ارشيف من : 2005-2008
من اوراق الجرائد اللبنانية

صحيفة السفير:
تحت عنوان :احتقان عوني وأسئلة حول شكل وحجم التصويت الشيعي في بعبدا عاليه
"حزب الله"..كيف ينتج القرار الانتخابي وكيف يعمم؟
كتب إبراهيم الأمين
"أتيت لأشكر الرفاق في حزب الله على الدعم الاستراتيجي في إنجاح لائحة وحدة الجبل ونؤكد لهم ان شعارنا كان وسيبقى حماية المقاومة في كل أبعادها السياسية والعسكرية".
"إن التحالف الذي فاز في بعبدا عاليه هو تحالف مركب، ونحن نعرف من فاز ومن خسر. و"حزب الله" خسر استراتيجيا ولو ربح نائبا".
بين الموقفين، ثمة مسافة كبيرة بالسياسة والتقديرات والتوقعات والأصوات أيضا. الأول لوليد جنبلاط الذي عليه واجب شكر السيد حسن نصر الله الذي تولى، وشخصيا وللمرة الأولى منذ وقت طويل، إدارة أوسع عملية تعبئة في صفوف الشيعة انتهت إلى تصويت مفاجئ بكميته وبنوعيته وباتجاهاته وبالتالي بنتائجه. ولولا النفير الذي أطلقه نصرالله في الجنوب والضاحية والبقاع وفي داخل الحزب نفسه، لربما كانت الأمور مختلفة. وهذا لا يعني اننا أمام مشكلة انضباطية بل نحن أمام مشكلة مواءمة القواعد والجمهور مع عناصر المتغيرات الكبيرة والسريعة الجارية في لبنان وحوله. وبالتالي فإنه ليس من فراغ القول إن نصرالله أهدى جنبلاط وحلفاءه عشرة نواب في لحظة الحرج الشديد.
أما التصريح الثاني فهو للعماد ميشال عون، الذي أقدم على سابقة هي الأولى من نوعها بين الناخبين الكبار والأقوياء. لناحية أن يفرض على الحلفاء كما على المناصرين والمحازبين، فكرة إفساح المجال أمام تمثيل أكثر ديموقراطية، من خلال عملية ترك مقاعد شاغرة في دوائر له فيها ما له وما أظهرته الانتخابات. ولكن كلام عون يعبر ضمنا، عن موقف في حال نمو داخله وداخل تياره من القوى الأخرى. والتهكم الذي أضفاه عون على تعليقاته أو ردوده على بعض خصومه من جنبلاط وأقطاب "قرنة شهوان" لم يكن له مكانه هنا. فلا الموقع يتحمل مثل هذه اللغة، ولا هناك أصلا سجال بين الطرفين يتطلب توترا أو حدة أو خلاف ذلك. ثم إن عون الذي يفترض التعامل بجدية مع ما يقول، دون الأخذ به بالضرورة، قال معبرا عن أشياء حقيقية، ولكن بدرجة اخف من حالة جمهوره المحتقن الآن ضد "حزب الله"، محملا الأخير مسؤولية خسارة مرشحي الجنرال في بعبدا لمواقعهم، وعون في هذا المكان يحاكي العقل البارد في "حزب الله" وليس العقل المستنفر في لحظة الانتخابات او في لحظة فرز النتائج او في يوم تقبل التهاني.
واحتجاج عون الضمني يمثل حالة تضامن مع بعض الحلفاء الذين كانوا معه في المعركة. مثل طلال ارسلان المحتد غضباً على ما يسميه "نكث" قائد "حزب الله" بوعده له بأن الحزب سوف يترك للمناصرين ولبعض الحزبيين حق التصويت له. علما ان من هو قريب من نصرالله ينفي حصول هذا الأمر ويشير الى ان الأخير حاول جاهداً مع جنبلاط ومع آخرين لأجل ترك مقعد درزي شاغر لأرسلان. وأنه لم يكن قد وعد أحدا بأي شيء، وان موقفه النهائي جاء في الاحتفال الذي أعلن فيه مصالحة الحزب مع تيارات سياسية مسيحية لطالما كانت خصما بسبب علاقتها السابقة مع إسرائيل، ومواقفها المعارضة لخط الحزب الاستراتيجي.
كما ان عون كان قد ترك مقعدا شاغرا في لائحته، وهو امر برره عون لجماعته بأنه احترام لشريحة شعبية وسياسية كبيرة اسمها "حزب الله"، كذلك لكون عون ينظر الى الحزب كحليف محتمل في المسائل الداخلية، وهو الامر الذي قد لا يبرر بهذه الطريقة من المقلب الاخر حيث هناك من يعتقد ان عون لم يكن قادرا على ملء المقعد لأسباب انتخابية بحتة. وانه كان يحتاج الى تصويت شيعي للائحته لا يلزمه بتحالفات سياسية متكاملة، وأن الأمر تم من خلال عملية تبادل جرت. علما ان أقلام الاقتراع تشير الى انه وفي بعض الأوساط المسيحية المحسوبة على التيار العوني خرج من صوت لمصلحة مرشح الحزب علي عمار الذي حاز أعلى نسبة من الأصوات. علما ان عمار كان قد حصل على كمية من أصوات الحزب القومي والشيوعي والارسلاني، وبعض محازبي شخصيات كانت على لائحة عون.
وردة فعل العونيين على نتيجة واتجاه التصويت الشيعي تبدو في غاية الحنق. وثمة اسئلة متلاحقة بعضها يقول: كيف يتخذ "حزب الله" قرارا بإعدام الترشيح العوني، وكيف يتحول القواتيون والكتائبيون في لحظة واحدة الى حلفاء والى قوة لا طائفية سوف تحصن المقاومة بينما صار شكيب قرطباوي وبيار دكاش وحكمت ديب أعداء للمقاومة وللحالة الوطنية في البلاد؟ وكيف يتم مسامحة المتحدثين عن الحالة الغنمية وعن النوعية والتصويت لهم مقابل شطب حلفاء الأمس في ساحة رياض الصلح ويتم إعدام طلال ارسلان بهذه الطريقة؟ وما هو سبب التجييش الذي قامت به ماكينة الحزب منذ الصباح الباكر في كل احياء وبلدات ساحل المتن الجنوبي تحريضا ضد العماد عون ولائحته والتنبيه الى ضرورة التصويت للآخرين دون أي سؤال؟ وكيف يتجاهل "حزب الله" رأي اكثر من تسعين في المئة من ناخبي حارة حريك الذين صوتوا للائحة العماد عون، ويمنح الاصوات للخصوم ويفتح الباب امام احتقان يفترض ان تجربة الانتخابات البلدية قد تجاوزته في هذه المنطقة؟ وهل يفترض "حزب الله" انه في حال واجه ازمة في المرحلة المقبلة، ان هذا الجمهور المحبط منه، سوف ينزل الى الشارع للانتفاض الى جانبه، بينما لم يحظ هذا الفريق بأي التفاتة من جانب جمهور الحزب الذي تصرف وكانه امام التصويت الاخير؟
على أي حال، فقد حاول نائب الأمين العام ل"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم تهدئة الأمور قليلا في مؤتمره الصحافي أمس. وثمة كلام واضح في الأوساط القيادية في الحزب عن برنامج عمل وتحرك يهدف الى إعادة وصل الجسور السياسية التي شهدت إقفالا او قطعا خلال المرحلة الانتخابية. وهو أمر يشمل عون وأرسلان بشكل رئيسي. على ان المتتبعين للأمور لا يعتقدون أن هذه الخطوة كافية وان من اهتم كثيرا وجديا بمنع الاصطدام بالتيار الدرزي ومن خلفه تيار المستقبل وفتح الباب أمام مصالحة قد تكون مؤقتة مع افرقاء مثل "القوات اللبنانية" والرئيس امين الجميل، كان عليه أن يهتم أكثر بالكتلة الشعبية المسيحية الأوسع في المنطقة. وهو أمر لم يحصل أصلا، بل على العكس، فإن الحزب خرج من هذه المعركة بالتباسات وأزمة ثقة غير قليلة التعقيد مع محيطه الأضيق والأقرب والمتمثل بمداخل الضاحية والشعبية والجغرافية السياسية. وهذا يتمثل في تجاهله للقوة الانتخابية الأقوى في الوسط المسيحي، وهو أمر له انعكاساته اللاحقة.
