ارشيف من : 2005-2008
"تواريخ الانشقاق" لنعوم تشومسكي :أميركا وأسرار دعاية الدولة
العدد 1117 ـ 8 تموز/يوليو 2005
بدون مقدمات، ناولني صديقي كتاباً وقال: "اقرأ ولن تندم"، وبدون استطرادات أخذت الكتاب معي وقرأته، بل التهمته! فمن النادر أن تقع عين المتابع على عمل متكامل يفضح السياسات العسكرية والاعلامية الاميركية وتقلباتها ضمن نظرة شمولية مترابطة ومدعّمة بالحجج الدامغة والوقائع الثابتة.
الكتاب هو: "تواريخ الانشقاق"، وهو عبارة عن حوارات مطولة ومتشعبة مع المفكر الاميركي اليهودي نعوم تشومسكي، وقد أجرى الحوارات: ديفيد بارساميان. وكانت الترجمة الى العربية لمحمد نجار، أما الناشر فهو دار الأهلية للنشر والتوزيع ـ الاردن، سنة 1997. صفحات الكتاب 355 من القطع الكبير.
هنا قراءة في الكتاب وتحديداً في عناوينه التي شرّحت الإعلام وأسلوب الدعاية الاميركية.
تشومسكي
"أهم مفكر على قيد الحياة" هكذا وصفته "نيويورك تايمز"، "يضاهي سيغموند فرويد و"ألبرت اينشتين" هكذا قالت عنه صحيفة "بوسطن غلوب"، وهناك دراسة ذكرت أنه "أكثر شخص على قيد الحياة يتم الاستشهاد بأقواله، ويحتل المركز الثامن تاريخياً ضمن قائمة العشرة الاوائل من الأعلام الذين يستشهد بأقوالهم على مر العصور.
انه نعوم تشومسكي اليهودي الاميركي (من أصل روماني) المناصر للقضايا العربية والمدافع عن قضية فلسطين والمعارض الشرس لحرب فيتنام وغزو العراق والاعتداء المباشر أو المستتر على دول اميركا اللاتينية.
يعتبر تشومسكي مناهضاً عنيداً لدور الدولة الاميركية في توجيه الاعلام والسيطرة على مفاتيحه، وهو يناقش في مؤلفاته ومحاضراته مدى خطورة الاعلام الموجه، ويصفه بالآلة الجهنمية التي توجه الرأي العام.
جهاز دعاية الدولة
في حديثه عن "جهاز دعاية الدولة" يوضح تشومسكي ان الجهاز الاميركي يختلف بشكل لافت للنظر، فهو لا يأتي من الدولة كما الحال مع الاتحاد السوفياتي السابق.
"فنحن لسنا بمجتمع لديه وزارة للصدق والتي تصدر العقيدة أو المبدأ، الذي يجب على كل واحد عندئذ ان يطيعه مهما كلف الأمر. فجهازنا يعمل بصورة مختلفة كثيراً وبشكل أكثر فعالية. انه جهاز مخصخص للدعاية، يشمل وسائل الاعلام والصحافة المعبرة عن الرأي، ويتضمن بشكل عام الاشتراك الواسع لرجال الفكر والعلم، وهم الجزء المتعلم والمثقف للشعب والعناصر الأكثر وضوحاً لأولئك الجماعات التي تصل الى وسائل الاعلام، بما فيها الصحف والمجلات الفكرية، والذين يشرفون بشكل أساسي على الجهاز التعليمي.. ووظيفتهم الرئيسية هي: تصميم ونشر وخلق جهاز من العقائد والمبادئ التي ستقوض الفكر المستقل، وتمنع الفهم والتحليل (ص20). وحسب كلام تشومسكي يمكننا أن نستشف عبارة غسل دماغ جماعي للشعب الاميركي والذي يؤدي الى نتائج، ظاهرها قرار حر، أما باطنها فهو وليد منظومة الضخ والتنظير لوجهات نظر الدولة، ويعطي تشومسكي مثلاً عن حرب فيتنام التي تمت دون مناقشات ومداولات في الولايات المتحدة، وجرى اللعب على المفاهيم "وأعني أن الكذبة هي اننا كنا ندافع عن فيتنام الجنوبية. في حين كنا في الواقع نهاجم فيتنام الشمالية".
