان في 18 - 5 - 2001.‏

(27) راجع محمود حيدر، الأرض المغلولة، مزارع شبعا هل هي لبنانية؟ ملف النقاد، رياض الريس للكتب والنشر، 2001.‏

2006-10-28