الأمر الآخر يتصل بعمل ماكينة الحزب نفسها. إذ أن هذه القوة الجبارة التي تعتمد بقوة على الالتزام العقائدي وعلى الانضباط التنظيمي، اضطرت للاستعانة بحملة التعبئة في حدها الأقصى، والمتمثلة باستعارة هيبة ونفوذ قائدها السيد نصرالله الذي بات الآن في موقع لم يسبقه إليه احد في الطائفة الشيعية، خصوصا انه محل احترام حقيقي ومهابة حقيقية عند الآخرين من الأصدقاء والخصوم على حد سواء. ومجرد لجوء الحزب إلى هذا الأمر يعكس مشكلة من نوع مختلف ربما لا تعيشها القوى الأخرى خصوصا تلك ذات التمثيل الطائفي الموسع، فوليد جنبلاط لا يحتاج الى آلية تنظيمية لتبرير او لتمرير توجه سياسي او قرار معين، وهو حال "القوات اللبنانية" وجماعة الرئيس امين الجميل، ولكن علامة الاستفهام التي برزت على وجوه قواعد وجمهور "حزب الله" وهو يستمع الى مفاجآت "السيد" في الضاحية تعكس خللا يحتاج الى تدارك، وهو يتصل بآلية انتاج القرار وآلية تنفيذه، وهو ما دفع بحزبيين ومناصرين الى الاعتذار مسبقا او لاحقا من شخصيات مثل بيار دكاش وغيره.
وربما كان المؤتمر الاخير للحزب لم يلتفت بقوة الى هذه النقطة، حيث بقي الكادر الوسطي في الحزب رهن ماكينة لا تلائم تطور الحزب وتعاظم حجمه التنظيمي والشعبي والسياسي. وهي حال احزاب مشابهة من حيث البنية التنظيمية التي لم تجد سبيلا لتوسيع الاطار القيادي في الحزب، وجعله يتمدد نزولا وليس صعودا، كما ان الامر لا يتعلق بمداورة بين اسماء وأشخاص طالما الآلية المصدرة للقرار هي هي. وهو الامر الذي يعطل فاعلية الهيئات القيادية الوسطى وما دون، وهو الامر الذي يجعل شخصية كبيرة مثل السيد نصرالله مضطرة للقيام بواجبات الاخرين. وفي اللحظة التي يصبح الجمهور مربكا بطريقة تجعله يصوت ليس خلافا لقناعاته، بل خلافا لما هو كامن في العقل المضمر الذي لا يمكن القول انه اقرب الى مرشحي لائحة جنبلاط من مرشحي لائحة عون.
يروي مختار في برج البراجنة انه وقرابة منتصف ليلة الاحد الاثنين الماضية، وفيما كان علي عمار وباسم السبع ينتظران نتائج فرز الاقلام، ويتناوبان على اطلاع قيادة الحزب وجنبلاط، كان حشد من الشباب والاهالي يقفون ينتظرون اشارة للبدء بالاحتفال، وظهر بعض القلق ازاء احتمال حصول اخترقات من جانب لائحة عون تطيح بمرشحين مسيحيين على لائحة جنبلاط، الى ان خرج من بين المتحمسين من قال: كلهم مثل بعضهم، قلتم لنا ان "القوات" والكتائب صاروا معنا، وان مرشحي عون ليسوا خصومنا، فليس مهماً من يربح ومن يخسر منهم، دعونا نحتفل ثم ارتفعت الصيحات ابتهاجا بالفوز.!
صحيفة السفير
تحت عنوان : تعبيد طريق "حزب الله"... إلى بيروت ، كتب أحمد جابر :
على غرار ما يقوله الشعراء، تقدم السيد حسن نصر الله الى الوراء. من بنت جبيل الى الضاحية فبعلبك صعد الأمين العام لحزب الله "الى تحت"، ودائما... على سبيل الاستعارة من الشعراء الذين "لا يتبعهم الغاوون فقط" وإنما المفتونون بشاعريتهم ايضا.
"الوراء والتحت" هما الداخل اللبناني. الاتجاهان إذا أخذا على مرجعيتهما السياسية، يدلان على تقدم سياسي في مسيرة "حزب الله" بنظارتي القراءة السياسية الواقعية، وليس بنظارتي الافتتان الشعري المتخيل. مرجع النقاش وفائدته، يكمنان في معاينة ملامح العودة الجديدة الى الداخل، أو النظرة المتجددة اليه من قبل "حزب الله"، ذلك ان "الحزب" لم يغادر الداخل إطلاقاً، بل أقام فيه إقامة راسخة، جعلت ذهابه وإيابه من الحدود واليها، عمليتي انتقال آمنتين دائما. كان "انفصال الحزب" عن الداخل شكل اتصاله الأوثق به، وكان تحويم طيف "الحزب" مفرق الاجتماع اللبناني طريقته المثلى للحلول فيه. ما هو في طريقه الى التبدل الآن، هو قواعد وأسلوب ارتباط "حزب الله" بالداخل اللبناني بعد أن تبدلت المعطيات وتغيرت حسب تعبير السيد حسن نصر الله، هذا التبدل بات "إجبارياً" ولا فكاك من أحكامه، خاصة اذا ظل هاجس القراءة السياسية، ولمح خطاب المصالح الذي يعبر عنه، ثقل وجود "حزب الله" المادي والمعنوي والسياسي. استشعار ضرورة التبدل، ميزة اخرى من ميزات الواقعية السياسية التي تضاف الى أقطاب "الشيعية السياسية" عموماً، وهذا مما يجدر تشجيعه، والحث عليه، من طريق فتح أبواب الحوار، ومن سبل الاشتقاق السياسي المختلفة، الصعبة حالياً، لكن غير المتعذرة، اذا أريد للحراك الطوائفي العام أن يظل ضمن خطوطه "المتوافق على احترامها"، واذا أريد للاصطفاف والفرز الحاليين أن يباشرا رحلة اختراق متبادلة جديدة، تؤسس "لعقد وطني طوائفي" ما... جديد؟! فحص بعض شعارات رحلة "إعادة التمركز" التي باشرها حزب الله، لا ينجو من خلاف، ولا يفلت من ضرورات سجال، وهو (الفحص) مفتوح بالتأكيد على خلاصات أولية موحية.
تحتل المقاومة وسلاحها العنوان الاول في خطاب السيد حسن نصر الله، وهذا أمر بديهي، فالمقاومة قاعدة الانطلاق، وسلاحها ساحة سجالات المتبادلة واستهدافها، حسب الامين العام، يهز حصانة الوطن ويعرّض مصيره كما استقراره لأفدح الاخطار... الخ. لنقل ان لا جدال في حقيقة التلاعب الاميركي بمصير الوطن اللبناني وبمصائر الاوطان العربية الاخرى، مثلما لا جدال في حقيقة الخطر الاسرائيلي المدعوم بالقوة الاميركية الحاسمة، والنافذ بعجزنا الكاسح... لذلك، وخارج هاتين الحقيقتين، يفتح النقاش حول عوامل المناعة والحصانة، للوضع اللبناني، حول كيفية درء الاخطار عن حاضر اللبنانيين وعن مستقبلهم، وحول أساليب إدارة المواجهة الوطنية، ومرجعياتها الرسمية والاهلية العامة. واضح في هذا المجال أن الدخول من بوابة سلاح المقاومة ليس اختياراً مناسباً، وأن الثبات عند مقولة حراسة الحدود اللبنانية، وفق أسلوب قتالي بعينه، ليس نموذجاً ملائماً باستمرار، ناهيك ان الامرين كفّا عن أن يكونا موضع إجماع لبناني، لأسباب أشبعت شرحاً، أهمها النظرة الى أوزان "الكتل الاهلية" الداخلية وعناصر استقوائها، والرأي في موقع لبنان ضمن خريطة الصراع العربي الصهيوني، وحصة "الوطن الصغير" من أعباء المواجهة، التي لا تخرج على السقف العربي العام، تجاوزاً، ولا تخرج منه، انكفاءً... لطالما قيل ان في الحالتين خروجاً على بعض من أساسيات التوازن الداخلي اللبناني، وبالتالي مدخلاً الى زعزعة استقراره.
من الصحيح التوقف عن طرح سؤال: ما الذي يحمي لبنان اذا سحب سلاح مقاومته؟ ومن المفيد التأسيس لسؤال: كيف يُحمى لبنان من الاخطار المحدقة به؟ هذا معنى أن يذهب السيد حسن نصر الله الى القول "ان المسألة ليست مسألة سلاح، بل مسألة المقاومة بفكرها وثقافتها ومشروعها وإرادتها...". نعم المسألة هنا، لذلك فما هو موضوع التداول، هو كل تاريخ مقاومة اللبنانيين للأحلاف الاستعمارية وللاختراقات والاجتياحات الصهيونية. ولمحاولات تبديل الهوية اللبنانية، انطلاقاً من "فسيفساء" التشكيلة الاجتماعية المحلية، ولاستعمال البلد تكراراً، كمسرح لحروب بديلة، عندما كانت المواجهات النظامية الاقليمية ممنوعة أو ممتنعة... الخ. الدفاع عن تاريخ المقاومة، أي عن كل الخيار اللبناني، الآخر والمختلف، الذي مثلته هو شأن كل أولئك الذين انخرطوا فيه، ووصول مقاليد الخيار الى فئة لبنانية بعينها، لا تلغي مساهمات كل الذين تضافروا على صنعه، على امتداد عقود طويلة من السنين.