السيطرة على التاريخ
عن سؤال: "من هو الذي يسيطر على تاريخ مجتمعنا؟" يجيب تشومسكي: "ان التاريخ مرهون وممتلك من قبل الفئات المتعلمة. فهؤلاء هم الأناس المؤتمنون أو القيمون على التاريخ. انهم الأناس الذين يتواجدون في الجامعات والذين يقومون بصياغة كتابة الماضي لنا كما يريدون ويشاؤون"(ص27).
ثم يتوسع تشومسكي في شرحه ويصف دور المفوضين الثقافيين لنظام الهيمنة والسيطرة في كتابة التاريخ، بمقابل المواطنين العاديين الذين لا يمتلكون المصادر والوقت للبحث والتدقيق والتدريب لبلوغ الحقيقة بعمقها.
ويستكمل تشومسكي طرحه في الصفحة 68 حيث يقول: "خلال الحرب العالمية الاولى، فإن المؤرخين الاميركيين عرضوا على الرئيس ويلسون آنذاك بأن يقوموا بمهمة أطلقوا عليها اسم "الهندسة التاريخية"، وتعني تصميم الحقائق التاريخية، وذلك لكي يخدموا سياسة الدولة". كل ذلك بهدف "السيطرة على الفكر"، فالدولة التي لا تسيطر فيها الحكومة على الشعب بالقوة، فإنه من الأفضل السيطرة على ما يفكر به الشعب.
طباخ السم
على العكس مما قد يعتقده البعض فإن تشومسكي يعتبر أن وسائل الدعاية والاعلام تعمل بشكل أفضل مع المتعلمين والمثقفين وأكثر مما تفعله بالنسبة لغير المثقفين. وذلك لعدة أسباب: "أولاً، لأن المتعلمين يتلقون وسائل الدعاية والاعلام بشكل أكثر لأنهم يقرأون أكثر. وشيء آخر هو أنهم يعتبرون عملاء لوسائل الدعاية والاعلام. علاوة على أن عملهم يشبه الى حد كبير عمل الوكلاء، فمن المفترض أن يكونوا عملاء لأجهزة الدعاية والاعلام. لذلك فهم يصدقونها". (ص72).
القتل الجماعي
عن البرامج التلفزيونية والمسلسلات التي بثت حول فيتنام، يقول تشومسكي: "اعتقد بأنها عبارة عن دعاية رخيصة وهراء مبتذل" (ص90). ثم يتوسع في الحديث ليتخطى التغطية الاعلامية الاميركية للجرائم الفردية للجنود في فيتنام، حيث يصفها بالجرائم التي يمكن أن تحدث في أي حرب، لكن الأخطر والذي غيّب عن المشهد "هو العمليات المنظمة والتي يخطط لها في واشنطن، بهدف عمليات القتل الجماعي".
الاشراف على الاعلام
تخضع مختلف وسائل الاعلام للشروط الاقتصادية أو الدعائية الموجهة، ما يؤكد غياب كلمة "حياد" بمعناها الطوباوي، وعن هذه الاشكالية يتحدث تشومسكي قائلاً: "ما دام الاشراف على الاعلام هو المعني، فإنه مسيطر عليه بصورة كبيرة من قبل مجموعة صغيرة تماماً بيدها مصادر الاعلام" (ص139). "ان جهاز الاعلام من وجهة النظر الاقتصادية على الأقل، هو نظام أساسي لمؤسسات رئيسية تحاول بيع انتاجها... لذلك فانها جميعها مطوقة بإحكام ضمن نفس النظام من الهيمنة والسيطرة اللتين تنظمان الاقتصاد وتديران الدولة بشكل كبير" (ص140). ولا يحتاج هذا الكلام الى تأويل واسع بل يصب مباشرة في بحيرة النفعية المشتركة: الاعلام، المال، السلطة.
