ارشيف من : 2005-2008
من اوراق الجرائد...

صحيفة السفير:
تحت عنوان:محاولة الإطاحة ببري كما محاولة تشتيت الصوت الشيعي كما القرار 1559
جباة أميركيون وفرنسيون يستعجلون تحصيل دين اسمه المقاومة
كتب ابراهيم الأمين
هل نحن فعلا أمام استحقاق الفاتورة الدولية على لبنان أو على فئة من اللبنانيين مقابل تسهيل وتسريع خروج سوريا من لبنان؟
السؤال لم يعد بديهيا فحسب، بل ربما صار إلزاميا بحكم استعجال الجابي الاميركي تحصيل ديونه في زمن الضيقة العراقية. والأمر يرتبط أكثر الآن، بما هو مقدر في المرحلة المقبلة لبنانيا، بعدما فرزت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة تلونا لا يفي بالغرض الذي كان متوقعا قبلها، خصوصا وان تقديرات معارضين من جماعة الولايات المتحدة وفرنسا عبروا عن آراء تنم عن عبقرية لا سابق لها، بان الخروج السوري من لبنان كفيل لوحده بقلب المعادلات، وان كل من ترونه اليوم واقفا سوف لن تجدوه على السطح لاحقا. وكان الكلام لا ينحصر في الحديث عن أقطاب ووزراء وشخصيات بل بشكل رئيسي عن "حزب الله".
والحكاية التي بدأت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان فيها فصل كبير حول انفكاك القوى الحليفة لسوريا. وحول تعثر مشاريع جمع هؤلاء في اطار واحد. وان ذلك ظهر جليا في "عين التينة" ولاحقا في كيفية ادارة التحرك الشعبي المضاد لتحرك القوى الحليفة للولايات المتحدة وفرنسا. وكان الكل يعتقد ان المناخ الشعبي الذي مال بقوة لمصلحة الفريق الثاني سوف يقضي على كل التركيبة السلطوية والسياسية للفريق الاخر، وان المهم إجراء الانتخابات في وقتها. وبالطبع كان هناك من يعتقد أن رئيس الجمهورية إميل لحود سوف يكون أول من يخرج من السباق. ثم دارت التحليلات والتقديرات حول ما هو متوقع أو ما هو مقدر بالنسبة للكتلة الأكبر في المواجهة وهي التي تخص الشيعة. ثم تطوع كثيرون من محبي الوحدة والتعايش والاحتضان ولا سيما منظري الطوائف الوطنية أو الوحدوية للحديث عن "احتضان الشيعة ومنعهم من الدخول في موجة إحباط كالتي عانى منها المسيحيون وان الفريق المنتصر سوف يقود عملية الاستيعاب ومنع الغرب من الانتقام وتوفير تسريح مشرف للمقاومة" الى آخر المعزوفة التي لم نعد نسمع لها صوتا. وكان ثمة من يعتقد بقوة ان البعثرة التي تصيب الفريق السوري سوف تنعكس تبعثرا وتقاتلا وخلافات في الصف الشيعي على وجه الخصوص، وبرز من يقول ان على "حزب الله" المضي في انتخابات تجعل من الشريك الشيعي نبيه بري رقما ضعيفا لا يؤهله لاي دور مستقبلي، ثم ذهب من يفترض ان على بري تقديم اوراق اعتماده الى نظام الوصاية الجديد من خلال ابراز عناصر تمايز جدية عن "حزب الله" من خلال رفض استمرار المقاومة والدخول في التحالف القائم خلف 14 آذار. وان بمقدور بري ان يرث الحالة الشيعية كاملة ان هو انخرط في هذا الدور.
لكن ثمة حسابات كثيرة بعضها بات معروفا وبعضها الآخر قيد النبش، جعلت الصورة تنعكس بطريقة مختلفة. وعلى رأي احدهم، انه لو طلب الرئيس بري مقاعد إضافية في الجنوب وغيره لكان حصل عليها من دون جدال من جانب الحزب. فيما ذهل "حزب الله" لمستوى الانضباط الذي نزل كالمطر على كل رؤوس كوادر وعناصر حركة "أمل" قبل وأثناء وبعد الانتخابات. إضافة إلى ان البحث الفعلي الذي قام بين الرئيس بري وبين الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله تناول بصراحة كل العناوين التي تخص الشيعة والعلاقات مع الطوائف الأخرى والعلاقة مع سوريا وما خص العملية الانتخابية في كل لبنان وحيث هناك ناخبون شيعة. وكذلك بما خص المرحلة المقبلة وملف الحكومة ودور المجلس النيابي في المرحلة المقبلة.