كيف يكون الدفاع عن هذا التاريخ الخيار؟ هذا مدار بحث. كيف يمنع الانقلاب عليه لتفادي شطبه من مسيرة التاريخ اللبناني؟ هذا موضع مبادرة وسجال؟ ما الضمانات لكل أصحاب هذا الخيار وأهله على اختلاف أوضاعهم الآن؟ هذا أمر ميثاقي آخر، ينبغي أن يكون في صلب المعادلة اللبنانية الجديدة التي قد تكون في طريقها الى التكون.
اذا أحسنت الاجابات اللبنانية عن أسئلة تحصين الوضع الداخلي، تتراجع مسألة سلاح المقاومة، فلا تظل عقدة البحث المستعصية، مرد ذلك الى ان الاشكال في السلاح ليس اقتناءه بل كيفية استعماله، والمرجعية الآمرة بالاقدام على هذا الاستعمال. إحاطة السلاح بمرجعية وطنية اخرى، من ضمنها حزب الله، قد تقنن استخدامه حتى... التخلي عن الحاجة الى هذا الاستخدام. يعود الامر "للمرجعية الوطنية" ذاتها، لتصير حاكمة السلاح وضابطته بما يتوافق مع الحصانة الوطنية اللبنانية العامة. هنا لا يصير صعباً الاستنتاج ان الامر كله سينتقل الى الخوض في مسائل "المرجعية" هذه، وفي مسائل تصليب الوضع الداخلي، وفي قضايا المصالح العليا للبنان... للوهلة الاولى، لا مفر من القول ان لا هيئة سوى "الدولة" تشكل مرجعية المرجعيات، لذلك، يعود "الأمل" لينعقد على قيامها، ويعود العمل ليتجه الى المساهمة في "تشييد" بنيانها... في هذا السياق بدا السيد حسن نصر الله، من بعلبك "الطرفية"، ملتقطاً لإشارة "المرجعية" ومعطياً "الامر" بالاتجاه الى مركزها... الى بيروت العاصمة، وإلا فما معنى قوله "اننا في حزب الله سنتحمل مسؤوليتنا كاملة في شراكة لبنانية كاملة، في إعادة بناء لبنان ومؤسساته ومواجهة كل مشكلاته من أبسط المسائل الصغيرة الى المسائل الكبيرة". الاستعداد للاندراج ضمن "البنية اللبنانية" ومسارب محاصصاتها، يشكل "ضمانة وجودية" سياسية لكل الطوائف، اذا لا يمكن إلغاء طائفة بعينها، لكن بالامكان دائما إثارة مشاجرة حول دورها المتضخم، مثلما حصل ويحصل مع الشيعية السياسية، مثلما تثار "حملة مطلبية" حول الانتقاص من وزن الدور، مثلما حصل (ولما يستدرك بعد) مع المارونية السياسية. ولا بأس في المجالين الطائفيين هذين، من رفع راية كتابة سياسية اسمها المقاومة، أو رفع تورية سياسية اسمها الاستقلال، طالما ان الطوائف تفهم وتتفهم دواعي وحدود ومقتضيات مناكفاتها!
على سبيل استكمال مقومات "العودة" الى الداخل، توسل السيد حسن نصر الله، شعار ال10452 كلم2 كواحد من شعارات المصالحة الداخلية. من المعروف ان "المساحة" تلك، كانت عزيزة على "قلب بشير الجميل" الرئيس اللبناني إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وكان لها مدلولها الخاص، في صراعه مع فرقاء آخرين من أطراف الحرب الاهلية اللبنانية. تُفهم الدعوة التي أطلقها "الأمين العام" الى المصالحة، فنسيان الماضي مطلوب، وتجاوز الموروثات اللبنانية العنفية مقصود لذاته... يبقى سؤال: ما السبيل الى ذلك؟ تذكير يؤسس للنسيان. أي لمباشرة المستقبل. لقد ترادف شعار ال10452 كلم2 مع معنى "تحرير لبنان من الغرباء" الذين كانوا كل من قاتل العدو الاسرائيلي، وتصدوا لخطته في شقها الفلسطيني وفي أبعادها اللبنانية والعربية. كان مناهضو ال10452 كلم2 كشعار، هم المصرين على حرية ملايين الكيلومترات العربية. نعتقد الآن ان المصالحة يجب أن تقوم بين "أبناء المساحات" المختلفة، الذين تقاتلوا على معناها، يوم لم يكن حزب الله مولوداً بعد. لقد قدم "العروبيون" بعضاً من نصوص مصالحة تمثلت في مراجعات سياسية مختلفة، قليلة لكنها ذات دلالة، مثلما قدم "الوطنيون العروبيون" ممارسات مصالحة كثيرة، يعيش اللبنانيون مشاهد منها اليوم... الغائب كان وما زال (إلا ما ندر) نص مصالحة "الاستقلاليين اللبنانويين" الذين لم يقدم غالبهم الى اليوم سوى معاهدة شهيد ال10452 كلم بالسير على خطاه!! جدير بنا أن نعلم اذا كان ثمة خطى قد حذفت وكيف؟ مثلما من الجدي جداً أن يعلن باقي الخطى التي يجب ترسمها؟ وهل ثقافة المقاومة ودورها وتاريخها من ضمنها؟ باستطاعة "السيد" العابر للمساحات، والعائد الى فسحته الداخلية، ان يكون "بتفسيره" الذي أعطاه ل10452 كلم2 واسطة عقد مصالحة بين إعلانين تصادما بوضوح، وهما ملتقيان اليوم على "زغل" تبدل الموازين. هكذا يقوم السيد بتوضيح مصالحة، أو يقدم تطميناً للبنانيين كثر ما زالوا يخافون جدا من تقلبات الطوائف عند تبدل الدول والحكام!!
(*) كاتب لبناني
صحيفة النهار:
تحت عنوان : معارك الرئاسات... والرئاسة اللبنانية
كتب غسان تويني
هل تكون الانتخابات النيابية في الشمال آخر معارك اختيار "النواب التأسيسيين" لمرحلة ما بعد 14 آذار واستعادة لبنان سيادته... ام يكون الشمال الجولة الاولى المعلنة في "انتخابات" رئاسة الجمهورية، نظراً الى التصريحات "الاسترآسية" غير المرتقبة التي انطلقت من إعلان الرئيس لحود تمسكه بمنصبه وعدم استعداده للمساهمة سلميا في تقصير ولايته المطعون في شرعيتها ... وصولاً الى اعلان العماد عون استعداده للترشح، انما على اساسي اجماعي؟
قبل الخوض في هذه الاسئلة وولوج أبوابها – ولن ندخل الآن من اي باب، او نافذة – نرى ان الوضع من حولنا، في الشرق الاوسط، موسّعاً كان أم مضيّقاً، يدعونا الى الاعتبار بالقول المأثور: "عند تغيّر الدول احفظ رأسك".
وكي نحفظ رأس لبنان، اي رئاسته المقبلة، يجب ان ننتظر حتى نقرأ نتائج المعارك المتكاثرة من حولنا:
على ماذا ستستقر الاوضاع السورية نتيجة القرارات المبهمة انما التي اتخذت، ولا شك، في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث؟
ماذا بعد مبادرة إمارة قطر، التي دخلت مرحلة الملكية الدستورية قبل ايام، وكانت باكورة اطلالاتها الدولية استضافة اضخم مؤتمر دولي غربي معنيّ بإنماء "الجنوب" المتأخر، واذا بقطر تعرض مساهمة في الجهد الانمائي لمكافحة الفقر لا بد ان تحاول مجاراتها في الاتجاه ذاته دول عربية ثرية ومتخلفة اخرى، فتشتري هكذا مكانا لها وأمانا في النظام العالمي الذي يتكوّن ولا سلطة للعرب على مساره؟
ما هي أوجه الشبه والفرق بين الانتخابات الرئاسية في ايران (ذات التأثير الكبير على تطور الوضع في العراق كما في لبنان) والانتخابات المصرية حيث المعارضة تستقوي بالمبادرات اللبنانية لتعود الرئاسة المصرية العتيدة (متكررة كانت أم جديدة) ترتد صوب لبنان وسوريا باحثة عن بعث دورها الذي ركد فترة لكن معالمه لا تزال كمؤثراته كامنة تنتظر اشارة التحرك؟
اي دور اقليمي تهيئ تركيا اردوغان نفسها له، وهي التي يزور لبنان رئيس وزرائها بينما يطل هانتنغتون من مؤتمر في اسطنبول بالذات (وهو صاحب نظرية صراع الحضارات المشؤومة) ليحذر من محاولة الاسترسال في العلمانية تقرّباً من اوروبا تعيش بدورها رجعة الى الديانيات النهضوية، شأن اميركا كذلك؟
الى اي حد يمكن الامم المتحدة، المتزايدة الشكوك في قدراتها العملية، ان تستمر في دور رعاية الدول "الخسعة" شأن لبنان وحماية اختباراتها الديمقراطية، متوسلة الدول الكبرى المتفقة على ذلك وصناديق التمويل الدولية للتنمية المستدامة التي من دونها لا ديمقراطية، ولا تمويل منها، الا اذا قامت أنظمة ديمقراطية ذات صدقية اقتصادية وادارية وعدلية؟
***
من زاوية هذه التساؤلات، كم تبدو ساذجة، حتى لا نقول سخيفة، الاصطفافات الانتخابية في معركة الشمال، فضلاً عن المناظرات "الماضوية"... الا اذا صدقت النظريات التآمرية التي تقول ان "وراء الاكمة ما وراءها"، وان الاسياد الذين يتحركون في الشمال، وفي اتجاهه، انما يتحركون على وقع موسيقى من تأليف وتلحين "الآخرين" إياهم الذين عادت الساحة اللبنانية تستهويهم.
