ارشيف من : 2005-2008
مواجهة في واشنطن بين الحكومة والصحافة
بقلم :محمد الخولي (*)
المتابعون عن كثب لمجريات الأمور في السياسة الأميركية المعاصرة يعرفون ولا شك أن ثمة حدثين محوريين ما زالا يؤثران بصور شتى على قضايا السياسة والحكم بل وعلى البنى النفسية والسلوكية بشكل عام في الولايات المتحدة: الحدث المحوري الأول هو: حرب فيتنام. الحدث المحوري، والثاني هو: واقعة ـ فضيحة ووترجيت.
لقد أصبحت كل من «حرب فيتنام» و «ووترجيت» تشكلا ما يمكن أن نصفه بأنه «الإطار المرجعي» الذي يحال إليه أو يقارن قياساً به أي سلوك أو قرار أو حتى اجتهاد سياسي في دوائر الحكم وصنع الاستراتيجيات في واشنطن.وكم ساد الفزع دوائر الإدارة بل وأوساط المواطنين العاديين عندما بدأت الأحاديث تتسرب وتنتشر عن سلبيات الوضع الراهن في العراق، وخاصة حين بدأ يسري عليه مصطلح المستنقع (كواغماير بالإنجليزية) وهو المصطلح الذي سبق استخدامه لوصف تدهور أوضاع الوجود العسكري ـ المجهود الحربي الأميركي خلال حرب فيتنام..
ولقد جاءت لفظة المستنقع لتنكأ جراحات قديمة لمّا تندمل بعد وتوقظ المواجع التي ألمت بالشخصية القومية الأميركية من جراء الورطة التي وضعت فيها قوات الولايات المتحدة وإمكاناتها ومليارات دولاراتها فضلا عن زهرة شبابها ليجد هذا كله طريقه إلى التورط ومن ثم الغرق أو الاختناق في أوحال المستنقع الخطير بين أدغال جنوب شرقي آسيا.
وبنفس المقياس يسود الآن حديث بل أحاديث تُستدعى فيها صورة الواقعة ـ الفضيحة التي شهدها المسرح السياسي الأميركي في مقتبل عقد السبعينات الماضي وحملت بالطبع اسم «ووترجيت» وهي واقعة بدأت ـ كما ألمحنا في حديث سبق ـ مجرد سرقة من الدرجة الثالثة قصد بها مدبّروها ومرتكبوها إلى الحصول على وثائق من مقر الحزب الديمقراطي المعارض ولمصلحة الحزب الجمهوري الذي كان في الحكم وقتها بقيادة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون.
ومن المعروف طبعا أن «ووترجيت» بدأت بسرقة بلهاء وانتهت بكارثة سياسية أطاحت برئيس الجمهورية شخصيا، بعد أن اهتزت ثقة البلاد في مصداقيته وساقت إلى غياهب السجن بعض معاونيه..وفيما دخل نيكسون سجل تاريخ بلاده من أسوأ الأبواب.. وفيما دخل إلى الزنازين عدد من أركان إدارته.. دخلت «ووترجيت» دفتر التاريخ الأميركي نموذجاً لما لا ينبغي أن تكون عليه مناقب الرجال الكبار الحاكمين في البيت الرئاسي الأبيض.
ومن عجب أن تشهد الأيام الأخيرة عودة مواجع «ووترجيت».. بل عادت صور أحداثها وملابساتها الشائهة تطل برأسها من جديد، وخاصة في إطار لعبة الشد والجذب التي أفضت إلى توتر شديد ما زالت تداعياته مستمرة بين قمة إدارة الرئيس بوش الحاكمة وبين السلطة الرابعة في البلاد ممثلة في الصحافة ومراسليها، والصحافة وتقاليدها، والصحافة ومواثيق أدائها المهني.
لا عجب أيضاً أن يشير كاتب مهم هو «فرانك ريتش» في مقال منشور في نيويورك تايمز (عدد 10/7/2005) إلى أن تطورات الأحداث الراهنة وقد أدت إلى سجن كاتبة مخضرمة في نفس الصحيفة هي «جوديث ميللر» ـ إنما جاءت لتستدعي إلى الذاكرة الجماعية الأميركية ملابسات ووقائع «ووترجيت». وعلى وجه التحديد.. يحيل الأستاذ «ريتش» إلى كتاب صادر في العام الماضي بقلم «جون دين» وكان مساعداً سابقاً لنيكسون تحت العنوان المثير التالي: «أسوأ من ووترجيت».
وفي مقاله كتب ريتش تحليلاً يكشف فيه دور السيد «كارل روف» أهم وأقرب مساعدي الرئيس بوش في إفشاء أسرار الدولة بعد أن وجهت إليه أصابع الاتهام بأنه عمد إلى إذاعة اسم السيدة «فاليري بليم» في عام 2003 وأسّر به إلى نفر من الصحافيين فكان أن كشف هويتها السرية أو التي كان مفروضا بحكم القانون أن تظل كذلك.. لأن السيدة المذكورة كانت عميلا مهما ضمن هيئة الخدمة السرية (الجاسوسية) في سلك المخابرات المركزية الأميركية.
