ارشيف من : 2005-2008
توسع أعمال العنف في فرنسا:بين حرمان المهاجرين ومطامع ساركوزي الرئاسية

الانتقاد/ ملف ـ العدد 1135 ـ 11/11/2005
صحيح أن أحداث العنف التي تعصف حالياً بفرنسا قد جاءت كرد مباشر على مقتل شابين من المهاجرين أثناء مطاردتهما في ظروف غامضة من قبل رجال الشرطة، لكن أحداثاً كثيرة مشابهة سبق لها أن وقعت في فرنسا من دون أن تثير هذا الكم الواسع من الغضب الذي تفجر في حزام البؤس المحيط بالعاصمة الفرنسية قبل أن ينتقل إلى قلب باريس وبعض المناطق في طول فرنسا وعرضها على شكل أعمال حرق وتكسير طالت آلاف السيارات والمحال التجارية، وتخللتها اشتباكات بالعصي وإطلاق نار من أسلحة غير حربية على رجال الشرطة، كما حدث في منطقة "أيفرو" الواقعة غربي البلاد، ما يعني أن مقتل الشابين المذكورين في السابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم كان بمثابة القطرة التي فاض لها الإناء في ظروف من الاحتقان المزمن الناشئ، في ظل الفشل المقصود أو غير المقصود لسياسات الإدماج الفرنسية، عن تدهور الأحوال المعيشية للفرنسيين من أصول مغاربية وأفريقية، وعن معاناتهم من أشكال المعاملة السيئة التي يتعرضون لها، والتي تأخذ أشكال التمييز والاستبعاد والحرمان والعزل في "غيتوات" شبه مقفلة ومفتقرة إلى شروط الحياة الطبيعية على مسافة قريبة من أضواء "عاصمة النور" ومهبط الجمهورية والديمقراطية وشعارات الحرية والمساواة والأخوّة.
فإذا كان وزير الداخلية الفرنسية نيكولا ساركوزي قد رأى في ما يجري مجرد سلوكيات إجرامية تقوم بها مجموعات من "حثالات الضواحي"، فإن علم الاجتماع مثلاً، له رأي مغاير تماماً، اذ قال المتخصص في العلوم الاجتماعية إيريك ميرلييه، إن أحداث العنف الحالية لم تفاجئ أي متخصص في علم اجتماع الضواحي، قبل أن يفسر ما يجري بأنه نتيجة للبطالة والفقر والفشل الدراسي والشعور بالاستبعاد والتمييز العنصري وما إلى ذلك من آفات تضرب أبناء المهاجرين المتحدرين من أصول مغاربية وأفريقية، وتطال حتى أبناء قدامى العمال الفرنسيين. وهي آفات يضاف إليها الإحساس بالقهر الناشئ عن تصاعد المواقف العدائية المتمثلة بمنع الحجاب وبإصدار العديد من القوانين المعيقة لحرية أبناء المهاجرين، إضافة إلى أجواء الاستعلاء والتعامل العنصري معهم، وما يرافق ذلك من إثارات ترتبط بكوامن الفترة الاستعمارية وتهويلات بالخطر الإرهابي المحدق وحملات ضاغطة في ظل الارتصاف الفرنسي المستجد وراء السياسات الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط.
وإذا كان المراقبون الجديون ينظرون بعين القلق إلى تصاعد أعمال العنف، فإنهم ينظرون بقلق أكبر إلى طريقة الحكومة الفرنسية في التعامل مع الأزمة. فالرئيس شيراك خرج أخيراً من صمته الطويل ليرى المشكلة من زاوية أمنية صرفة، ورئيس الحكومة دومينيك دو فيلبان تحدث عن شبكات إجرامية منظمة وراء أعمال العنف، ونقابات الشرطة اعتبرت ما يجري بمثابة حرب أهلية آخذة بالتوسع، والأوساط القضائية دافعت عن الأسلوب البوليسي واعتبرته ناجحاً بدليل ارتفاع أعداد المعتقلين كعنصر رادع للمشاغبين.
حتى فرنسوا هولند رئيس الحزب الاشتراكي المعارض الذي انتهز الفرصة للمطالبة باستقالة وزير الداخلية، جعل من نفسه مدافعاً عن سكان الضواحي الذين يتضررون من الشغب، وشدد على ضرورة الوجود البوليسي الدائم والحاضر عن قرب في الضواحي، ما يعني إجماع الطبقة السياسية الفرنسية على إعطاء الأولوية للحل القمعي بدلاً من معالجة أسباب المشكلة.
وفي هذا الإطار، وبرغم استنكار العبارات التحريضية المشينة التي استخدمها ساركوزي، يبدو أن الأجواء السائدة تدفع السياسيين نحو التنافس للاصطياد في مياه التحريض والتأليب الشوفيني على غرار رئيس بلدية "أيفرو" ورئيس مجلس النواب الفرنسي جان لوي دوبريه، الذي صرح بأن الذين يقومون بأعمال الشغب ليسوا "من عالمنا"، وهو كلام يلتقي مع ما يروّج من أفكار مفادها أنهم "برابرة" لا يستطيعون العيش في دولة ديمقراطية.
وبرغم الخطورة التي يمثلها تفجر أعمال العنف في فرنسا والتي يخشى من أن تتجاوز النطاق الفرنسي، في ظل أنباء عن إحراق سيارات في العاصمة الألمانية، يلاحظ المراقبون أن التصريحات التحريضية التي يطلقها نيكولا ساركوزي بشكل خاص تفعل فعلها في رفع منسوب الغضب عند أبناء المهاجرين، ما يوحي بأن الوزير المتحدر من أصول يهودية بولندية والذي يفاخر بنهج المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ويحشد لاقتحام منصب الرئاسة في انتخابات العام 2007، إنما يفعل ذلك عامداً لإطلاق حملته الانتخابية على قرع طبول حرب أهلية يبدو له أنها الوسيلة الفضلى لتأطير المشاعر العنصرية عند مواطنيه ضد المهاجرين ذوي الأصول المغاربية والأفريقية، وخصوصاً أن أجواء الحقن الإعلامي المكثف والتهويل اليومي بالخطر الإرهابي تتراكب مع "بروباغندا" اليمين المتطرف التي تحاول تجريم المهاجرين وتحميلهم مسؤولية الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في فرنسا، في حين أن فرنسا مدينة لهم بقسط كبير من ازدهارها الذي يتسارع اتجاهه نحو الترنح بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية المرفوضة من قبل شرائح واسعة من الشعب الفرنسي.
وإذا كان البعض يعتقد بأن اعتماد أفكار اليمين المتطرف العنصرية لخدمة أغراض سياسوية أثبتت نجاحها في أكثر من تجربة ماضية، فإن ألسنة النار التي يحاول ساركوزي امتطاءها للوصول إلى "قصر الإليزيه" قد تفضي إلى حرائق داخلية لم تكن بالحسبان، حتى قبل أن تشرع فرنسا بدخول ساحات التورط الدولي التي ينوي ساركوزي زجها فيه على خطى المحافظين الجدد، فيما لو كتب له أن يتسلم مقاليد الرئاسة.
عقيل الشيخ حسين