شيء واحد يدعو اللبنانيين الى الاطمئنان هو انه ليس ثمة اموال دولية ولا اقليمية مرصدة لتسليح هؤلاء او اولئك... بل الاموال المرصدة مخصصة لسقي ورود السلام في الربيع الديمقراطي، اي لتنمية المجتمع لا احزابه التي تسلك كلها طريق الانقراض، ولا لاثراء الزعامات التي تتسابق في اتهام بعضها البعض بالفساد... ولا احد يتكرم على الشعب بعد بعهد اصلاحي يقترن بوسائل وادوات موثوق بها للانماء وبناء المؤسسات.
وخير ما يمكن ان ندعو الى الطموح اليه هو ان يتفتق مجلس النواب الذي يكتمل انتخابه بعد ايام عن مجموعة اصلاحية صادقة اللهجة لا يوحي تصرفها وخطابها بانها بمثابة مشروع انقلاب ولو من دون عسكر... منظور!
نريد رئاسة للسلام، تساير التطور الانساني من حولنا... لا وراثة للحروب "الغابرة" فقد شبعنا موتا من اجل... لا شيء!
صحيفة النهار:
تحت عنوان: إشارتان أميركيتان: لا توزير لـ"حزب اللـه" والقرار 1559 في البيان الوزاري
كتل الطوائف الثلاث بين كلفة التحالف وكلفة الخلاف
كتب نقولا ناصيف:
يتوقع ان ترسم انتخابات دائرتي الشمال الاحد المقبل ملامح التوازن السياسي الذي سيرسو عليه مجلس النواب الجديد، الذي يبدو في ضوء الدورات الثلاث الاولى ان كتلاً ثلاثاً ستتحكم به: الكتلة السنية- الدرزية بزعامة النائبين سعد الحريري ووليد جنبلاط، والكتلة المسيحية بزعامة الرئيس ميشال عون، والكتلة الشيعية بزعامة الرئيس نبيه بري و"حزب الله". وتبعاً للتجاذب الذي ينتظر الكتل الثلاث هذه، فان تعاون اثنتين يرجح كفتهما على الثالثة. وهو مغزى الاستنفار الذي يدفع بالحريري وعون الى خوض انتخابات شرسة في الشمال بغية الخروج منها بانتصار كبير لاحدهما.
فحتى عشية انتخابات 19 حزيران كانت قد تكوّنت الكتل الآتية:
- الحريري وحلفاؤه 23 نائباً: 16 في بيروت، ونائبة في الجنوب، وخمسة نواب في البقاع الغربي، ونائب في زحلة.
- جنبلاط وحلفاؤه في جبل لبنان الجنوبي 18 نائباً.
- عون وحلفاؤه النائبان ميشال المر والياس سكاف وحزب الطاشناق 22 نائباً.
- "امل" و"حزب الله": 29 نائباً في بعلبك والجنوب وبيروت والبقاع الغربي.
- احزاب وشخصيات مستقلة: 8 نواب (جبران تويني، صولانج الجميل، اسعد حردان ومروان فارس للحزب السوري القومي الاجتماعي، وهاشم قاسم لحزب البعث، ونادر سكر لحزب الكتائب، بيار الجميل، اسامة سعد).
بذلك يكون الحريري وجنبلاط وحلفاؤهما قد حصدوا حتى الآن 41 مقعداً، ويعوزهم للامساك بنصاب الاكثرية العادية في المجلس الجديد 24 نائباً هم محور معركتهم في الشمال، مع العلم ان اوساط هذا الفريق تشيع انطباعا ان لائحة الـ28 نائباً فائزة باعضائها جميعاً. في المقابل يخوض عون وحليفاه النائب مخايل ضاهر في الدائرة الاولى والنائب سليمان فرنجيه في الدائرة الثانية معركة اختراق لا معركة انتصار كامل سعياً الى الفوز بثمانية مقاعد حداً ادنى للحؤول دون امساك كتلة واحدة، وتحديداً كتلة الحريري –جنبلاط، بنصاب الغالبية العادية (65 نائباً).
مفاد ذلك ان لبنان مقبل، اكثر من اي وقت مضى، على حكم تديره طوائف ثلاث لا دور لرئيس الجمهورية اميل لحود فيه سوى انه يستمر بسبب كونه محظوظاً لان ولادة مجلس نواب تحكمه كتل ثلاث غير متوافقة على مصيره ستجعل من الصعب اطاحته من منصبه، ولان استمراره في السلطة حتى انتهاء ولايته الممدد لها يتغذى من تناقضات الكتل الثلاث.
على ان ذلك لا يحجب حقائق تنتظر مرحلة ما بعد انتخابات 19 حزيران:
اولاها ان على ثنائية الحريري- جنبلاط ان تتحالف مع ثنائية بري - "حزب الله" او مع عون في حال لم تفز بمعظم مقاعد الشمال، لتتمكن من امتلاك الغالبية العادية وتاليا من تأليف حكومتها.
ثانيتها ان ثنائية الحريري - جنبلاط تبدو في حاجة اكبر الى الثنائية الشيعية منها الى الكتلة المسيحية، لاسباب بعضها يتصل بافتقارها الى التمثيل الشيعي والبعض الاخر وجود نواب مسيحيين في صفوفها الامر الذي يجعل من محاولتها تهميش كتلة عون وحلفائه المسيحيين اقل ضرراً عليها.
ثالثتها ان تحالفها مع الثنائية الشيعية التي يمثلها بري و"حزب الله" يدفعها نحو مجازفة سياسية تتمثل في ان الشيعة شيعتان: واحدة مرفوضة دولياً ومقبولة لبنانياً جزئياً هي "حزب الله" (بسبب تمسكه بسلاحه)، واخرى مقبولة خارجياً ومرفوضة داخلياً جزئياً هي بري (الذي سيواجه اقتراع كتلة عون ضد رئاسته للمجلس الجديد للمرة الرابعة لانه يعتبره جزءاً من الطبقة السياسية التي يحاربها العماد).
وتالياً تكمن المشكلة في ان ثنائية الحريري - جنبلاط ملزمة التحالف مع بري، الرئيس الحالي والمقبل للبرلمان والدخول معه شريكاً في مرحلة السلطة الجديدة. وسيكون عليها كذلك مواجهة عقبتين طارئتين اذ تحدثت معلومات ديبلوماسية واسعة الاطلاع عن اشارتين بالغتي الدلالة – وان غير نهائيتين - من واشنطن وصلتا الى الخارجية اللبنانية عبر السفارة في العاصمة الاميركية قبل اسبوع وسيكون لهما تأثيرهما على المرحلة المقبلة:
- الاشارة الاولى ان الادارة الاميركية تتحفظ عن مشاركة "حزب الله" في حكومة ما بعد الانتخابات، مرفقة بحجة ان مشاركة كهذه ستنعكس سلباً على صورة الحكومة اللبنانية الجديدة حيال الخارج، وربما تركت اثرها على المساعدات المالية الدولية التي ينتظرها لبنان للنهوض باقتصاده بعد اعادة تكوين سلطة لبنانية سيدة ومستقلة عن سوريا وغير خاضعة لتأثيرها.
- الاشارة الثانية ان يتضمن البيان الوزاري لحكومة ما بعد الانتخابات تأكيد لبنان التزامه العلني والصريح تنفيذ ما تبقى من القرار 1559، والمقصود بذلك تحديد مصير سلاح "حزب الله" والمخيمات الفلسطينية.
رابعتها ان محور الجذب في المرحلة المقبلة هو ثنائية الحريري - جنبلاط التي يقتضي ان تقارب تأليف الحكومة الجديدة من الواقع الآتي: ايهما اقل كلفة، التحالف مع الكتلة الشيعية ام المسيحية؟
في واقع الحال ان على هذه الثنائية مناقشة اثمان ثلاثة غير متساوية: كلفة "حزب الله" خارجية هي سلاحه تحت شعار لم يعد جذاباً ولا حتمياً لكل اللبنانيين وهو حماية المقاومة، وكلفة بري وعون داخلية: الاول يريد ان يكون شريكاً كاملاً في السلطة بحكم كونه زعيماً لطائفته ورئيساً للمجلس، والاخر يريد ان يكون شريكاً كاملاً في برنامج حكم شفاف ومحاسبة عن الماضي. وهو يبدو ان الحريري وجنبلاط يرفضان الخوض فيه. من غير ان يتخلى الرئيس السابق للحكومة عن جهره بتأييد القرار 1559على طرف نقيض من الاخرين.