ولما جاءت الانتخابات النيابية في الوسط الشيعي على ما جاءت عليه، بدا المشهد السياسي مخالفا للانطباعات وللتقديرات التي خصت ملف المقاومة من جهة، وملف الحضور الشيعي في الدولة من جهة ثانية. واذا كان الشرط المعلن والمضمر لتحالفات "حزب الله" الانتخابية يقول برفض الشركاء لطلب الغرب سحب سلاح المقاومة، فان الشرط الاخر المعلن والمضمر لهذا الفريق تثبيت الحضور الشيعي في المكان الاخر من دون تعديل يراعي تبدل الاولويات كما يريد الغرب. وكانت كلمة السر تقول "نبيه بري رئيسا للمجلس لولاية جديدة، وهو الممثل الرسمي والشعبي للطائفة الشيعية في الدولة" وهي العبارات التي ترددت امام اقطاب كبار من تحالف قوى "البريستول"، وحتى امام آخرين من ممثلي الدول الغربية والعربية التي نشطت على هذا الصعيد.
لكن ما الذي حصل فجأة؟
عشية انتخابات الشمال، وبعد انتخابات جبل لبنان والبقاع، تمت المراجعة التي قامت بها دول الوصاية الجديدة في باريس، وهناك ظهر أن ثمة بحثا في أمور عدة من بينها نتائج الانتخابات. ولم يكن هناك امكانية وخصوصا بعد انتخابات الشمال لان تعلن هذه الدول رفضها او تشكيكها بالانتخابات بعدما جرت وفق المواعيد الغربية ووفق قانون وافق عليه الأقطاب من حلفاء واشنطن وباريس وتحت أعين مراقبين أرسلتهم هذه الدول، واتت بنتائج عززت حضور ونفوذ القوى الحليفة لدول الوصاية الجديدة، ولكنها انتخابات أعادت الاعتبار إلى الحضور السياسي والشعبي للمقاومة وللحضور الشيعي. وهو أمر يخالف التوقعات التي كانت تقول بان "حزب الله" سوف ينكشف في الانتخابات وسوف يكون ومعه حركة "أمل" تحت رحمة الآخرين وهو ما لم يحصل بل على العكس كان هناك ما هو مخالف في مناطق كثيرة. ثم كانت هناك توقعات مختلفة بالنسبة للمسار السياسي في الوسط المسيحي من شانها الإطاحة السهلة بالرئيس لحود، ما يعني انه لا بد من خطوات أخرى تكون سهلة الطرح والتنفيذ تتصل بعدم بقاء نبيه بري في موقعه.
وعليه ثمة من فكر من دول الوصاية بإعادة نبش الأمر بطريقة مختلفة، أي الحديث عن تسوية من النوع الذي يعيد إثارة النقاش السلبي وسط الشيعة، ولم يكن الأمر صدفة أن يطرح سفير دولة غربية كبرى في بيروت على زملائه فكرة أن يأتي نائب من "حزب الله" أو مقرب من الحزب رئيسا للمجلس، وثمة من ذهب بعيدا في وضع ترتيبات لهذه الخطوة مثل أن يعلن احد نواب الحزب استقالته من الحزب ويتم في وقت لاحق تسميته رئيسا للمجلس. وهو أمر رفضه صراحة السفير الاميركي جيفري فيلتمان. ثم جاء الى قيادة "حزب الله" من حمل رسالة تقول بأنه من الممكن ترك امر تسمية الرئيس المقبل للمجلس لكل من الحزب و"أمل" وان يتولى الرئيس بري كما السيد نصرالله اختيار احد النواب الشيعة لتولي هذه المهمة، وطرحت أسماء لعدد من النواب. ثم تبين أن رد نصرالله على وجه التحديد كان حاسما: لا اعتقد انه لدى أي من النواب الشيعة في لبنان مرشح لرئاسة المجلس غير نبيه بري.
وبدا في لحظة البحث التي شارك فيها الفرنسيون والسعوديون وأقطاب محليون بينهم سعد الحريري انه ليس هناك مجال للبحث بالامر من جانب "حزب الله" بينما كان وليد جنبلاط يبلغ بري بواسطة نوابه انه حاسم في دعم بقائه في منصبه وانه يفهم الامر كما هو دونما أي شرح اضافي. لكن بري ونصرالله كانا منشغلين في متابعة الضغوط المتوالية من جانب باريس وواشنطن حول هذا الامر. الى درجة ان شخصية سياسية رفيعة المستوى زارت السيد نصرالله مساء الاثنين الماضي وطرحت الامر بصورة مباشرة ضمن سياق يتجاوز رئاسة المجلس. وقالت هذه الشخصية ان الاغلبية الفائزة في المجلس النيابي تريد سعد الحريري رئيسا للحكومة ولا تريد نبيه بري رئيسا للمجلس النيابي. وعند التدقيق قليلا في البحث تبين ان الامر الاخر رهن الضغوط الفرنسية والاميركية، ما حمل نصرالله الى تذكير ضيفه بان هذه مشكلة الغرب وليست مشكلة لبنان ومن لديه التواصل مع الغرب فليعالج الامر على طريقته. ولكن ليس لدى الحزب أي مجال لبحث مبدأ الاطاحة ببري.
