ارشيف من :آراء وتحليلات

على العهد: مفهـوم المقاومـة(*)

على العهد:  مفهـوم المقاومـة(*)
كتب إبراهيم الموسوي
لقد أكدت المقاومة بالملموس قدرتها على تحقيق الإنجاز تلو الإنجاز في سياق تراكم زمني تصاعدي في الكم والنوع. فمنذ العام 1982 استطاعت المقاومة أن توجه أقسى الضربات وأكثرها روعة ضد العدو الصهيوني، وافتتحت عهد الاستشهاديين بالشهيد أحمد قصير في 11/11/1982 لتدمر مقر الحاكم العسكري الصهيوني في صور وتقتل 140 من ضباط وجنود العدو، وتمرغ هيبة استخباراته واستحكاماته في الوحل، وتبعت ذلك عمليات عدة لا تقل أهمية في عمق الشريط المحتل. ثم جاء العام 1993 مع عدوان تصفية الحساب، وبعدها عدوان نيسان تحت عنوان عناقيد الغضب في العام 1996 الذي انتزع للمقاومة اعترافاً دولياً وشرعنة إقليمية وعربية هامة من خلال تفاهم نيسان، ثم جاء العام 2000 حيث تحرر القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة لينحصر الاحتلال في مزارع شبعا وكفرشوبا، فيما العدوان ما زال مستمراً من خلال الاختراقات والخروقات والانتهاكات الجوية الاسرائيلية والبحرية والأرضية. وكذلك من خلال الألغام التي تركها الاحتلال والقنابل العنقودية التي أسقطها في عدوان تموز 2006 الذي أثمر هزيمة نكراء أطاحت بمعظم قياداته العسكرية وكل قياداته السياسية بعد التقرير ـ الفضيحة لفينوغراد.
إن المقاومة استطاعت أن تصوغ استراتيجية جديدة تتجاوز بمداها البعد المحلي لتطال مفهوم التوازن الردعي العام والشامل بين العرب والعدو الصهيوني.
كما أن المقاومة استطاعت أن تصوغ نظاماً قيمياً إنسانياً يرفع من شأن الفرد اللبناني والعربي ويعطي الإنسان قيمة حقيقية تتجاوز عقد الاستخفاف والاستحقار والذل والهوان والتبعية واستجداء القوى الكبرى ومؤسسات المجتمع الدولي التي لم يكن دورها أكثر من شاهد زور على ما يجري.
لقد أمكن للمقاومة أن ترسم بوصلة حقيقية حين نأت بنفسها عن الانخراط في أتون اللعبة الداخلية لتشير بشكل دائم الى مصدر الخطر والشر الذي يتربص بالوطن وأهله.
لقد استطاعت المقاومة أن تعمم وترسخ نظام قيمياً ومنظومة أخلاقية جديدة تتعلق بإعلاء قيمة كل فرد. وإعلاء قيمة كل شبر من الأراضي المحتلة. ورسخت مفهوم السيادة الوطنية وحرمة الأرض والخيرات والمياه والإنسان في لبنان.
ان السلطة اللبنانية التي استقالت من مهامها منذ أمدٍ بعيد، مدعوة الى مراجعة حساباتها بعد أن قدمت لها المقاومة معادلة جديدة تقوم على مقولة قوة لبنان في مقاومته وليس في ضعفه.
ان هذه المقاومة هي نتاج طيب لأبناء الشعب اللبناني وتضافر لجهودهم وتراكم لخبراتهم، وتعبير حي وتجسيد دائم لآلامهم وآمالهم وتطلعاتهم.
ان قيم التعددية والحرية التي ينعم بها لبنان يجب أن تتلاقى مع قيم السيادة والعدالة والإرادة. إن الإرادة هي قيمة عليا وحاكمة على ذاتها متى كان الأمر يتعلق بدول فاشلة أو متقاعسة عن تحمل مسؤولياتها.
ان اعادة تجسير الهوة وتصليب هذه الدول يمر باعتناق قيم العدالة ورفع قيمة السيادة وحرمة الوطن الى مستواه الأعلى، وهو ما فعلته المقاومة على أفضل وجه.
المشروع الوطني لحزب الله ينطلق من مرتكزات عدة تجلت في مشروع المقاومة والسعي لتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع.