وما لم يختر الحريري وجنبلاط اقصاء عون كلياً، اياً يكن حجم كتلة الائتلاف الذي يقود، فان حكومة ما بعد الانتخابات ستكون معقودة اللواء للرئيس نجيب ميقاتي الذي سيكون عليه اذذاك ادارة توازن قواها الثلاث وان ووجه بشرط ربما بدا له تعجيزياً، اذا حصد الحريري انتصاراً كبيراً في الشمال. اذ سيطالب في هذه الحال له ولحليفه جنبلاط بالنصف زائد واحد من مقاعد الحكومة الجديدة بحجة امتلاكه النصف زائد واحد في مجلس النواب.
ينتظر ذلك كله ما ستتمخض عنه انتخابات الشمال.
صحيفة المستقبل:
حملةُ كرامي على الحريري سوريّة النَفَس ضدّ زعامته السُنيّة المركزيّة..
ووحدَها "الجماعة" إسلامياً أحسنت التقدير
استحضارُ مصطلح "الغرباء" نَزٍقٌ وخطير لكنه مظهرٌ لمأزق "التفليسة"
كتب : نصير الأسعد
لم يعُد الرئيس عمر كرامي يفاجئ أحداً بـ"نزقه" السياسي، ولم يعُد خافياً على أحد الفارق الجوهري بينه وبين شقيقه الرئيس الشهيد رشيد كرامي الذي كان يهدأ أكثر في الأزمات ويحسب خطواته متسلّحاً بـ"برودة الأعصاب" من ناحية وبقدرة عالية على قراءة التناقضات وبكونه رجلَ دولة بكلّ معنى الكلمة وبصفته "ابنَ بلد" يعرف نسيجه بالعمق، بينما شقيقه عمر يتّخذ مواقفه على "الصدمة".
بيدَ أن "الأفندي" كان في نزَقه أول من أمس خطيراً إذ وصف سعد الحريري نجل الرئيس الشهيد رفيق الحريري بأنه "غريب" في طرابلس، وتحدّث عن محاولة هذا "الغريب" فرضَ إرادته على الشماليين. والخطورة هي أن مصطلح "الغريب" الذي شاعَ في البلاد عشيّة الحرب الأهلية وأثناءها، وكان يستخدمُ من قِبل بعض الفرقاء السياسيين للإشارة الى الفلسطينيين تارة وإلى السوريين تارةً أخرى، إنما كانَ مصطلح حرب أهلية ولم يعُد اللبنانيون يسمعون به منذ أن انتهت الحرب، خصوصاً في حديثهم عن بعضهم.
لكن كرامي ـ وهو النزِق دائماً ـ قد لا يكون واعياً لخطورة المصطلح الذي استخدمه، تماماً لأنه استخدمَه للتحريض على سعد الحريري في محاولة لتأليب الرأي العام الطرابلسي ضدّه. ولذلك يقتضي بدايةً أن يتمّ توضيحُ عدد من الأمور الرئيسية:
"تيّار المستقبل" والنسيج الشمالي
أولاً ـ يرثُ سعد الحريري عن والده الرئيس الشهيد "تيّار المستقبل" الذي يمثّل تيّاراً نشأ في مواكبة المشروع الذي حمله الرئيس الحريري منذ ما بعدَ الطائف الذي كانَ الشهيد ركناً أساسياً في بنائه. وقد امتدّ هذا "التيّار" في حياة الرئيس الى المناطق اللبنانية كافة، وإن كانَ تركّزه الأساسي تمّ في البيئة السنّية.
ثانياً ـ وعندما يذهب سعد الحريري الى طرابلس أو عكّار أو صيدا أو إقليم الخرّوب أو غيرها، فإنه يذهب بوصفه قائداً لتيّار سياسي ذي امتدادات واسعة، ويذهبُ الى حيث ثمّة مناصرون لهذا التيّار في هذه المناطق. فـ"تيّار المستقبل" في الشمال مثلاً يضمّ قادة رأي شماليين ويضمّ أبناء عائلات شمالية وفاعليات شمالية وجماهير شمالية. فعندما يذهب سعد الى الشمال إذاً إنما يدخل الى هذه المنطقة من بوّابتها العريضة وليس "خارجياً" عليها. وإذا شاء "الأفندي" الاعتراض، فإنه إنّما يعترض على تشكّل حديث للواقع في هذه المنطقة أو غيرها، وهذا الأمر ليس مستغرباً ممّن لا يزال في "الماضي".
الزعامة.. والسُنّية.. واللبنانية
ثالثاً ـ والحقيقة أن سعد يرثُ عن والده الشهيد ما هو أكثر مِن "تيّار". إنه يرث زعامة على مستوى لبنان، وإن كان الرئيس الحريري مثّل عملياً الزعامة السنّية بعد الطائف، لا بل يعتبر المتابعون لـ"التاريخ" اللبناني أن سُنّية رفيق الحريري عَنَت لبنانيّته. وأكثر من ذلك، فإن الحريري "صار" لبنانياً عندما "وعى" سُنّيته، أو أن هذه السُنّية كانت الممرّ الى اللبنانية التي جعلته لا يرفضُ الطوائف الأخرى ويتعاطى معها بمعطياتها وخصوصياتها.
لم يختصر رفيق الحريري التمثيل السُنّي ولا سعى إليه، و"ضحايا" صعودِه إنما كانوا في واقع الأمر ضحايا للتعاطي السوري معه ومعهم. غير أن ما فاتَ الكثيرين هو التعامل مع "جديد" في البيئة السُنّية بعدَ الحرب، وهذا الجديد هو قيام "زعامة مركزية" للسُنّة جسّدها الحريري، وهي زعامة مركزية لم تكن قائمة قبل الحرب حيث كانت الزعامة بمثابة "فيديرالية زعماء مناطق". وهذا الأمر جزءٌ من قراءة بنيويّة موضوعية للوضع اللبناني بعد الطائف، وهي قراءةٌ يجب أن تشمل جميع أبعاد هذا الوضع.
"العقدة" السورية مع الحريري
رابعاً ـ ولأن السُنّة في لبنان يمثّلون لاعتبارات عدّة تاريخية "لُحمة" اللبننة والوحدة الوطنية، ولأن رفيق الحريري مثّل الزعامة السُنّية المركزيّة المنفتحة باتجاه اللبنانية، خشيَ السوريون مِن الرئيس الشهيد الذي تعرّض منهم للضغوط على أنواعها والتي وصلت أحياناً الى منعه من ترشيح أشخاص من "التيّار" في معظم المناطق، وأحياناً أخرى الى الطلب منه "الانمحاء الذاتي".
سيمضي وقتٌ ربما يكون طويلاً قبل تحديد "العقدة" الرئيسية التي حكمت التعاطي السوري مع الرئيس الشهيد، لكن لا شك أن السوريين خشوا هذه الزعامة السُنّية المركزية ببُعدها الاعتدالي بدليل التشكيلات السُنّية التي أشرفوا على قيامها واللقاءات السُنّية النيابية التي استحضروها، والكلام المتناقض عن مواجهة الأصولية بالتزامن مع مواجهة الحريري.
"الجماعة الإسلامية": الموقف المركّب المعتدل
خامساً ـ ويقتضي الإنصاف الاعتراف لـ"الجماعة الإسلامية" التي وضعها السوريون مرات عدة تحت الضغط، كانت الطرف الوحيد في الساحة السُنّية الذي قرأ جيّداً "ظاهرة الحريري" وقرّر التعاطي معها بموقف "مركّب": الاختلاف من دون الذهاب الى "التصادم" والاتفاق والتحالف من دون إعدام "التمايز". وهذا النهج الذي تسهر عليه قيادة "الجماعة" التي يجب الإقرار أيضاً بأنها نقلت "الجماعة" الى موقع أكثر لبنانية وتلبنناً وإلى موقع أكثر انفتاحاً واعتدالاً، لا شك أنه (النهج) جعل من "الجماعة" الطرف الثاني في المعادلة السُنّية الذي يُنادى عندما يكون الحديث عن الاعتدال ضدّ التطرّف. ولذلك لم يكُن وليد جنبلاط يُناور عندما أشار الى خطأ عدم تمثيل "الجماعة" في التحالفات الانتخابية، ولم يكُن سعد الحريري ينظر الى الجانب الانتخابي وحدَه عندما زار قيادة "الجماعة" أول من أمس، إذ وبصرف النظر عن الانتخابات وتحالفاتها ونتائجها، لا بد من الاعتراف بأن لهذه الحركة السياسية موقعاً مهماً ينبغي التعامل معه بإيجابية.