في هذه الاثناء كانت ايران قد دخلت على الخط، وهي ابلغت الرئيس بري اثناء زيارته طهران انها الى جانبه، وانها تتفهم اكثر من غيرها دوافع وخلفيات واهداف القرار 1559 وهي تدرك أهمية التماسك والتوحد الذي أظهره الشيعة في مناسبة الانتخابات النيابية. وهي تدرك انه من المنطقي ان يبقى بري في منصبه. وهو كلام نقل إلى قوى خارجية ومحلية وحتى إلى مرشحين مفترضين لمنصب رئاسة المجلس النيابي.
مساء أمس، كانت الأمور قد شهدت الفصل الأخير من هذه المسرحية، وفيها أن الغرب عاد عن قراره الإطاحة ببري، وان فرنسا كما الولايات المتحدة الاميركية تتفهمان وتقبلان نتائج الانتخابات النيابية كما هي، ما يعني ان التجديد لبري صار امرا قائما.
لكن من يجيب على السؤال المركزي: كيف ستحصل الولايات المتحدة وفرنسا واسرائيل ما تفترضه دينا على البعض في لبنان مقابل اخراج سوريا. وما هو الكمين الجديد للمقاومة؟
صحيفة السفير:
تحت عنوان: "لبنان والفوضى الخلاقة"
كتب الرئيس سليم الحص
يتحدث المسؤولون الأميركيون عما يسمّونه "الفوضى الخلاقة" في الشرق الأوسط، بمعنى نشوء حال من القلاقل والاضطراب والنزاعات تكون هي المقدمة لإعادة ترتيب المنطقة سياسياً واقتصادياً، وربما جغرافياً، على قياس ما تُفصّل الإدارة الأميركية لأقطار هذه المنطقة. وما تضمر الإدارة الأميركية للمنطقة بعضه واضح وبعضه يبقى خفياً. الواضح منه هو مشروع الشرق الأوسط الأكبر، الذي يضمّ في منظومة واحدة، غير محددة المعالم، جميع دول منطقة الشرق الأوسط، بما فيها المشرق العربي، أي دول الطوق المحيطة بـ"إسرائيل" والخليج العربي، الى العراق وربما ليبيا، وكذلك دول غير عربية من مثل تركيا وإيران وربما قبرص وأفغانستان، ومعها بالطبع "إسرائيل". أما الهدف المعلن فهو ربط دول المنطقة في إطار نظام إقليمي جديد يُطلق، بحسب ما يُقال، حركة إصلاح سياسي واسع ينشر ألوية الحريات العامة والديموقراطية وسائر حقوق الإنسان في مجتمعات المنطقة، كما يفترض ان يطلق حركة تنمية زاخرة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً تنهض بمجتمعات المنطقة من حال الفقر والتخلّف والاضطراب التي تواجهها.
وأما الهدف الحقيقي، الذي يستقرأ من سياسات الدولة العظمى وممارساتها ومشاريعها في المنطقة، فهو مزدوج: فمن جهة يُراد القضاء نهائياً على مفهوم العروبة، ومن جهة ثانية وضع المنطقة برمّتها تحت مظلّة السطوة الإسرائيلية. فالعروبة، بما هي قوة دفع نحو التحرر والوحدة بين شعوب الأمة العربية، كانت وما تزال تشكّل هاجساً للصهيونية و"إسرائيل". ففي صلب مفهوم العروبة ان قضية فلسطين ليست مجرّد قضية وطنية لشعب تلك الأرض وإنما هي قضية العرب المركزية. فهي إن اقتصرت على الشعب الفلسطيني فإن تصفيتها ستكون ميسورة المنال بقهر هذا الشعب وتشريده وسحق مقاومته، علماً أن مقاومة الشعب الفلسطيني لغاصب أرضه وحقوقه لا يمكن ان تكون طويلة النفس من دون عمق عربي يساندها ويناصرها ويرفدها. وقد شكّلت ظاهرة الرئيس جمال عبد الناصر مفصلاً في تنمية هاجس الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، حيال الخطر الذي يمكن أن تشكله العروبة على مصير الكيان الصهيوني. والمعروف أن جمال عبد الناصر ذهب بعيداً في شهر سلاح العروبة في وجه المشروع الصهيوني، فكانت الوحدة المصرية السورية وكانت محاولة لاستيعاب اليمن وليبيا وكانت الحملات السياسية والإعلامية لضبط سياسات الدول العربية على إيقاع المواجهة مع المشروع الصهيوني. هكذا جعل الرئيس عبد الناصر من العروبة عقدة في التفكير الغربي إزاء المنطقة، وأضحى القضاء على العروبة مطلباً صهيونياً. والضعف المطبق الذي حلّ بجامعة الدول العربية خلال السنوات الأخيرة قد يكون من ثمار هذا الواقع.
