ارشيف من : 2005-2008
آية الله فضل الله: نرفض تحويل لبنان إلى موقع تنصت ورقابة ضد المنطقة
سئل آية الله السيد محمد حسين فضل الله في ندوته الأسبوعية حول "الموقف الإسلامي من التجسس والنظام الأمني"، فأجاب: "حرص الإسلام على سلامة المجتمع واستقراره الداخلي وجريان العلاقات الداخلية فيه، مجرى التقارب والتراحم، وكان من شدة هذا الحرص أن حرم التجسس والاطلاع على خصوصيات الناس والسعي إلى اكتشاف معايبهم أو فضح أسرارهم. ولما كان الظن السيء بالناس هو أحد المداخل التي تجعل الناس يسلكون مسالك التجسس بعضهم على بعض، فإن القرآن الكريم شدد على المؤمنين أن يتجنبوا الكثير من هذا الظن الذي سيقودهم في حال الاستمرار فيه إلى التجسس والوقوع في المعصية وصولا إلى الغيبة: (يا أيها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا). وهكذا تشدد الإسلام في مسألة احترام الحياة الخاصة للناس في بيوتهم أو في علاقاتهم أو في مصالحهم. فلا يجوز للانسان أن "يمد عينيه" إلى بيت جاره أو أن يحاول اكتشاف بعض الأسرار، سواء من خلال استخدام بعض الوسائل الحديثة المقربة للمشهد البعيد، أو من خلال استراق السمع، ونحن نعرف بأن التكنولوجيا الحديثة سهلت الأمر في هذا المجال وباتت وسائل الاستماع للأحاديث سهلة من مسافات بعيدة نسبيا". وقال: "فلقد نهى الإسلام عن ذلك كله، وقال الرسول الأكرم: "لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإن من تتبع عثرات أخيه، تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته". ولذلك كنا نقول دائما إن حرمة التجسس تشمل التجسس الذي قد يحمل عنوانا تجاريا في بعض الحالات كالتاجر الذي يحاول الاطلاع على بعض المعلومات التي في دفاتر أو مكاتب غيره من دون رضى الاخر، وكذلك التجسس الذي قد يحمل عنوانا اجتماعيا فهو محرم أيضا، وحتى أن تجسست المرأة على زوجها في حركته وعلاقاته، وكذلك تجسس الرجل على زوجته، حتى أن الرجل والمرأة لا يجوز لهما الاطلاع على المذكرات أو الرسائل الخاصة التي قد يكتبها أولادهم إذا كانت تمثل خصوصية لا يريد الأبناء اطلاع الاباء عليها، إلا في الحالات غير العادية التي يخشى الاباء فيها خشية حقيقية من انحراف أبنائهم فيطلعون على بعض الخصوصيات لحماية الأبناء وحفظهم ومنعهم من سلوك طرق الانحراف".
واضاف: "ففي الإسلام حياة الإنسان الخاصة هي ملك له وأسراره، وقضاياه الشخصية هي حصن داخلي لا يجوز انتهاكه ولا ينبغي لأحد أن يهتك هذا الستر، فلا يجوز للانسان أن يتجسس حتى على أقرب الناس إليه، وحيث إن الإسلام منع الاقتراب من الحصون الداخلية للأشخاص، أراد للناس في المقابل أن تحمل أمور بعضها على الأحسن، وألا تنقب على الأسرار والخفايا، وقد قال الرسول الأكرم: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم". وكما حرم الإسلام التجسس بعناوينه الاجتماعية حرمه بعناوينه السياسية، فلا يجوز للدولة أن تتنصت على هواتف الناس أو تلاحق شؤونهم الخاصة إلا في الحالات الطارئة جدا، وفي الأشخاص الذين يخاف على أمن الأمة منهم ومن علاقاتهم المشبوهة، فعندها قد تقتضي المصلحة العليا للأمة تتبع حركة هؤلاء ضمن دائرة معينة، ولكن ذلك لا يعني أن تضع الدولة مواطنيها في مواقع الاتهام لتتجسس على الفئة الكبيرة منهم باسم الحفاظ على الأمن السياسي أو الاجتماعي أو ما إلى ذلك. والأمر نفسه ينطبق على الأحزاب التي قد تستغرق في الجانب الأمني وفي ملاحقة من يقع في موضع الشبهة لديها حتى يصبح الأبرياء فئة قليلة أو يقتصر على النظرة بعين الرضا على المنتمين لهذه الأحزاب فحسب، ليقع الاخرون في دائرة الاتهام حتى يثبت العكس، وقد أدى ذلك في سلوك الدول أو الأحزاب إلى التوثب على المحارم وإلى اقتحام الحياة الخاصة للناس التي لم يرد الله للأنظمة أو للجماعات أن يهتكوها".