كرامي وأوجه استخدام مواقفه
إذاً، لكلّ هذه الأسباب والاعتبارات مجتمعة، ليس سعد الحريري غريباً في طرابلس، وللأسباب والاعتبارات نفسها فإن عزف "الأفندي" على وتر "الغرباء" خطيرٌ جداً. أما الأسباب المباشرة لـ"النزق الكرامي" فهي الآتية:
1 ـ مَن نافل القول أن "السوري" الذي عادت بُنيته المخابراتية الى الشمال، والذي يستطيع أن "يُقنع" كرامي بابتلاع مواقفه لا بل بابتلاع ما تعرّض له من مساس بـ"عنفوانه" للترحيب مجدّداً بحليفه اللدود سليمان فرنجية الذي "لخّصه" كرامي يوماً بأنه "يطعن التحالفات والصداقات"، أن "السوري" أعطى "كلمة السر" لكرامي بالهجوم على سعد الحريري.
2 ـ وليس غريباً على مَنْ قال عندما أعلن اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة أنه "جرى استخدامُنا"، وعلى من وعدَ بأن يكشف "القطب المخفيّة" ثم تراجع، أن يقبَل تجديد "استخدامه" في الحملة نفسها التي شكّلت المناخ السياسي لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
3 ـ وليس غريباً على من أساء تقدير الوضع الانتخابي في طرابلس والشمال فقرّر العزوف والمقاطعة ليعود فيكتشف أن ثمّة ظروفاً لـ"معركة"... ليس غريباً على هذا "النرفوز" و"المتوتّر" أن يلعبَ بمنطق "عليَّ وعلى أعدائي يا ربّ"، متصرّفاً ـ مع الأسف ـ وكأنّ لا شيء يخسره.
4 ـ يُصوّر لكرامي باستمرار أنه المرجعية الإسلامية السُنّية الوحيدة التي يُمكنها مواجهة الحريري فيُصدّق ويهجُم، مع أنه "من جرّب المجرّب كان عقله مخرّباً"، ويُفترض به أن يدرك أن مَنْ "يرفعه" عالياً لن يتردّد في دفشه نحو الوادي.. وقد حصل معه ذلك مراراً لا سيما خلال ترؤسه لحكومة مفاعيل التمديد وبعدَ هذه الحكومة.
طبيعة المعركة شمالاً
5 ـ إن الانتخابات في الشمال تدور فعلاً بين تحالف سوري رمزُه سليمان فرنجية على "رافعة" تدخّل كبير اقتضى إعادة الماكينة المخابراتيّة بقضّها وقضيضها من جهة وبين "تيّار المستقبل" وحلفائه المسلمين والمسيحيين الساعين الى ضمّ الشمال سياسياً الى مسيرة استعادة النظام الديموقراطي من جهة أخرى.. ويبدو أن كرامي اختار موقعَه في هذه المعركة الانتخابية "صوتاً" عالياً ولو من دون "أصوات"، فاستقبل وريثَ الحريري الذي لم يكن يرغب في أن يورثه خصوم والده أحقادهم، بالكلام النزق عن "الغرباء"، بينما كان الشمال يعبّر لسعد الحريري عن تعاطف كبير، خصوصاً بعدَ أن كشفَ أن الهدف من جريمة اغتيال والده، أي إغلاق بيت الحريري، لا يزال مستمرّاً.
لا يمكنُ قولُ أكثر من ذلك "الآن" قبل الانتخابات وعلى مسافة ثلاثة أيام فقط منها. غير أن ما لا مفرّ من قولِه ختاماً هو أن حملة كرامي "السورية" على سعد الحريري تفسّر بمفعول رجعيّ الحملات التي تعرّض لها الرئيس الشهيد من كرامي وفرنجية وغيرهما من الذين ساهموا في تشكيل مناخ الاغتيال، وإنها حملةٌ على "الأكثر صحّة" في الحريري: الوحدة الوطنية والشراكة الإسلامية ـ المسيحية مِنْ موقع الزعامة اللبنانية.
صحيفة الشرق:
تحت عناوان : طموحات عون الرئاسية
كتب عوني الكعكي
من الواضح تماماً ان طموحات ميشال عون تفوق كل التصورات، وكل الحدود المقبولة والمعقولة، فهو عاد إلى لبنان حاملاً مشروعه الذي يقضي بالعودة إلى قصر بعبدا، مدعوماً من جهات أصبحت معروفة للقاصي والداني.
... ميشال عون أعلن صراحة انه يرغب في أن يصبح رئيساً للجمهورية، ولا اعتراض على رغباته وتوجهاته وأحلامه لأنها مشكلته أولاً وأخيراً، ولكن أن يقوم بافتعال البلبلة والتجييش الطائفي والمذهبي، والعمل على خلط الأوراق، فهذه مسألة خطيرة للغاية، تتطلب مواجهة، ومعالجة بصورة أو بأخرى.
... ان انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان له متطلباته وامتداداته الدولية والاقليمية، وميشال عون يراهن ـ بلا شك ـ على العامل الأميركي، ونفوذه في المرحلة الحالية، ولكن هذا ليس كافياً على الاطلاق، فمن أبسط الأمور أن يكون المرشح مقبولاً، ويتمتع بأكثرية أعضاء مجلس النواب، وقادراً على استقطاب اجماع وطني حوله، إضافة إلى ضرورة القبول العربي، والموافقة الفرنسية في هذه المرحلة.
... ميشال عون يفتقد الإجماع الوطني حول شخصه، ولن يتمتع بالأكثرية النيابية، ولا يلقى قبولاً عربياً، والفرنسيون لا يبدون حماسة لانتخابه.
... على كل حال، فان اعلان عون لم يكن يستند إلى أي قواعد، وهو أساساً ـ منذ تمترسه في قصر بعبدا قبل نفيه إلى فرنسا، وتسليط مدافعه لتدمير بيروت ـ كان يعيش هذا الحلم، وما عجز عن تحقيقه عسكرياً في تلك الفترة، يعمل الآن على تحقيقه ديموقراطياً، ولكن ليس من شيء يؤكد ان الحلم سيصبح حقيقة، وميشال عون لن تكون له حظوظ في الوصول إلى هذا الموقع.
والمسيحيون لا يزالون يذكرون حروب الالغاء التي شنها ضدهم، والمسلمون لن ينسوا ما فعله بعدما كلفه الرئيس أمين الجميل برئاسة الحكومة العسكرية.
... قد يكون ما قاله هو لمجرد جس النبض، أو للاستهلاك المحلي، أو ان اعلان رغبته في الوصول إلى رئاسة الجمهورية له علاقة بانتخابات الشمال الأحد المقبل، كل هذه الأمور واردة، ولكن مع ذلك فمن الواجب ان تكون هذه الرغبات المعلنة تحذيراً للناخبين في الشمال، كي لا يسمحوا للوائحه بتحقيق أي اختراق، مهما كان صغيراً، وبهذا المعنى فان هذه الانتخابات تكتسب أهميتها القصوى لأنها ستحدد بشكل نهائي حجم القوى والتكتلات، ولا ينتابنا شك في أن اهلنا في الشمال سيقترعون لصالح الوفاق الوطني، ولاستمرار مسيرة البناء والاعمار على خطى الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
صحيفة اللواء:
تحت عنوان : أركان "التحالف الاستراتيجي" أمام المسؤولية الوطنية!
كتب صلاح سلام
الديمقراطية تبقى هي الرابحة، أولاً وأخيراً، مهما كانت نتائج الانتخابات الحامية التي ألهبت أمس الأجواء السياسية، ليس في قرى الجبل والبقاع وحسب، بل في كل المناطق اللبنانية·
ومظاهر الحماس التي رافقت وقائع يوم الانتخابات، وما سبقه من صولات وجولات واتهامات بين قادة اللوائح المتنافسة أعادت الى الأذهان مشاهد المواسم الانتخابية التي عرفها لبنان في الستينيات حتى أواسط السبعينيات من القرن الماضي، والتي كانت تتميز بحدة التنافس بين أبناء الصف الواحد حيناً، وبين أبناء العائلة الواحدة أحياناً كثيرة، يوم كانت اللعبة الديمقراطية تأخذ مجراها، وتتمرد على "التدخلات الخجولة" من أجهزة المكتب الثاني، يومئذٍ، تلك التدخلات التي لم تستطع إيصال مرشحيها دائماً الى الندوة البرلمانية، بسبب محدودية تدخلها الخجول، كما قلنا، من جهة، وبسبب طغيان أجواء الحرية والديمقراطية في تشكيل اللوائح وعقد التحالفات بين أقطاب السياسة بعيداً عن قوالب وضغوطات الأجهزة الأمنية·
وارتفاع ميزان التنافس في دوائر الجبل والبقاعين الغربي والأوسط - انتخابات البقاع الشمالي محسومة لصالح لائحة حزب الله - أضاف الى الانتخابات النيابية الحالية نكهة الديمقراطية الشعبية التي كانت غائبة عن معظم الاستحقاقات النيابية في مرحلة ما بعد الطائف· وخاصة أن التحالفات الحالية تجاوزت انقسامات الحروب الداخلية، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام استيلاد حركة سياسية جديدة بألوان تركيبتها البنيوية، ومجددة بأهدافها الوطنية والسياسية·
حتى عشية وقوع زلزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لم يكن أحد يتصور، حتى من قادة الأحزاب والسياسيين أنفسهم، امكانية تحقيق مثل هذه الخطوات الكبيرة على طريق المصالحة الوطنية الحقيقية، والتشجع على طرح خيارات الالتحام الوطني الجديد على القاعدة الشعبية مباشرة من خلال صندوقة الاقتراع، بكل ما يحمله هذا الطرح من تحديات، وما قد يسفر عنه من مفاجآت!