أما إخضاع المنطقة للسطوة الصهيونية فمطلب اميركي بقدر ما هو مطلب اسرائيلي. فقد بات من المسلمات في وعي كل عربي ان الاستراتيجية الاميركية في المنطقة لا تختلف في شيء، سواء في الجوهر أم في المظهر، عن المشروع الإسرائيلي الصهيوني. من هنا كان الدور الأميركي المشؤوم في جرّ مصر والاردن الى عقد تسوية مع إسرائيل على حساب الحق العربي، ومن هنا كان احتلال اميركا للعراق، ومن هنا ما يتعرّض له لبنان وسوريا من ضغوط هذه الايام تتمحور على تصفية المقاومة اللبنانية وقطع العلاقة بين سوريا وبين حركة "حماس" وحركة "الجهاد الاسلامي" علماً أن الحركتين تحتفظان بمكاتب لهما في دمشق.
أما طريق الوصول الى إخضاع المنطقة للسطوة الصهيونية فيمر بالضرورة، على ما يبدو، بشرذمة الشعوب العربية وتفتيتها، بحيث تبقى "إسرائيل" هي الكيان المتماسك الوحيد في المنطقة، وتبقى تالياً هي الأقوى والأقدر على التحكّم بمسار المنطقة بأسرها ومصيرها بما يخدم مآربها ومشاريعها التوسعية ويوطد كيانها ويحصنه. هكذا نجد تفسيراً لما تتعرّض له المنطقة من ضغوط هذه الايام، بما في ذلك ما يُثار في العراق من فتن عنصرية ومذهبية، وما تتعرّض له سوريا من مضايقات اميركية شديدة، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من اعتداءات وتهديدات من جانب اسرائيل، وما تثيره الادارة الاميركية في وجه مصر والمملكة العربية السعودية ودول عربية اخرى من قضايا تتعلق بالحريات والديموقراطيات تحت عنوان الإصلاح السياسي.
في عام 1996 وضعت في اميركا ورقة سياسية بعنوان "الاختراق النظيف"، صاغتها لجنة برئاسة ديك تشيني الذي عاد فيما بعد ليشغل منصب نائب الرئيس الاميركي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وقد رسمت الورقة مخططاً (سيناريو) لإثارة الاضطراب والقلاقل في المنطقة بتسلسل محدّد يبدأ بالعراق ويمر بسوريا ولبنان وينتهي بإيران، ويتناول في طريقه "حزب الله" تحديداً. ويبدو وكأنما هذا المخطط موضوع حالياً موضع التنفيذ كما تنبئ التطورات والأحداث التي تشهدها المنطقة. إنها إرهاصات "الفوضى الخلاقة" بأسطع تجلياتها. وكل المؤشرات توحي ان لبنان ربما أضحى هدفاً مباشراً من أهداف هذه اللعبة الجهنمية، فأخذت تدبّ في اوصاله معالم "الفوضى الخلاقة". ولعل مسلسل جرائم الاغتيال المنكرة التي وقعت فيه خلال الآونة الاخيرة هو من إفرازات هذا الواقع. ومن حقنا ان نتساءل ما اذا كان اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري ومعه الدكتور باسل فليحان يأتي في هذا السياق؟ وكذلك اغتيال الصحافي والمفكّر سمير قصير وأخيراً امين عام الحزب الشيوعي السابق المناضل جورج حاوي، وكذلك مسلسل التفجيرات الليلية التي استهدفت في مرحلة من المراحل منشآت تجارية وسياحية الى الشرق والشمال من العاصمة بيروت.
