ارشيف من : 2005-2008
روسيا والولايات المتحدة و"نزاعات مجمدة"
بقلم فلاديمير سيمونوف(*)
أعلنت واشنطن رسميا عن استعدادها للمشاركة في محادثات تسوية النزاع في بريدنيستروفيه. ومن المعروف أن جمهورية بريدنيستروفيه التي لم تحصل على اعتراف المجتمع الدولي بها تحاول الدفاع عن استقلالها من تطاول مولدافيا.
كما أعربت وزارة الخارجية الأمريكية عن رغبتها بأن يصبح الجانب الأمريكي لاعبا مهما في منطقة أخرى من رابطة الدول المستقلة، هي أوسيتيا الجنوبية. ويحاول هذا الجيب بدوره أن يحصل على استقلاله من جورجيا، وخاصة بعد الصدامات المسلحة التي وقعت في تسعينات القرن العشرين والتي أدت إلى وقوع آلاف الخسائر بالأرواح من كلا الجانبين.
وبهذا الشكل تحاول الولايات المتحدة بنشاط التدخل في تلك النقاط الحساسة في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق التي مازالت روسيا تلعب فيها دور الوسيط وداعم السلام الرئيسي.
ومن اللافت للنظر أن مبادرات واشنطن هذه ظهرت بعد الجولة غير الموفقة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس إلى منطقة آسيا الوسطى مؤخرا. ولم تتمكن رايس من إقناع أوزبكستان بإبقاء القاعدة العسكرية الأمريكية في خاناباد التي نشرت في البداية لدعم الحملة المناوئة لتنظيم طالبان في أفغانستان. لقد استاء رئيس جمهورية أوزبكستان إسلام كريموف من المواقف المنحازة التي وقفتها واشنطن من الاضطرابات التي وقعت في منطقة انديجان في الثالث عشر من شهر مايو 2005. لقد اعتبرت الولايات المتحدة تلك الاضطرابات حملة للقوى الديمقراطية وليس عملا من تدبير الراديكاليين الإسلاميين. وردا على ذلك طالب إسلام كريموف الأمريكيين بسحب قاعدتهم من خاناباد.
وقد أصبحت العديد من عواصم بلدان رابطة الدول المستقلة، بما فيها العاصمة الأوزبكية طشقند تشكك في النوايا الأمريكية بعد "الثورات الملونة" التي وقعت في تبليسي وكييف، والتي مولت إلى درجة كبيرة من قبل مصادر أمريكية.
وربما أرغم هذا البرود المتزايد في العلاقات مع عدد من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق واشنطن على عرض خدماتها الطيبة في تسوية ما يسمى بالنزاعات المجمدة في بلدان الرابطة التي تقيم علاقات دافئة مع الولايات المتحدة. ومن المعروف أن المسؤولين المولدافيين يسعون منذ مدة طويلة إلى توسيع إطار عملية دعم السلام في بريدنيستروفيه من خلال جذب الأمريكيين والأوروبيين للمشاركة فيها. أما تبليسي في عهد الرئيس الحالي ميخائيل سآكاشفيلي فقد عمدت إلى إفساد العلاقات مع موسكو إلى الدرجة التي حددت فيها من جانب واحد يوم الخامس عشر من شهر يوليو 2006 موعدا لانسحاب أفراد قوة دعم السلام الروسية من منطقة النزاع الجورجي الأوسيتي.
ونتيجة للدبلوماسية الأمريكية المتوترة والمتأتية من برودة التعامل معها في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق بالإضافة إلى راديكالية كيشينوف وتبليسي اللتين تحاولان إخفاء فشلهما في تحسين ظروف حياة الشعبين الجورجي والمولدافي خلف الشعارات المعادية لروسيا جاءت فكرة العنصر الجديد في عمليات السلام في المنطقة، والمتعلقة بالمشاركة الأمريكية فيها.
إن مثل هذا الاستنتاج يصب في مصلحة النظريات التآمرية لفترات التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق. وعندما كانت قواعد اللعبة غير واضحة في ذلك الوقت شككت موسكو في أن الولايات المتحدة تحاول إزاحتها من منطقة المصالح الروسية الإستراتيجية. أما واشنطن فقد شككت من جانبها في أن روسيا لا تستطيع التخلص من الحنين إلى الإمبراطورية السوفيتية.