لم يكن أحد يفكر بامكانية أن تتشابك أيدي الحزب الاشتراكي وتيار المستقبل مع القوات اللبنانية في الشوف، وأن ينضم إليهم حزب الله، ولقاء قرنة شهوان وكتائب أمين الجميل في عاليه وبعبدا، وأن يدعم الجميع لائحة المتن الشمالي ورئيسها نسيب لحود مؤسس لقاء التجدد الديمقراطي، وصولاً الى المشهد نفسه تقريباً في دائرة كسروان - جبيل·
لم يكن أحد يتوقع أن تحضر ستريدا جعجع الى جانب سعد الحريري الى المهرجان الشعبي الحاشد في عكار، ولقاء علماء ومشايخ المنطقة لتكريس المصالحة الفعلية في الضنية وبشري وعكار، رغم كل محاولات إعادة إثارة النعرات، واستحضار ذكريات الحرب السوداء!
غير ان هذا الاقبال الشعبي الكبير على الاقتراع لصالح لوائح المصالحة الوطنية، والذي بدأ من بيروت، وامتد أمس الى الجبل والبقاع· ويصل الأسبوع المقبل الى الشمال، يحمِّل القادة السياسيين ورؤساء الأحزاب والفاعليات المختلفة مسؤولية وطنية تاريخية، لا يجوز الاستهانة بها، ولا حتى التهرب من استحقاقاتها السياسية والوطنية الوشيكة، مهما تعددت المبررات وتنوعت الأعذار!
لقد أقبل الناس على التصويت للوائح المصالحة للتعبير عن تأييدهم الكاسح لكل ما من شأنه طوي صفحة الانقسام والتشرذم والاقتتال، وتأكيداً لشوقهم الكبير لفتح صفحة الوحدة والانصهار، والعودة الى العيش الواحد معاً، وصولاً الى بناء دولة العدالة والمساواة، بعيداً عن أساليب المحسوبية والفساد·
لقد صوّت اللبنانيون في الجبل والبقاع أمس لمصلحة هذا "التحالف السياسي الاستراتيجي" بين القوى السياسية الفاعلة والمؤثِّرة في بيئتها، والممسكة بقرارها الوطني الحر، بهدف تحقيق حلم عزيز على قلب كل لبناني في الوطن وفي المهجر، بإقامة مجتمع الأمن والاستقرار والازدهار وإعادة بناء ما خربته الحروب في نفوس البشر، واستكمال ما كان قد بدأه الرئيس الشهيد في إطلاق مسيرة إعادة إعمار البشر والحجر!
وتصويت اللبنانيين الى جانب "التحالف السياسي والاستراتيجي" القائم بين تيار المستقبل والتقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وكتائب أمين الجميل ولقاء قرنة شهوان ولقاء التجدد الديمقراطي، بالاضافة الى حركة أمل وحزب الله، يعني ان محاولة أي فصيل الخروج من دائرة هذا التحالف، والارتداد الى طروحات الأيام السوداء، ستتحمل قيادته مسؤوليتها الوطنية والتاريخية أمام جماهيرها، وسيدفع القوى الأخرى الى إعادة النظر بعلاقتها السياسية والتحالفية مع الفصيل المرتدِّ على مبادئ الوحدة الوطنية والعيش المشترك!
فضلاً عن أن مثل هذه الخطوة التراجعية ستكشف انتهازية القيادة التي اتخذتها أمام الرأي العام اللبناني، والدولي الذي يتابع تفاصيل الحركة السياسية اللبنانية في هذه المرحلة، على اعتبار ان التحالفات المعقودة أسست لمرحلة سياسية جديدة في الوطن الصغير، ولم تكن مجرد تحالفات انتخابية عابرة ينتهي مفعولها مع إقفال صناديق الاقتراع!
ولعل النظرة السريعة إلى الاستحقاقات المتلاحقة والداهمة التي ستعقب الانتخابات النيابية، تؤكد مدى أهمية الحفاظ على عرى التعاون والتحالف بين أطراف الرابع عشر من آذار، وبين أركان لوائح الوحدة الوطنية الكاسحة في معظم المناطق اللبنانية·
ان المعارك الانتخابية المحتدمة في أكثر من منطقة ليست مجرد معارك أوزان وأحجام وحسب، بقدر ما هي اختبار لقوة كل طرف أو حزب سياسي في بيئته أولاً وفي منطقته ثانياً وثالثاً·
والأطراف القوية في بيئتها هي القادرة على التصدي لتحديات المرحلة المقبلة المحلية والاقليمية، وفي مقدمتها ملف رئاسة الجمهورية، ووضع الأسس اللازمة لحكم متجانس ومنسجم، وصياغة قانون جديد للانتخابات، ووقف ممارسات الهدر والفساد، وترميم العلاقة مع سوريا، والى جانب كل ذلك·· وقبله إيجاد المعالجة المناسبة لسلاح حزب الله وأسلحة المخيمات الفلسطينية، وتسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية في كشف حقيقة جريمة اغتيال رفيق الحريري·
ولأن تجارب الماضي، القريب منها والبعيد، علمتنا ان أحداً لا يستطيع أن يلغي أحداً، وان لا أحد يقدر على التفرد وحده بالقرارات المصيرية، وان لا أحد يستطيع أن يفرض على غيره الخيارات الاستراتيجية التي تمس مصير الوطن ومستقبله، فإن المرحلة المقبلة تفرض على قوى المعارضة التي خاضت الانتخابات في لوائح مشتركة في مختلف المناطق اللبنانية، الاسراع في بلورة برنامج سياسي واضح ومدروس يشكل الاطار الوطني المنشود للحركة السياسية في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، واستعداداً لانتقال قوى المعارضة الى مقاعد السلطة·
وماذا عن التيار العوني والقوى السياسية الأخرى التي عزفت عن خوض الانتخابات أو التي خسرت الجولة الانتخابية الحالية؟
من المفترض أن تدفع نتائج الانتخابات في الجبل العماد ميشال عون الى إعادة النظر بحساباته السياسية من جديد، وخاصة أن العديد من قوى المعارضة مازالت تفسح في المجال لعودة التيار العوني الى الخندق الذي ترعرع جمهوره فيه: خندق المعارضة·
أما في حال استمرار اسلوب المكابرة، ورفض الاعتراف بلغة الأرقام التي ستفرزها صناديق الاقتراع، فالخيار الأوفر أمام العماد عون هو متابعة الطريق مع بقايا السلطة الحالية، والعمل على تشكيل نواة معارضة سياسية لقوى "التحالف الاستراتيجي" التي ستتسلم مقاليد السلطة لانها فازت بأكثرية المقاعد النيابية·
ويبقى الأهم في هذا المجال هو التمسك بالممارسة الديمقراطية النظيفة والشفافة في العمل السياسي، بعيداً عن أساليب إثارة النعرات المناطقية والطائفية والفئوية، وبعيداً عن قصائد الهجاء والتشهير والافتراء التي قد تكون مبررة في المواسم الانتخابية، ولكنها ستكون أكثر ضرراً على أصحابها في الأيام العادية!
ورغم حالة الغضب التي ظهر بها الرئيس اميل لحود على الشاشات الصغيرة بعد الادلاء بصوته في بعبدات، يمكن القول ان أكثر الجولات الانتخابية سخونة، وأكبرها حدة، قد جرت في أجواء ديمقراطية هادئة، يراهن اللبنانيون على استمرار هدوئها بعد إعلان النتائج، ليربح لبنان مع الحكومة الميقاتية رهان النجاح، بعبور الاستحقاق النيابي بسلام وأمان·· رغم الضغوط الاقليمية والدولية المحيطة بالوطن الصغير من كل حدب وصوب!