لا بل من حقّنا أن نتساءل كذلك ما إذا كانت أجواء التوتر والانقسام التي رافقت جولات الانتخابات النيابية مؤخراً تندرج في هذا السياق، علماً بأن من مسبّبات عدم الارتياح السائد قانون انتخاب فرضه في واقع الحال موقف من أميركا وفرنسا أملى التزام موعد محدد للانتخابات النيابية، فلم يعد ثمة متسعٌ للبحث في قانون انتخاب جديد. وهل يأتي في هذا السياق أيضاً ما جاء في القرار الدولي 1559 من مطالبة بنزع سلاح المقاومة؟ مع العلم أن هذه المسألة تشكّل مادة للخلاف الحادّ بين اللبنانيين يتعذّر التكهّن بأبعاده.
وهل ستأتي في هذا السياق أيضاً يا تُرى محاولات من أميركا لفرض بعض جدول أعمالها في المنطقة مما لا قبل للبنان بتحمّل مغبّته، من مثل طرح موضوع الصلح المنفرد مع إسرائيل ومن ثم تطبيع العلاقات مع إسرائيل وربما توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. يخشى ان تُستغل في هذا السبيل دعوى استعادة السيادة فيُقال ان لبنان لم يعد معنياً بمقولة وحدة المسارين اللبناني والسوري أو تلازمهما، وأن على لبنان تالياً السير في الطريق الذي يحفظ مصالحه الذاتية من دون الالتفات الى سوريا. فلمَ إذن لا يسلك لبنان الطريق الذي سلكته من قبل مصر في كامب دايفيد والأردن في وادي عربة؟ من يدري، لعل وراء الأكمة مشروع 17 أيار جديداً!
ثمّة اقتناع سائد بين اللبنانيين هذه الأيام ان بلدهم خرج فعلياً من تحت مظلّة الوصاية السورية الى تحت مظلة الوصاية الأميركية. وثمّة تخوّف من ان يترتب على ذلك تحوّل لبنان الى مختبر للمشروع الأميركي المُعدّ للمنطقة، أو على الأقل تحوّله الى منصّة تنطلق منها أميركا لتنفيذ مشاريعها في المنطقة.
والسؤال المطروح بعد الانتخابات النيابية: هل ستكون السلطة، في جناحيها الاشتراعي والإجرائي، على مستوى التحديات التي تحبل بها المرحلة المقبلة في ضوء كل هذه المعطيات؟ الجواب سيكون في أداء مجلس النواب عند انطلاقه، خصوصاً في مواجهة استحقاق تأليف حكومة جديدة، وبتّ مسألة سلاح المقاومة، هذا ناهيك بالاصطفافات السياسية بين شتى الكتل النيابية التي سترسم صورة المجلس وربما تحدّد مدى فعاليته وإنتاجيته.
يبقى السؤال: ماذا يفعل لبنان، لا بل ماذا يفعل العرب، في التصدّي لمشروع "الفوضى الخلاقة" الذي يُنفّذ في منطقتهم؟ الجواب: لا شيء. إنهم يُحسنون الإصغاء إلى المسؤولين الأميركيين يحاضرون أمامهم في الإصلاح والقيم الحضارية والإنسانية. فيتسابقون على مسايرة الدولة العظمى في سياساتها، حتى في فلسطين والعراق، حيث مواقفها العدائية للأمة وقضاياها. أما جامعة الدول العربية فهي في غيبوبة.
صحيفة السفير:
في زوايته اليومية محطة أخيرة كتب ساطع نور الدين
مرة أخرى لا بد من التوقف عند ذلك المشهد الذي بات مألوفا جدا ولا يثير أي علامات استفهام: خبراء مكتب التحقيقات الفيدرالي الاميركي، ال"إف بي آي"، في شوارع بيروت.
كانوا بالامس في وطى المصيطبة. لم يكن هناك شيء يدل على هويتهم، ولم يكونوا يرتدون السترات التقليدية التي يظهرون بها عادة في الافلام السينمائية الاميركية، بل كانت ثيابهم البيضاء وأحذيتهم وأكفهم الرمادية تدل على أنهم يعملون في مستشفى أو ربما في محطة بنزين. كانوا يؤدون مهمتهم بدقة وهدوء وتفان كما لو كانوا في أحد شوارع مانهاتن في نيويورك.
قبل أن يصلوا إلى الوطى، كانت الاتصالات قد انهالت على وسائل الاعلام المحلية لكي ترسل مصوريها الى المكان لالتقاط صور الخبراء الجنائيين الاميركيين لدى انهماكهم في جمع الأدلة والبقايا والنتف من سيارة الشهيد الشيوعي جورج حاوي.. الذي من المؤكد انه لن يكون مرتاحا اليوم في قبره لتلك المساعدة الاميركية الاستثنائية في التحقيق الهادف الى كشف قتلته.