وقال آية فضل الله: "ولعلنا في بلداننا العربية والإسلامية دفعنا أكثر الأثمان بفعل الصلاحيات التي أعطيت للأجهزة الاستخبارية، وبفعل سيطرة النظام الأمني، الذي استباح الحياة السياسية والاجتماعية، وأطبق على الحريات، وكم الأفواه، وباشر عمليات التصفية والاغتيال باسم الحفاظ على الأمن العام للناس، أو فعل قوانين الطوارىء باسم محاربة "إسرائيل" وكانت النتيجة أن هذا النظام الوحشي استطاع أن يصادر تطلعات الناس نحو التغيير والإبداع، وأن يجمد الحياة العامة للناس، وأن يجعلهم يعيشون في السجن الكبير الذي تصر الأدبيات السياسية أن تنعته بالوطن بعد مصادرة كل إحساس للانسانية فيه".
واضاف: "إن الذي قتل التنمية في العالم العربي والإسلامي هو النظام الأمني الاستخباري، الذي سجن الطاقات وحاصر الإبداع وضغط على الناس لكي تسبح بحمد الديكتاتوريات التي نمت على حساب شعوبها ولحساب قوى الاستكبار التي دعمتها وغذتها وجندت حتى الرؤساء في أجهزتها الاستخبارية، كما فعلت وكالة الاستخبارات المركزية مع أكثر من حاكم عربي، وعندما انتهت أدوار بعض الحكام جاء من وظفهم ليقلب العرش على رؤوسهم ويزعم بأنه يحمل رسالة الحرية والديموقراطية للمنطقة، كما يفعل الرئيس الأميركي في هذه الأيام، الذي يقدم نفسه كنبي من أنبياء الديموقراطية وكوحي إلهي يسعى لإسقاط نظام الحرية على هذه الديكتاتوريات المترهلة التي ظلت أميركا تدعمها لأكثر من ستة عقود كما قال هو".
وخلص إلى القول: "إننا نخشى من أن الاستباحة الأميركية للأمة، التي توسع نطاقها تحت حجة الحرب على الإرهاب، سوف تتحول إلى استباحة استخبارية تمهد السبيل لاستباحة أمنية لبعض المواقع، ومنها لبنان الذي يراد تفكيك نظام أمني وسياسي فيه لحساب نظام أمني وسياسي اخر تسعى أميركا أن تكون هي الوصي الأساس فيه، وإن أطلقت يد بعض المحاور لتجعلهم أوصياء على هامش الهامش من حركتها. ولذلك فنحن في الوقت الذي رفضنا ونرفض استباحة البلد لحساب أجهزة أمنية أو سياسية عملت لمصادرته وخنق خطوط الإبداع وطاقات العطاء فيه، فإننا نرفض أيضا أن يتحول لبنان إلى موقع جديد من مواقع التنصت أو الرقابة أو التحفيز لمشاريع تحاك ضد المنطقة العربية والإسلامية وعلى حساب القضية الفلسطينية بالذات".
وختم: "ونحن في الوقت الذي نرفض هذا الخط الأمني أو السياسي الذي يراد له أن يكون مرتهنا للوصايات الخارجية وخصوصا الأميركية منها، نقول إن علينا، كلبنانيين وكعرب ومسلمين، أن نمارس رقابة فكرية وأخلاقية على الكثير من الخطوط المتخلفة التي تنمو كالفطر في واقعنا والتي تهدد استقرار بلادنا واستقرار الأمة إضافة إلى تهديدها للاخرين. إننا جميعا مسؤولون عن حماية واقعنا الداخلي من الفوضى التي قد تنطلق من عمى الألوان السياسي والفكري الذي أصيب به الكثيرون جراء استغراقهم في الجانب الأمني على حساب الجانب التربوي أو الثقافي، ومسؤولون عن رد التحدي الذي يفرضه الاخرون علينا بفوضاهم التي يراد لها أن تفترس الواقع الإسلامي والعربي لتذره قاعا صفصفا بفعل العصبيات المذهبية التي تسعى أميركا الإدارة لجعلها نيرانا ملتهبة في المنطقة تغطي فشلها وربما انسحابها تحت وابل من الحروب التي تقود لمزيد من التجزئة والتفتيت والإرهاب".
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018