صحيفة صدى البلد:
تحت عنوان : إنتخابات الجبل رسمت "خريطة الطريق" للعبور الى التوازن المطلوب
إنتخابات الجبل رسمت "خريطة الطريق" للعبور الى التوازن المطلوب
هذا ما حققه "التحالف الثلاثي" في المتن الشمالي
كتب طارق ترشيشي
قد لا تكون هناك حاجة لانتظار ما ستسفر عنه انتخابات الشمال حتى تتم معرفة نتائج الزلزال الذي أحدثته انتخابات جبل لبنان في الواقع السياسي وما تركه من تأثيرات وارتدادات على القوى العاملة على ساحته. لأن الانتخابات الشمالية ستكون مثابة استكمال للمشهد الانتخابي العام، مهما بلغ عدد المقاعد النيابية الذي سيفوز به هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتنافسة فيها.
والنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات في دائرتي المتن الشمالي وكسروان ـ جبيل، تحديداً، أدت الى فرز سياسي حقيقي في الشارع المسيحي تأثرت به فوراً المعارضة بمختلف تلاوينها بعد التصدع أو التفكك الذي أصابها بفعل الطلاق الذي حصل بينها وبين العماد ميشال عون وكاد يصيب منها مقتلاً في انتخابات بعبدا ـــ عاليه بعدما تبين ان وجوده ووجود حلفائه فيه لا يمكن الاستهانة به بدليل ان فارق الأصوات بين الفائزين والخاسرين كان بضعة آلاف فقط. علماً ان الصوت المسيحي أعطى اللائحة العونية أكثرية تعادل 80 في المئة.
وبهذا المعنى يمكن القول ان نتائج انتخابات المتن وكسروان ـ جبيل، معطوفة على "الصوت المسيحي" في نتائج عاليه ـ بعبدا، قد حددت "خريطة الطريق" للعبور الى المرحلة المقبلة، التي ستسودها عملية إعادة تموضع سياسي لمختلف الأطراف على أساس توازن القوى الجديد الذي أنتجته الانتخابات وهو يُظهر ان ما طمحت اليه المعارضة لن يكون تحقيقه سهلاً، لأن الشريك المسيحي فيها تبعثرت قواه لمصلحة صعود زعامة العماد ميشال عون فيما أولويات الشريك المسلم واهتماماته بدأت تتبدل مع تبدل المعطيات المتأتية من نتائج الانتخابات وما يدور حولها من تطورات داخلية وخارجية تتصل بالقرار 1559 في جانب وبالتدخل الدولي في الشأن اللبناني ومستقبله في جانب آخر.
ويقرأ قطب متني كبير في انتخابات دائرة المتن الشمالي التي فاز فيها تحالف نائب رئيس مجلس النواب ميشال المر و"التيار الوطني الحر" و"حزب الطاشناق" نوعين من النتائج، الأول على الصعيد الوطني العام والثاني على الصعيد المتني خصوصاً والمسيحي عموماً.
ويقول هذا القطب ان النتائج التي يمكن استخلاصها من الانتصار الانتخابي في المتن الشمالي على الصعيد السياسي والوطني العام هي الآتية:
أولاًـ وقف ما يسمى "الهجمة الجنبلاطية ـ البريستولية" الهادفة الى "إخضاع المسيحيين" لقرارات رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط وحلفائه في "لقاء البريستول" وخارجه وانحسار نفوذ هؤلاء في الساحة المسيحية الذي كان تعاظم قبل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعده.
ثانياً ـ تأكيد بقاء رئيس الجمهورية العماد اميل لحود في سدة الرئاسة لإكمال ولايته في مواجهة حملة المعارضين الهادفة الى إقالته أو دفعه الى الاستقالة، والتي يرد عليها بإصراره على البقاء في الرئاسة "حتى آخر دقيقة" من ولايته.
ثالثاً ـ التأسيس لإعادة الوجود المسيحي بفعالية الى مؤسسات الدولة ولا سيما منها مجلس النواب والحكومة والإدارات العامة وهو ما سيترجم في المرحلة المقبلة في ضوء تشكيل الحكومة الجديدة وبرنامجها.
رابعاً ـ قطع الطريق على المعارضة لفرض مرشح لرئاسة الجمهورية يخلف الرئيس لحود في سدة الرئاسة ويكون خاضعاً لإرادتها، لأنها بخسارتها المدوية في المتن الشمالي وفي كسروان ـــ جبيل، فقدت القدرة على الإتيان بمثل هذا المرشح.
خامساً ـ إعادة التوازن الى الساحة الداخلية بإعادة الدور المسيحي الى المعادلة السياسية على الصعيد الوطني وذلك من خلال كتلة نيابية وسياسية سيكون لها حضورها الفاعل في الندوة النيابية وخارجها.
سادساً ـ وقف استغلال البعض لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لأهداف سياسية وانتخابية فيما هي قضية وطنية تفرض على الجميع التعاون لكشف الحقيقة فيها لأن الذين استهدفوا هذا الرجل الكبير إنما أرادوا بالبلاد شراً لا يقتصر خطره على فريق دون آخر.
سابعاً ـ وقف التدخل الدولي السافر في الشأن الداخلي اللبناني، ودفع جميع الأطراف الداخلية الى مراجعة حساباتها ومواقفها والاندفاع في اتجاه التزام اتفاق الطائف وتطبيقه نصاً وروحاً بما يقيم التوازن الوطني المطلوب عبر المشاركة الشاملة في القرار الوطني.
ثامناً ـ فتح الباب أمام العماد ميشال عون وتياره وحلفائه لتحقيق انتصار انتخابي في دائرتي محافظة الشمال الأحد المقبل من شأنه ان يكبّر حجمهم ووزنهم في مجلس النواب الجديد تحديداً وفي الساحة السياسية عموماً.
ويفند القطب المتني الكبير نفسه النتائج السياسية للانتصار الانتخابي في المتن الشمالي على مستوى هذه الدائرة الانتخابية بالآتي:
أولاً ـ فوز نائب رئيس مجلس النواب ميشال المر بالنيابة مجدداً من خلال حصوله على نحو 50 ألف صوت وهو الرقم الذي كان ناله في انتخابات العام 2000، ما يعني ان قاعدته الشعبية لم تتأثر بكل المتغيرات السياسية التي شهدتها منطقة المتن خصوصاً والساحة المسيحية عموماً.
ثانياً ـ خسارة النائب نسيب لحود فرصة الوصول الى سدة رئاسة الجمهورية التي كان من المرشحين البارزين لها لدى المعارضة وذلك نتيجة خسارته مقعده النيابي. وقيل في هذا المجال انه تعرض للتشطيب في أقلام متنية عدة في بكفيا حيث مقعد آل الجميل وخارجها، كون التنافس كان على أشده حول المقعد الماروني الرابع الذي أبقي شاغراً في لائحة تحالف المر ـ عون ـ الطاشناق. وقد أدى هذا التشطيب الى فوز النائب بيار أمين الجميل.
ثالثاً ـ إقصاء ما سمي "الشقيق المنافس" أي المرشح كبريال المر شقيق النائب ميشال المر، بفارق أصوات بينهما بلغ عشرين ألف صوت، والذي كانت المعارضة رشحته بهدف اقصاء المر عن الخريطة السياسية في المتن الشمالي والتي يحول وجوده فيها دون اطباقها على هذه المنطقة التي تكتسب أهمية سياسية كبيرة في الوسط المسيحي خصوصاً وعلى الصعيد الوطني عموماً.
رابعاً ـ إقصاء المرشح الأرمني رافي ماديان والقوى التي دعمت ترشيحه الذي أريد منه تشتيت أصوات الناخبين الأرمن أو تقليص حجم التصويت الأرمني للائحة تحالف المر ـ عون ـ الطاشناق باعتبار ان أي مرشح أرمني إضافي من شأنه ان يأخذ حصة من هذه الأصوات. ولكن كانت النتيجة ان هذا التشتت لم يحصل بالقدر الذي طمحت إليه اللوائح المنافسة لهذا التحالف الثلاثي.
على ان نتائج أخرى لانتخابات المتن وكسروان ـ جبيل، يمكن تسجيلها وهي تتمثل في احتفاظ آل الجميل بمقعدهم النيابي وهو ما يعولون عليه في جانب من معركتهم التي يخوضونها تحت لواء "الحركة الإصلاحية الكتائبية" من أجل استعادة "حزب المؤسس" أي حزب الكتائب اللبنانية الى بيت المؤسس الشيخ بيار الجميل، وذلك مع فارق ان هذا المقعد النيابي يفتقد الحلفاء على الساحة المتنية، ولكنه سيكون في عداد كتلة كتائبية تضم حتى الآن النائبين بيار الجميل وانطوان غانم (في بعبدا) مع احتمال ان تنضم إليها النائبة صولانج بشير الجميل.وفي أي حال، فإن الاعتقاد السائد في الوسط السياسي هو ان الوضع المسيحي بعد النتائج التي تمخضت عنها انتخابات جبل لبنان عموماً وفي المتن الشمالي وكسروان ـ جبيل خصوصاً بدأ يشهد تحولاً كبيراً سيتولد في ضوئه محاور قوي افتقدته الحياة السياسية التي افتقد توازنها في غيابه وهي عائدة الى هذا التوازن وشيكاً.