كانت وحدة من الجيش وأخرى من قوى الامن تحمي الخبراء الاميركيين. لكن سكان الوطى والمارة الذين تجمعوا في مكان الانفجار، لم يظهروا أي عداء او حتى أدنى استغراب، بل كانوا يتابعون بحشرية طبيعية مهمة لم يشاهدوا مثلها من قبل إلا على شاشات السينما او التلفزيون.
لم تدم المهمة طويلا. غادر بعدها الخبراء الاميركيون إلى مقرهم غير المعروف حتى الآن، من دون ان يتضح مرة اخرى، كيف جاؤوا، ومن طلبهم، وكيف تتم الاستفادة من خبرتهم وكفاءتهم واستنتاجاتهم، وهل كان يمكن الاستعاضة عنهم بخبراء من أي بلد آخر.
بعد نشر صورهم، حلت المفاجأة: كانوا بالفعل في منطقة الوطى الواقعة بين الكولا والاونيسكو، التي شهدت طوال تاريخها أعنف المواجهات وأكبر التظاهرات ضد الامبريالية الاميركية، والتي لا يزال يقيم فيها حتى اليوم بعض من ألد أعداء أميركا وخصومها المبدئيين الذين أمضوا حياتهم ينظمون العمليات الأمنية ضدها في كل مكان في العالم.
كانت المفارقة غريبة، أغرب بكثير من وجود خبراء ال"إف بي آي" في الاشرفية في أعقاب اغتيال الشهيد الزميل سمير قصير، وهي تعني ان منطقة الوطى ومحيطها وما كان يعرف سابقا باسم بيروت الغربية قد قطعت مسافة هائلة عبر الزمن، لم يكن أحد يتخيلها حتى عندما كانت قوات الاحتلال الاسرائيلية تتجول في شوارع المدينة في صيف العام 1982..
لكن الصور سرعان ما ضاعت في ذاكرة المدينة التي تلملم أشلاء ضحاياها، وتسأل عن السبب الذي استدعى وجود ال"إف بي آي"، وعن السبب الذي جعل منهم شركاء في محاولة كشف جرائم سياسية!
صحيفة النهار:
تحت عنوان : من فرج اللــه الحلو إلى جورج حاوي : "لبنان سيبقى في جبهة الحرية"...
كتب غسان تويني
ثمّة عندنا مَن يعتبرون أن صار بينهم وبين الموت ألفة... فإذا راحوا الى هناك، التقوا أصحاباً وخلاّناً ورفاقاً ينتظرونهم، وقد اشتاق بعضهم الى البعض وربما استأخر مجيئهم.
صورة جورج حاوي وسمير قصير معاً كأنها مأخوذة هناك. كلاهما ضاحك وكأنهما التقيا. ترى هل يعني ذلك أن القاتل واحد، وأنهما اغتيلا لسبب يجمع بينهما، ولا نعرفه نحن؟
يجب أن يكون الأمر كذلك!... أو لا يكون للاغتيال منطق. وهذا مستحيل عندما تكون الاغتيالات متسلسلة هكذا.
يروي غسان شربل، في مذكرات دوّنها لجورج حاوي (ونشرتها مجلة "الوسط")، أنه قال له مرة إن ثمة قولاً لفتحي الشقاقي (الامين العام السابق لحركة الجهاد الاسلامي) يستهويه: "عشت أكثر مما كنت اتصوّر". ويستشهد فتحي الشقاقي بعد ذلك بقول للإمام علي:
"حارس العمر الاجلُ"!...
ترى ، هل ذهب جورج مرتاحاً، مطمئناً، بل ضاحكاً كعادته؟ أظنه هكذا، وهو الذي كان يقابل أشد الغضب بالضحك، وفي أحلك الساعات، وقد عاش أيام بيروت الأكثر سواداً ويأساً، يتنقل بين المخيمات ومواضع المقاومة وهو يضحك من قنابل الاحتلال الاسرائيلي.
عندي سؤال بودّي لو يطرحه جورج حاوي على رفيقه في الحزب الشيوعي اللبناني وسلفه في القيادة، الذي سبقه إلى "هناك"، فرج الله الحلو (مَن يتذكره سواي؟) بفعل المنطق الإرهابي اياه:
ألا يزال مقتنعاً بعنوان مقال افتتاحي كتبه في "النهار"، في ايلول 1948، اي من اكثر من نصف قرن؟ وهل جاءه من قال له "نعم إن لبنان لا يزال باقياً في جبهة الحرية، وليس كثيراً علينا إن دفعنا نحن، ورفقاء آخرون، ثمن هذه الحرية من حياتنا".
