ارشيف من : 2005-2008
الواقع والغيب في عرفان الإمام الخميني (قده)

بقلم:د. بلال نعيم
من الثنائيات التي تستبطن إشكالية في فهم الاسلام من مبادئه الى أحكامه، ثنائية الواقع والغيب والنظرة الى كل منهما والتعاطي على ضوئهما مع الموضوعات والمسائل المطروحة، سواء كانت من الكبريات التي تطال مصير الأمة أو من الصغريات في اطار الحاجيات الشخصية الفردية.
وقد دأب الكثيرون على فرض المنافرة بين طرفي الثنائية، أي بين الواقع والغيب، بتعريف الواقع أنه ما يمكن تلمسه وتحسسه، أما الغيب فهو ما تتوقعه او تتنبأ به، وبالتالي فالواقع هو ما يمكن ان تحكم عليه، والغيب ما هو خارج الحكم. وعلى هذه القاعدة قُسم العلماء والمفكرون بين واقعيين وغيبيين، وأُضيفت الموضوعية الى الواقعية، واعتبرت الغيبية في مقابل الموضوعية. وعلى ضوء ذلك حصل الاصطفاف واعتبر الواقعيون ماديين من قبل بعض الربانيين، ونُعت أهل الربوبية أو بعضهم بأنهم غير واقعيين.
وقبل الدخول في المعالجة النظرية للموضوع نتوقف عند النموذج الشامخ للعرفان الذي قدمه الإمام الخميني (قده) في القرن العشرين، والذي استطاع معه وبه أن يؤسس دولة عصرية تحمل كل مؤشرات ومقومات النهوض والتقدم.. فهل حصل ذلك لأن الإمام خلع لباس الغيب، أو أنه مازج بينه وبين الواقعية، أم أن هناك إشكالاً مبدئياً ومنهجياً يرتبط بأصل الموضوع؟ الإمام الخميني (قده) عندما وقعت الحرب على إيران قال كلمته الشهيرة: "الخير في ما وقع".. وكانت المقولة الصدمة بالنسبة لأرباب الواقعية، فهل يتيح المنطق مثل هذا التعبير عن حادثة كارثية على دولة ناشئة لا تستطيع ان تتحمل الحروب ونتائجها على كل المستويات؟ وهل يمكن وصف الدمار والخراب والقتلى والجرحى والمنكوبين بأنه خير؟ إن الواقعيين سيعتبرون هذا الكلام هو للتعبئة وللاستنهاض، أو أنهم سيعتبرونه كلاماً غيبياً قابلاً للتحقق أو لعدمه، وغير ذلك من التحليلات.. لكن العودة الى أصل المطلب تعالج لنا هذه الإشكالية. فبحسب الأصل وبنظر الشارع، فإن الواقع ليس في قبالة الغيب، وليس الغيب في الطرف النقيض للواقع، بل في الحقيقة الغيب هو امتداد للواقع، وهو المساحة غير المرئية منه، وبالتالي فإن الواقع هو واقع تراه والغيب هو واقع لا تراه. وعلى هذه القاعدة وفي حال الأخذ بها، فإن الناس قد يشتركون في الواقع، لكن لا يشتركون في الغيب، ويصبح لكل إنسان غيب يتناسب مع مدى رؤيته وأفقه وقدرته على التماس المخفيات، وعلى سبر أغوار "الماورائيات"، وإلا فما هو الفارق بين الناس في حكمهم على الأشياء؟ وهنا ندخل في النموذج الذي قدمه القرآن عن هذه الحقيقة، في القصة المروية عن النبي موسى (ع) وتعليمه على يدي الخضر (ع)، حيث قام هذا الأخير بتقديم ثلاثة اختبارات فعلية أمام موسى (ع)، كان في كل منها ظاهر وباطن، وقد تعاطى موسى (ع) مع الاختبارات على أساس ما انكشف له، وعلى قاعدة ان الحكم والموقف يجب ان يكون مبنياً على العلم الذي يؤسس للحجية على العالم بحسب علمه.. وبناءً عليه تعتبر المواقف التي اتخذها موسى (ع) صحيحة إن لم نقل واجبة بمقتضى قاعدة حجية العلم على صاحبه، وأيضاً تعتبر المواقف والأحكام التي مارسها الخضر (ع) صحيحة بالمقتضي نفسه وليس بمقتضٍ آخر، أي بنفس الحجية للعلم.. وعليه فبرغم التباين الظاهري بين موقفي موسى والخضر عليهما السلام، إلا أنهما يعودان للمقتضي نفسه الذي يُعبّر عنه بالانكشاف للواقع الذي يختلف حيّزه بين إنسان وآخر، فيختلف المرئي وتختلف الرؤية والحكم.. ولا ضير في ذلك، فالحجية على الناس جميعاً مرتبطة بهذه القاعدة، أي بالعلم وبالقدرة على رؤية الأشياء. وإذا عدنا الى قضية الواقع والغيب واستفدنا من تجربة موسى مع الخضر عليهما السلام، نصل الى نتيجة مفادها ان هناك نوعاً من الظاهر والباطن للأشياء يمكن ان نعبر عنهما بالواقع والغيب، وعليه يكون لكل شيء من الأشياء بعدان: أحدهما ظاهري والآخر باطني، وهما بعدان تكامليان لا تناقضيان، أحدهما في طول الآخر لا في عرضه، ويختلف الحكم على الشيء نفسه بناءً على مدى رؤية البعد "الماورائي" وغير الظاهر. وهكذا يكون قول الإمام الخميني (قده) وتعبيره عن الحرب بأن "الخير في ما وقع" تعبيراً عن باطن هذه الحادثة وعن أبعادها الحقيقية، فبرغم المرارة والآلام والمآسي والصعوبات، فإنها شدت أزر الثورة وركزت دعائمها وأكدت الانتماء اليها، وصهرت أبناءها في بوتقتها، ومنعت من الاندفاع نحو السلطة ومغانمها بشكل مباشر، وحالت دون الاقتتال على المواقع والمراكز، وربطت الشعب بالثورة وبإمامها، وعززت من روحية الإيمان والالتزام والارتباط بالغيب وبمفرداته، كل هذه النتائج كانت هي الخير الذي قصده الإمام الخميني (قده) من قوله الذي يعبّر عن عرفان شامخ وليس عن كهانة أو تنجيم.. والفارق بينهما كبير، فالعرفان هو غوص في لبّ الأشياء لاستكشافها، أي هو إظهار للأشياء وتقريبها الى حيز الرؤية والبصيرة، أما الكهانة فهي رمي للخيال الى البعيد وتقريب الخيال الى الأشياء البعيدة، وليس تقريباً للأشياء البعيدة الى مرمى العقل والبصيرة.
وعلى هذا الأساس حُرمت الكهانة، كما نُعت الذين يقتصرون في الرؤية على ظاهر الأشياء بأنهم غافلون، لأن كل هذا الوجود هو ظل للغيب، حتى في ظواهره المادية وفي أعيانه المحسوسة، والدنيا مع كل ظاهريتها تحوي الآخرة في باطنها، والآخرة في حقيقتها هي غيب الدنيا، أو هي باطن هذه الدنيا، لذا عبّر سبحانه عن الذين يقصرون المعرفة بالظواهر في الآية القرآنية: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"، فعُبّر بظاهر الدنيا وليس بالدنيا، لأن علم الدنيا ومعرفتها في الحقيقة ليس مغايراً للمعرفة بالآخرة.. ووُضع الجهل بالآخرة والغفلة عنها في مقابل العلم بظاهر الدنيا، وليس العلم بالدنيا، فكأن المستفاد من هذه الآية هو أن باطن الدنيا هو الآخرة، وأن الوصول الى هذا الباطن هو بلوغ للآخرة.. أما الاقتصار على ظاهر الدنيا فهو غفلة عن الآخرة، كما هو غفلة عن حقيقة الدنيا.