المرتكز الإيماني:
إن الإيمان بالله تعالى والالتزام العملي بتعاليم الإسلام وأحكامه في مختلف الأبعاد الفردية هو أصل أساسي في حزب الله وهو محور كل الأعمال. ويدعو هذا الإيمان الى محورية التقوى كمعيار تفاضلي يرتب آثاراً جليلة في حياة الفرد والمجتمع، وينبذ التعصب والتقوقع في الأطر الضيقة التي تخترعها المصالح وتغذيها الرغبات والنوازع.
إن الإيمان بالله لا ينفي الخصوصيات، ولا يتعدى عليها بل يملأها بقيم الخير والعدل. وهو بهذا المعنى يناقض الطائفية التي تتقوقع في إطار الجماعة الخاصة والقبيلة والعشيرة.
الدين يحكم بالعدل والإنصاف والمساواة والتسامح والمحبة والإيثار، والطائفية عقلية إقصائية حدودها المصالح الخاصة والعصبية الظالمة والغريزة بما يسهم في نمو عقلية الاستئثار.
إن الرؤية الإيمانية المرتكزة الى العقيدة الإسلامية جعلت من حزب الله تياراً عقائدياً في خدمة الوطن وقيمه وحضارته وتعدديته، وأمدّته بفكر وتجربة قوامهما التماثل مع تجارب الصالحين والمصلحين، وأعطته القدرة على التواصل مع الآخر من دون أي انتقاص منه ومن حقوقه. لقد استطاع حزب الله أن يجعل من حماية الوطن والدفاع عنه مصدر لحمة بين اللبنانيين، والانتصارات التي حققها من خلال مقاومته جعلت لبنان قبلة الأنظار بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، ووضعته على خارطة احترام وتقدير الدول الكبرى. ولقد استطاعت المقاومة من خلال محتواها الإيماني أن تضرب أروع أمثلة الإلفة والوحدة من خلال بذل التضحيات والتنازلات السياسية لحساب الجميع. وقدمت نموذجاً راقياً في ممارساتها سواء من خلال الرحمة والتسامح إبان انتصار العام 2000، أو من خلال انفتاحها ومرونتها وتفهمها للآخر من خلال التفاهمات والمصالحات السياسية التي عقدها حزب الله مع أفرقاء الساحة.
المرتكز السياسي:
أ ـ المقاومة وبناء الوطن:
قد يكون مجافياً للحقيقة الافتراض بأن المقاومة جاءت كرد فعل على الاحتلال الصهيوني بما هو فعل عدواني، إن افتراضاً كهذا يجرّد المقاومة من منظورها الثقافي، وأولئك الذين اضطلعوا بها من رؤاهم الاستراتيجية المرتكزة الى ثقافة سياسية وطنية تؤمن بالسيادة والاستقلال وبلبنان الوطن والكيان، وهو ما كانت عليه قيادة المقاومة وشبابها منذ اللحظة الأولى لانطلاق عملهم المبارك. لقد اختزنت المقاومة قيادة وكوادر وعناصر تجربة عميقة مما مضى، ووعياً ثاقباً بحقيقة العدو وطبيعة عدوانه ومآل مطامعه. إذ أن العدوان الصهيوني ضد لبنان لم يبدأ في العام 1982، كما أن تجربة احتلال فلسطين وآثارها المدمرة على الفلسطينيين وشعوب المنطقة ككل كانت ما تزال غضة طرية في الذاكرة أيضاً.
ب ـ الشراكة والمساواة والمواطنة:
صحيح أن حزب الله قد ركز اهتمامه في موضوع المقاومة، والتصدي للعدوان وممارسة فعل التحرير للأرض والإنسان، إلا أنه وابتداءً من العام 1992، تاريخ أول انتخابات نيابية بعد نهاية الحرب الأهلية واعتماد الطائف كدستور جديد أصبح الحزب أكثر انخراطاً في المشروع السياسي الداخلي وفق رؤية وطنية مستوحاة من التزامه الإيماني ومتوائمة مع فهم الخصوصية اللبنانية انطلاقاً من بناء الدولة على أسس ميثاقية تحتل العدالة والمساواة والمشاركة والتعددية الأولوية فيها. ولقد استفاد الحزب سواء في مقاومته أو في ممارسته السياسية من رؤية الإمام السيد موسى الصدر كمصدر أساسي لاجتراح تجربة فريدة وراقية ونموذج يحتذى في تبيئة القيم الإنسانية واستلهامها كمصدر للوحدة الوطنية، وحفظ التعددية والتأكيد على صياغة عقد اجتماعي وسياسي يخفف من غلواء الطائفية وآثارها المدمرة، وصولاً الى إعلاء القيم الأخلاقية والإنسانية وربطها بمعاني الاستقلال والكرامة والحرية والمساواة، ما يخلق وطناً حراً سيداً مستقلاً لمواطنين متساوين أحرار.