المؤرّخ الملهَم بالحرية الذي حُرمنا حياته ثمناً لحريتنا، رفيقنا وزميلنا الشهيد سمير قصير، سنفتقده لأنه ربما سيكتب بلغة ملائكة لا يفهمها الحكام الذين يتمنطقون بالارهاب منهج حكم. معليش!
يحضرني، اليوم بالذات، هذا البيت من شعر ناديا تويني يجعلني أظن ان الأموات لا يشيخون:
"... وفي خاطري ذاكرات أمهاتي كلها".
صحيفة النهار:
تحت عنوان:
دخول الأميركيين والفرنسيين لن يحول دون عودة بري
رئاسة المجلس للمرة الأولى استحقاق شيعي صرف
كتب نقولا ناصيف:
لم يطل السجال حول الرئاسة المقبلة لمجلس النواب، وباتت للمرة الرابعة على التوالي معقودة اللواء للرئيس نبيه بري في جلسة المجلس الثلثاء المقبل، وان يكن سيواجه باصوات ستقترع ضده اكثر مما سجل في اي انتخابات سابقة (105 أصوات من 125 في انتخابات 1992، و122 صوتاً من 126 في انتخابات 1996، و124 صوتاً من 126 في انتخابات 2000 ).
ولعلها المرة الاولى تبدو انتخابات رئاسة المجلس استحقاقاً شيعياً محضاً تقرره الطائفة لوحدها من دون ان يكون في وسع الطوائف ولا الافرقاء الآخرين تجاوزه او ادراجه في سياق حملة التغيير التي تقودها المعارضة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط. وفي معزل عن كل ما قيل قبل انتخابات 2005 عن صفقة غير معلنة ابرمها بعض قوى المعارضة مع بري لامرار قانون 2000 وحماية التوازنات السياسية بين رفاق الامس، في ظل النفوذ السوري في لبنان وبعده، فان بقاء بري في منصبه تجاوز في مضمونه الرجل الى الطائفة نفسها تماماً، ولاسباب مختلفة، على غرار الاستفتاء الذي كرّس النائب سعد الحريري زعيماً لطائفته والنائب وليد جنبلاط لطائفته.
مع ذلك فان مقاربة هذا الاستحقاق، تقترن بعدد من المعطيات:
1 – ادخال الاميركيين والفرنسيين انتخابات رئاسة مجلس النواب في سياق روزنامة التغيير التي رسموها للوضع اللبناني الداخلي وقد صار الى احترام كل بنودها حتى الآن بدءاً باجراء الانتخابات النيابية في موعدها وحصول المعارضة على الغالبية النيابية وتأليفها حكومة وبناء مرحلة ما بعد تأسيس السلطة الجديدة، بالتزامن مع الشق الخارجي، وهو اخراج الجيش السوري من لبنان وتنفيذ ما تبقى من القرار 1559 وانجاز لجنة التحقيق الدولية مهمتها في حادث اغتيال الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري. ويبدو ان تدخّل عرابي القرار 1559 ذهب بعيداً في ادارة الوضع الداخلي الى حد الخوض في انتخابات رئاسة المجلس، حملت ان مسؤولاً ديبلوماسياً بارزا في دولة معنية مباشرة بهذا القرار على القول امام زواره قبل ايام، في معرض تعليقه على مرحلة ما بعد انتخابات 2005: "موضوع رئاسة الجمهورية سيكون ملحاً، ولكن قبله هناك موضوع ملح بدوره هو رئاسة مجلس النواب، ومَن سيكون الرئيس المقبل للمجلس كون ذلك يترك تأثيره على موضوع الرئاسة".
واضاف: "نعتقد ان الرجل الذي سيحل في رئاسة المجلس ترتبط هويته بمصير رئيس الجمهورية. الا اننا وان كنا نعتبر ان الموضوعين شأن لبناني داخلي لن نتخذ موقفاً منه. ونرى في عودة الرئيس بري الى رئاسة المجلس خطوة غير مشجعة على طريق الاصلاح الداخلي".
الا ان بضع اشارات ديبلوماسية اميركية وفرنسية فتحت باب السجال في موضوع رئاسة المجلس اصطدمت بموقف غير متوقع من الطائفة الشيعية، وخصوصاً ان مغزى هذا الموقف يتركز على اعتقاد ان بري مقبول سياسياً ولديه زعامة شعبية ولكنه متهم بالوقوف عقبة في طريق الاصلاح، ويُعتبَر شريكاً رئيسياً في استمرار الفساد، وان يكن ثمة من يدافع عنه في اوساط المعارضة باستعادة تجربة بري في الحكم في السنوات الـ15 المنصرمة عندما كان يقول انه سيمضي في أي اصلاح شامل يلتزمه الجميع، والا فان له حصته في تقاسم السلطة والادارة كاملة زائد حبة مسك. وغالباً ما ردد ذلك أمام الرئيسين الياس الهراوي ورفيق الحريري، شريكيه في الحكم.