تزيد الاهتمامات التي ما برحت تتطاير هنا وهناك لتقول إن السيد «روف» عمد إلى هذا الإفشاء ـ الذي يجّرمه القانون الفيدرالي صراحة ـ على سبيل الانتقام من زوج السيدة المذكورة.. والسبب ـ كما تضيف الاتهامات أيضاً ـ هو أن الزوج المحترم لم يكن سوى سعادة السيد جوزيف ويلسون السفير المحنّك بالخارجية الأميركية الذي كلفوه قبيل قرار الحرب على العراق بالتوجه في مهمة خاصة وفوق العادة إلى نيامي عاصمة دولة النيجر في غرب أفريقيا من أجل التحقق مما ادعته الدوائر الاستخباراتية، البريطانية من أن نظام العراق البعثي السابق كان يعمل للحصول على كميات من اليورانيوم الذي تنتجه مناجم الدولة الأفريقية المسلمة (والفقيرة أيضا) لزوم تطوير ما أصبح يعرف في القاموس الراهن باسم «أسلحة الدمار الشامل».
والحاصل ـ كما أصبح معروفا ـ هو أن عاد السفير ليؤكد عدم صحة المعلومات البريطانية وبالتالي تهافت حكاية أسلحة الدمار الشامل التي كانت المبرر الجوهري لشن الحرب على العراق ومن ثم تحولت الأسلحة إياها إلى كذبة كبيرة.. وخطيرة أيضاً.والحاصل كذلك أن ظلت مسألة إفشاء اسم عميل كبير لدى المخابرات المركزية ويحميه القانون الاتحادي تتفاعل وتنمو وتتضخم مثل كرة الثلج.. إلى حد أن أثارت قضية في غاية الخطورة هي التي وضعت كلا من إدارة بوش وسلك الصحافة ـ الميديا الأميركية ـ في حال من المواجهة الصعبة التي يتجدد إيقاعها المتوتر والمتصاعد مع مطلع كل صباح.
لم تعد المسألة كشفاً عن اسم موظف فيدرالي يعمل بالجاسوسية يحميه القانون وقد يعرضه ـ يعرضها هذا الكشف لخطر داهم.. جسيم وغير محسوب قد يطال حياته ذاتها. لقد تحولت المسألة إلى سؤال يقول: من الذي يتحمل تبعة هذا الإفشاء الذي تم بطريقة التسريب المعهودة في العلاقة التقليدية بين الصحافيين ومصادرهم الموثوقة التي لا يُعلن عادة عن هويتها؟ فما بالك إذا ما كان الناشر هو الصحف الكبرى التي تحرص على احترام قارئيها.
صحف في مكانة واشنطن بوست التي ظلت تسبغ حمايتها على مندوبها «بوب ودوارد» الذي رفض الإفصاح عن مصدر معلوماته السري، في قضية ووترجيت، على مدار السنوات الثلاث والثلاثين الماضية مكتفيا ـ كما لعلك تابعت ـ بتعبير «الحنجرة العميقة» إلى أن كشف الستار عن هوية الرجل ـ المصدر في غضون يونيو الماضي. (التفاصيل حكاها «ودوارد» في أحدث كتاب أصدره منذ أيام بعنوان «الرجل السري»).
وما بالك أيضاً بصحيفة مثل «نيويورك تايمز» تعتز بشعارها المنشور باستمرار على صدر صفحتها الأولى بأنها «تنشر كل ما يليق نشره من أخبار»، ويتابع المحللون باستمرار ما تنشره في افتتاحياتها من آراء وتحليلات، هذه الصحيفة لم تستطع حماية كاتبتها السيدة «ميللر» التي رفضت ـ جريا على تقاليد المهنة الصحافية ـ أن تفصح عن اسم مصدرها السري الذي تشير إليه الأصابع على أنه السيد «كارل روف»الذي يتمتع بأقصى ثقة من جانب الرئيس بوش.. والذي خلع عليه رئيسه مؤخراً لقب المهندس.. المعماري.. البنّاء..
وخلعت عليه دوائر شتى اسم صانع المعجزات بل خلع عليه «بوب ودوارد» نفسه لقب «عقل بوش» في كتابه الصادر تحت هذا العنوان منذ 3 سنوات.والحق أن «التايمز» وقفت مع «جوديث ميللر» التي أمر القاضي بسجنها بتهمة إهانة المحكمة لأنها لم تصدع لأمر القضاء بالكشف عن مصدرها الصحافي (وكان ذلك في أطول افتتاحية من نوعها نشرتها الجريدة بتاريخ 7/7/2005).
والحق أيضاً إن البيت الأبيض أمر بإجراء تحقيق انتدبوا له محققاً خاصاً من مكتب المدعي العام.. وأن كان المراقب السياسي يشعر بأن موظفي الرئاسة لا يزالون في حيرة من الأمر على نحو ما يعكسه تضارب تصريحاتهم في هذا الشأن.. لا سيما أن الشخصية المحورية ـ هل نقول « الحنجرة العميقة من طراز 2005 » ـ اسمها «كارل روف».. أستاذ الحملات وصانع الرئاسات ومهندس التربيطات المقتدر الذي أوصل السيد بوش إلى لقب «ذي الولايتين» في تاريخ الرؤساء.
والحق أخيراً أن متابعة هذه التطورات وما تسفر عنه أمر حيوي لأنه ينعكس على حرية الصحافة وتقاليدها المهنية في العالم كله وعلى أمانة وذمة الصحافيين وعلاقتهم بأدوات الحكم من جهة وبالمصادر التي يستقون منها معلوماتهم ويبلورون على أساسها آراءهم لخدمة قارئيهم من جهة أخرى. كل ذلك سوف تكشف عنه ـ فيما نرجو ـ أيام قليلة مقبلة وحاسمة كذلك.
كاتب مصري ـ خبير في الإعلام الدولي
المصدر: صحافة عربية ـ "البيان"
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018