المرتكز التاريخي:
تنتمي المقاومة الإسلامية الى بيئة تاريخية عانت الكثير من الظلم والحرمان اللذين تولدا من بعدين مركزيين:
أ ـ قيام الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وما نشأ عنه من مأساة فظيعة للشعب الفلسطيني وما رتّبه ذلك من أعباء ضخمة تكبدها اللبنانيون الجنوبيون، سواء من خلال احتضانهم للفلسطينيين المقتلعين من ديارهم، وتبني قضيتهم المحقة العادلة من خلال منطق إنساني وأخلاقي وأخوي أو من منطلق ديني وعقائدي وقومي، أو من خلال التحسس بأن فصول هذه المأساة لن تنتهي عند حدود فلسطين، ذلك أن الكيان الصهيوني طامع بأراضٍ عربية كثيرة وثروات عربية أكثر. ولقد ترك اللبنانيون في الجنوب يواجهون قدرهم بأنفسهم فيقعون ضحاياً للقتل والتهجير ومنازلهم وقراهم للاغتصاب والاحتلال والتدمير، فيما أدارت السلطات اللبنانية ظهرها بالكامل لمأساتهم غير آبهة بإيجاد طريقة لحمايتهم والدفاع عنهم أمام غطرسة العدوان، استناداً الى مقولة قوة لبنان في ضعفه. وهو ما أدى لاحقاً الى قيام أبناء الجنوب بتسليح أنفسهم والتدرب لحماية قراهم في مواجهة العدوان والاحتلال، وصولاً الى المقاومة المسلحة المنظمة التي أطلقها الإمام السيد موسى الصدر بشكل متدرج من خلال دعوة الشباب اللبناني بشكل عام والجنوبي بشكل خاص للدفاع عن لبنان، وكان همه تحسيس اللبنانيين جميعاً بالمسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقهم بالدفاع عن جزء من أرضهم، عزيزة  كما بقية الأراضي اللبنانية بسبب انتمائهم الى الوطن، ومعاناة أهلها المتكررة وهم من أبناء الشعب اللبناني.
ب ـ سياسة الحرمان والإنماء غير المتوازن التي مارستها السلطة في لبنان بحق مناطق بعينها، بحيث أصبحت الخدمات والتنمية والمشاريع تذهب الى زعماء الطوائف والإقطاع السياسي والموالين لهذه السلطة وأتباعهم. وكان هذا أخطر ما قامت به السلطة إذ كانت تشتري ولاءات الناس بالخدمات التي هي حق أساسي مكتسب لهم يجب أن يحصلوا عليه دون منة من أحد، وكانت هذه السياسة أقصى ضربة توجه لمفهوم المواطنية في هذا البلد لأنها خلقت جزراً متقابلة، وقوّضت أي أساس لنهوض وطني على أسس سليمة ومعافاة. وهو ما ولّد شعوراً عميقاً بالظلم، ولكنه لم يضعف حس الانتماء الوطني لدى أبناء المقاومة وأهلها، بل دفعهم الى التمسك بوطنهم والتضحية من أجله بأغلى ما يملكون وهي الأرواح والدماء، وقابلوا استقالة الدولة من مهامها الأساسية في الدفاع عنهم وحمايتهم وردع العدوان ضدهم بمباشرة فعل الدفاع والذود عن الوطن وحفظ السيادة الوطنية بأنفسهم. كما أنه لم يغب عن بالهم أن المقاومة نهجاً وممارسة ترتب آثاراً اجتماعية خطيرة. إذا لم يتم التعاطي معها بحكمة وروح مسؤولة من خلال رعاية عوائل الشهداء والجرحى والأسرى، أو من خلال ترميم ما تهدّم، فقامت المقاومة أيضاً بالاضطلاع بهذه المهمة التي هي من صلب اهتمامات السلطة أيضاً، فبنت مجتمع المقاومة والصمود من خلال شبكة ضخمة من المؤسسات الرعائية، الصحية والتعليمية والاجتماعية التي قدمت وما تزال تقدم العون للمحتاجين والمستضعفين.