أما في الوقت الراهن فإن الجانبين يتخلصان بالتدريج من تلك الشكوك والمخاوف. وقد اقترحت موسكو أكثر من مرة وعلى مختلف المستويات ابتداء من الرئيس فلاديمير بوتين وانتهاء بوزير الخارجية سيرغي لافروف تحويل منطقة الاتحاد السوفيتي السابق إلى منطقة للشراكة الواضحة المبنية على الاحترام المتبادل بين روسيا والغرب، ومساعدة بلدان رابطة الدول المستقلة في مهمات التطور الديمقراطي والتنمية الاقتصادية.
وعلى الرغم من أن تسوية "النزاعات المجمدة" تدخل في خانة الشراكة إلا أنها تتميز بعدد من الخصائص، أولها وأهمها تتمثل في أن دور حفظ السلام الريادي لروسيا في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق لم يأت لتطلعات إمبريالية ما، بل أصبح استمرارا منطقيا لأحداث التاريخ الحديث. لقد تمكن روسيا بالذات من إيقاف الحروب التي نشبت في بريدنيستروفيه وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وقد دفعت مقابل ذلك أرواح العديد من أبنائها. كما أن موسكو استرشدت بحماية أمن وسلامة الجاليات الروسية الكبيرة القاطنة في مناطق النزاعات.
ولهذا بالذات فإن محاولات تبليسي وكيشينوف الإعلان عن أن جهود السلام الروسية غير مرغوب فيها تتناقض مع التاريخ والواقع الديموغرافي. ويجب على الولايات المتحدة أن تنطلق في أثناء عرض وساطتها من حقيقة استحالة التوصل إلى اتفاقية طويلة الأمد حول بريدنيستروفيه وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدون مشاركة واسعة من روسيا كجزء أساسي من الجهود الدولية.
ومن الجدير بالذكر أن روسيا والولايات المتحدة تمتلكان خبرة في التعاون المشترك في مثل هذه الحالات حيث تعتبران عضوين في مجموعة مينسك المكلفة من قبل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي لتسوية نزاع قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا. وتضم هذه المجموعة فرنسا أيضا. ويعتبر نزاع قره باغ قنبلة موقوتة تحت منطقة القوقاز، ويحمل تهديدات خطيرة للمصالح الروسية والأمريكية على حد سواء.
أما ما يتعلق بمناطق النزاعات الأخرى في جورجيا ومولدافيا فإن الخبراء الروس يرون أنه سيكون من السهل على روسيا تقاسم المسؤولية عن دعم الاستقرار فيها مع الغرب – أي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد صرح المندوب الجديد لروسيا لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف مؤخرا بأن موسكو مستعدة لبحث مقترحات مناسبة سواء كانت سياسية أو مادية. وتحذر روسيا في الوقت نفسه من أن كل نزاع في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق يملك إطار المحادثات الخاص به حيث تتولى مجموعة مينسك تسوية نزاع قره باغ في حين تتولى مجموعة خماسية تضم بريدنيستروفيه ومولدافيا وروسيا وأوكرانيا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي تسوية نزاع بريدنيستروفيه. أما النزاع في أبخازيا فتتولاه أجهزة هيئة الأمم المتحدة. وقد كابدت الأطراف المشاركة في المحادثات الأمرين من أجل تشكيل هذه الأطر للمحادثات التي تحظى بقبول الأطراف المتنازعة.
ويبدو أن روسيا لا ترى أية مشاكل فيما لو قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنفث نشاط جديد في عمليات دعم السلام في مناطق النزاعات المذكورة. ومع ذلك لا تسمح روسيا بخلخلة أطر المحادثات الحالية. وعلى كل حال فإن الحوار هو المفضل بالنسبة لروسيا والغرب حول مشاكل رابطة الدول المستقلة، بما في ذلك "النزاعات المجمدة"، وليس الصراع الخفي على تقاسم مناطق النفوذ.
(*)المعلق السياسي لوكالة نوفوستي
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018