صدام ونورييغا
يربط تشومسكي مفتاح الاعلام في الولايات المتحدة بمفتاح السياسة، ويتطرق الى الدعم المادي والمعنوي الذي منحته اميركا لصدام حسين طوال سنوات ضمن توليفة مصلحية تجعل الولايات المتحدة شريكاً تجارياً رئيسياً له.
"فقد كنّا أكبر سوق تجاري لنفطه. وكنا نزوده بنسبة اربعين بالمئة من المواد الغذائية. وكان المنتدى العملي العراقي ـ الاميركي يثني على تقدمه (صدام) تجاه الديمقراطية. فقد كان رجلاً جيداً بنظرنا.
ولكن بعد يوم واحد فقط، أصبح يلقب بجنكيز خان وهتلر. وأصبح احتلاله للكويت جريمة" (ص245).
الأمر نفسه ينطبق على نورييغا حاكم بنما، الذي دعمته الولايات المتحدة طويلاً وغضت النظر عن تجارته للمخدرات وديكتاتوريته، ثم قررت أن تراه من الجهة الثانية من المنظار، حيث بدأ يظهّر كصاحب مخالب وأنياب، وكالعادة انقلب الاعلام الاميركي من ضفة الى أخرى برشاقة ساذجة، وهو أمر عالجه تشومسكي في أكثر من مكان في الكتاب.
الحل الشائك
السؤال الأخطر هو الذي طرحه المحاور بارساميان على تشومسكي في الصفحة 24: "ماذا بوسع الناس أن يفعلوا ليخترقوا هذا الاطار المحكم والمزخرف للدعاية ليحصلوا على ما هو حقيقي، ويصلوا للحقيقة؟".
وقد توسع تشومسكي في اجابته وتناول الوضوح في دعاية المانيا النازية أو الاتحاد السوفياتي، فالمواطن يستطيع ان يفصل بسهولة بين الحقيقة والكذبة، أما في اعلام ودعاية الولايات المتحدة فالأمر يحتاج الى مجهود أكبر يستلزم التدقيق والمقارنة والتحليل للوصول الى الحقائق وعليه، يختار الوسائل الاعلامية المناسبة له، "وعندما يفعل ذلك فإنني اعتقد بأن العالم يصبح واضحاً الى حد ما. وعندئذ فإن باستطاعة المرء أن يصبح شخصاً حراً، وليس عبداً لبعض سيطرة وتلقين جهاز الدعاية" (ص25).
ونحن هنا نقدّر صعوبة المهمة التي اقترحها تشومسكي على المتلقي الاميركي، وعليه نستخلص أنه سيبقى خاضعاً لمنظومة المؤثرات التي تكوّن آراءه وتحدد له طرق الخير من الشر، ووجه العدو من الصديق، ومتى يناهض الحرب وكيف يصوّت لمصلحتها.
"تواريخ الانشقاق" كتاب شديد الأهمية لتشومسكي التي تحاول أميركا أن تعزله بسد طرق الاعلام بوجه لسانه السليط ضدها وضد أسلوبها في ادارة العالم، ويوماً ما قال الكسندر كوكبورن على سبيل النكتة: "ان أعظم نكبتين وقعتا على السلطة الاميركية في القرن العشرين كانتا الهجوم الياباني على بيرل هاربر أولاً، وثانياً يوم مولد تشومسكي، وكلاهما صادفا يوم السابع من كانون الأول".
عبد الحليم حمود
بطاقة الكتاب
الكتاب: نعوم تشومسكي تواريخ الانشقاق
حوار: ديفيد بارسميان
ترجمة: محمد نجار
الناشر: الاهلية للنشر والتوزيع ـ الاردن 1997
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018