لقد قامت المقاومة بكل هذه التضحيات الجسام، وقدمت آلاف الشهداء والجرحى دون أن تضع في حسابها أنها تفعل ذلك لحسابات البازار السياسي الداخلي، فلم تدخل في حسابات زيادة الربحية وتكبير الحصص، ولم تطرح نفسها بديلاً عن الدولة ومؤسساتها، لا بل انها وفي أكثر المواقع خطورة واتصالاً بأمنها وعملها وهو قضية العملاء سلّمت الأمر للسلطة القضائية اللبنانية ولقوى الأمن ولم تتعاط مباشرة مع هذا الملف. كما أنها كانت دوماً في موقع تقديم التنازلات السياسية الداخلية لحساب المصلحة العامة الكبرى التي تتصل بمستقبل البلد وتوجهاته الكبرى وتموضعه في دائرة المناهضة للمشروع الصهيوني الاستكباري. لقد وعت المقاومة أولوياتها منذ اللحظة الاولى، ولم تُعمها بهرجات السلطة، ولم تُغرها مكاسب الحكم فبقيت ملتزمة بنهجها والثوابت، وستبقى ملتزمة بهما حتى النهاية.
لقد استطاعت المقاومة أن تبرهن بالملموس أن لا تعارض ولا تناقض بين مشروع المقاومة ومشروع الدولة. كما برهنت أيضاً عن تماهيها الكامل مع المشروع الوطني العام، فهي كانت تدرك منذ البدء في أي ساحة تعمل والخصوصية التعددية لهذه الساحة، فلم تحاول فرض نموذجها أو تعميم نهجها على الآخرين بمنطق القهر والتسلط والترهيب الفكري، لكنها في الوقت نفسه الذي ترفض فيه منطق القهر والفرض والإكراه لا تقبل أن يمارس ذلك بحقها وبحق جمهورها أيضاً من خلال مصادرة حق الأفراد والجماعات في اعتناق ما يرونه مناسباً من أفكار ومعتقدات ويحفظونه لأنفسهم من منهج فكري وعمل ما دام أنه لا يتم تحت سقف المصلحة الوطنية وضمن ثوابت الحرية والتعددية والنظام الديموقراطي الذي يميز لبنان.
لقد أطلق البعض العنان لاتهاماته وافتراءاته ضد المقاومة وأهلها.. تارة تحت عنوان السلاح، فادعى وجود سلاحين وجيشين ودولتين وصولاً الى مرحلة متطرفة، زعم فيها وجود ثقافتين متباينتين لا يمكن أن تلتقيا أبداً، فيما أن المقاومة من خلال طروحاتها وشعاراتها كما من خلال ممارساتها ودعواتها المستمرة الدؤوبة والمخلصة لمناقشة قضية الاستراتيجية الدفاعية أثبتت وتثبت انضواءها في إطار مشروع وطني عام لا يحمل أية خصوصية لها ولجمهورها، أو مكاسب محددة تبغيها في هذا الإطار.
كما ادعى البعض الآخر افتراءً وجهلاً أيضاً إن إيمان المقاومة بولاية الفقيه يجعلها تابعاً لدولة أخرى أو قوى أخرى خارجية لا تمت للمصلحة الوطنية بصلة، لا بل إن هذا البعض طرح إشكاليات وروّج لاستنتاجات وخلاصات خاطئة من دون أن يكلف نفسه عناء البحث العملي المجرد لمعرفة مدى حقيقتها وانطباقها على الواقع. كل ذلك في محاولة واضحة لتأسيس نظري بوجود حالة تناقضية بين المشروع الوطني اللبناني والعقيدة الفكرية التي يتبناها حزب الله.
مرة جديدة وفي هذا الإطار أيضاً، يثبت حزب الله أن رؤيته الدينية والتزامه العقائدي لا يتنافى أبداً مع المشروع الوطني، فالحزب حركة دينية جهادية، تؤمن بالوطن وتعمل على بنائه وتوفير فرص النجاح لقيام وطن غني بثقافته التعددية التي هي مصدر فرادة وقوة استثنائية هذا الوطن. كما أنه سخّر إمكانياته وطاقاته وكل وجوده للحفاظ على استقلال وسيادة لبنان والدفاع عنه.
إن تجربة المقاومة في لبنان، هي فرصة ذهبية لترسيخ مفهوم الانتماء الوطني وتوحيده عند اللبنانيين جميعاً. ذلك أنها تجربة حقيقية واعية صافية ناشئة عن معاناة اللبنانيين أنفسهم، وتتماهى مع تطلعاتهم، وتتواءم مع أهدافهم في الحرية والاستقلال ونظام العدالة والمساواة.
(*)محاضرة ألقيت في ندوة " مفهوم المقاومة" الذي نظمه "تجمع الوفاق الوطني" في فندق السفير ـ بيروت في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008
الانتقاد/ العدد 1317 ـ 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008
2008-11-21