2 – تعاملت المعارضة، بمن فيها المؤيدون لعودة بري ومعارضوها، مع هذا الاستحقاق وفق التمييز الآتي: هل ان رئاسة المجلس هي للشيعة ام لشيعي؟ بناء على ذلك فان الاستنتاج الطبيعي هو الآتي: هل المطلوب اي شيعي لهذا المنصب، ام ذاك الذي تريده طائفته؟ وفي ضوء هذا الاستنتاج اتى الجواب سريعاً: 23 نائباً من 27 هم عدد النواب الشيعة في المجلس، ايدوا عودة بري علناً من خلال وجودهم في كتلتي الرئيس الحالي للمجلس و"حزب الله"، اذا كان لا بد من استثناء اربعة نواب شيعة خارج هاتين الكتلتين هم باسم السبع (كتلة جنبلاط) وغازي يوسف (كتلة الحريري) وعباس هاشم (كتلة العماد ميشال عون) وحسن يعقوب (كتلة النائب الياس سكاف) لم يقولوا جميعهم لا لبري. واثنان منهم سيقترعون له في أبسط الأحوال.
3 – مع ان رئيس الغالبية النيابية النائب سعد الحريري يملك 72 صوتاً وهو عدد كاف لاختيار شيعي لرئاسة مجلس النواب، الا ان الامر لا يبدو بمثل سهولة احتساب الارقام وصولاً الى تغيير قد تبرره ظاهراً نتائج انتخابات 2005 ونشوء معارضة قوية قادرة على فرض خياراتها السياسية في بناء السلطة الجديدة على كل مَن لا يقف في صفها. والحريري اذذاك يكون يلاقي ارادة عرابي القرار 1559 في تنفيذ حلقة اضافية في سلسلة توازنات الانقلاب السياسي الجديد. على ان تصرفاً كهذا يستعيد القاعدة التي ادرجتها دمشق سنوات ابان نفوذها في لبنان حينما كانت تتسلح بالغالبية النيابية الواقعة تحت سيطرتها للاقتصاص من المسيحيين وفرض خيارات عليهم. وهذا ما يحاول الحريري تفاديه والا يكون وجهاً لوجه أمام طائفة تعرف انها المستهدفة في مرحلة ما بعد انتخابات 2005، وتحاول ان تؤخر تجرّعها كأس القرار 1559.
ومع ان الحريري لم يتخذ حتى الآن على الاقل موقفاً علنياً من انتخابات رئاسة المجلس في انتظار عودته في الساعات المقبلة، فالواضح انه سيواجه في جلسة الثلثاء الامتحان الاول للغالبية النيابية التي يرئس ومدى تماسكها في التصويت على استحقاق يمتد تأثيره للسنوات الاربع المقبلة. اذ ان ميله الى الاقتراع لبري رئيساً للمجلس انسجاماً مع موقف جنبلاط، تقابله مواقف مختلفة لافرقاء آخرين شركاء في هذه الغالبية قال بعضهم كلمته الرافضة التصويت لبري كـ"لقاء قرنة شهوان" (النائبين نايلة معوض وبطرس حرب) و"حركة التجدد الديموقراطي" (النائب مصباح الاحدب)، والبعض الآخر لم يقلها ("القوات اللبنانية"). وهو امر يطرح مصير غالبية النواب الـ 72 من اليوم الاول، وهل ستكون سلطة دائمة وسيفاً مصلتاً في كل الاوقات؟ وهل ان الحريري سيحكم عبر هذه الغالبية بلغة الأرقام ام بحسابات التوازن السياسي الداخلي؟
الواقع ان عودة بري الى رئاسة المجلس، وان في ظل ضغوط الاميركيين والفرنسيين ضدها، تشير الى اول خلل في روزنامتهم في اعادة بناء السلطة اللبنانية. وهو امر يعيد التذكير بما كان يرويه رئيس الوزراء الراحل في مجالسه الخاصة عن حوار دار بينه وبين الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان طلب اليه عدم الموافقة على التمديد للرئيس اميل لحود في الساعات التي سبقت اقراره، فقال له الحريري: "انا اعرف لبنان اكثر منك".
وربما يكون نجله سعد قال كلاماً مماثلاً لشيراك الثلثاء الفائت عندما حضه على المضي في انتخاب رئيس للمجلس غير رئيسه الحالي.