ارشيف من : 2005-2008

مقالات ـ ايطاليا و مأزق الأمريكيين في الجنوب الأوروبي !

مقالات ـ ايطاليا و مأزق الأمريكيين في الجنوب الأوروبي !

كتبت: ياسمينة صالح‏

الزلازل السياسية الايطالية لا تبدو منتهية، هكذا كتبت صحيفة "إيطاليا برس" على الانترنت، و الحال أن الزلازل التي حدثت في ايطاليا لم تكن في الحقيقة مفاجئة للعديد من الملاحظين، لأنها جاءت أشبه بتحصيل حاصل بعد سنوات من الردة السياسية التي جرفت البلاد إلى التحالف غير المشروط مع الحروب الأمريكية في العالم لأجل الفوز بنصيب ظل غامضا بالنسبة للايطاليين الذين لم يفهموا لماذا عليهم أن يرسلوا أبناءهم إلى العراق و لماذا عليهم أن يصفقوا للخطاب الأمريكي الخاص بالحرب، و لماذا عليهم تقبل الجنون الأمريكي بكل تناقضاته الحالية في الوقت الذي عرفت فيها ايطاليا حالة مزرية من الركود الاقتصادي و التضخم الذي جعلها في نظر الاتحاد الأوروبي أشبه بقبيلة أوربية متخلفة حسب ما جاء في جريدة بون الألمانية التي انتقدت السياسة الخارجية الايطالية المنحازة بشكل غير مفهوم لكل الممارسات الأمريكية الدولية فيما يخص شن الحروب و الاقتسامات الريعية غير العادلة أيضا في الوقت الذي كان فيه "برليسكوني" مستعدا لدفع جنوده إلى الصفوف الأمامية لحماية ظهر بوش في العراق !‏

أول الغيث كارثة !‏

التواطؤ الإيطالي مع الولايات الأمريكية لم يكن عاديا ربما لأن رئيس الوزراء الأسبق (و رئيس الاتحاد الأوروبي) "سيلفيو برليسكوني" كان من أكثر الراغبين في ربط ايطاليا بالحلف الأطلسي ليس على أساس استراتيجي، بل على أساس عسكري يتخذ من الحروب أساسياته و أسباب تواجده كحلف يخضع الدول النفطية الإستراتيجية للهيمنة و للمساومة على حريتها و استقلالها بالشروط الأمريكية التي صار يخضعها صندوق النقد الدولي بقياد "بول وولفويتز"، و الحال أن الحروب كانت في الاقتسامات الريعية التي وزعت بشكل غير عادل على المشاركين في تلك الحروب، بحيث حظيت الولايات الأمريكية بالأكثر و الأهم بينما بقيت الفتافيت للدول المتحالفة معها، كما حدث في أفغانستان و كما حدث في العراق أيضا، بدليل أن رفض فرنسا المشاركة كان نتيجة اختلاف في اقتسام الخيرات و ليس على شيء آخر باعتبار أن فرنسا اليوم تبدو أكثر انفتاحا على الحلف الأطلسي مما كانت عليه في السنوات الثلاث القادمة، و مع ذلك، حدث الزلزال في ايطاليا التي كانت تعول عليها الولايات الأمريكية كثيرا لأجل حماية ظهرها في الجنوب الأوروبي وفق ما تمثله ايطاليا نفسها من قوة حضور على الصعيد الأوروبي و من موقع استراتيجي ظلت الولايات الأمريكية تعتبره حليفا مهما بالنسبة لـ" الحرب على الإرهاب" التي اتخذها جورج بوش مطية لاحتلال الدول "المارقة" ! ايطاليا الزعيم " الفاشي المغلف" "سيلفيو برليسكوني" هي التي حولت البلاد إلى خارطة لكل التناقضات التي لم تشهدها من قبل، بالرغم من الفضائح التي كان يجرها "برليسكوني" على الصعيدين السياسي و الشخصي، و بالرغم مما كشفته بعض الصحف الايطالية عن "صفقات" مشبوهة أبرمت في التسعينات مع "برليسكوني" لصالح المافيا الايطالية التي استطاعت أن تضمن حركيات أكثر حرية في مناطق ايطالية مهمة مثل "سيسليا" و "البندقية" و غيرهما من المدن التي تشهد تواجدا كبيرا للمشاريع التي تستثمر فيها المافيا الكثير من الأموال لأجل التواجد على الساحة و لأجل أن يكون لها غطاء سياسي صلب، لكن الحقيقة أن برليسكوني الذي استفاد كثيرا من المافيا لم يوفي بوعوده معها، بالخصوص بعد الفضيحة (فضيحة تلقي أموال من زعماء متواطئين مع المافيا وتبييض تلك الأموال) التي انفجرت في تلك الحقبة و التي كادت تقضي على مستقبله السياسي لولا حملة الإنقاذ الأمريكية التي جاءت على شكل ما سمي وقتها بالتحالف الأطلنطي الاستراتجي وكان من أهم أسبابها التحضير لضربة على العراق بعد الاحتلال العراقي للكويت في التسعينات، و الذي انتهى إلى عزل النظام العراقي و فرض العقوبات الاقتصادية الكاملة عليه، تلك الخبطة السياسية أنقذت برلسكوني كسياسي لأنها أظهرته كواحد من " المناهضين" للإرهاب العراقي وقتها، و بالتالي أعطت الرسالة التي وجهها جورج بوش الأب إلى إيطاليا وقتها الانطباع أن برلسكوني يقود البلاد إلى تحالف قوي مع الأمريكيين لأجل دوافع كبيرة يمكن أن تعيد التوازن الداخلي لكل القضايا الايطالية الراكدة، و بالتالي تعيد النشاط الفاعل للحركيات الداخلية لتقليص من حدة التضخم و التخفيف من البطالة و محاصرة المتسببين في الإرهاب الداخلي، أي الجريمة المنظمة (المافيا)، و الهجرة غير الشرعية الخ، جعل البراشوت الأمريكي في صيغة التحالف غير الواضح، جعل الوضع في ايطاليا أكثر ركونا إلى ما هو عليه، كما قالت صحيفة " بوابلا" الاسبانية التي كانت من أشد المنتقدين لبرلسكوني متهمة إياه بخيانة الايطاليين ! وحين وصل هذا الأخير إلى رئاسة الوزراء لم يكن الأمر في النهاية إلا تحصيل حاصل باعتبار أن أمريكا نفسها كانت أكبر المستفيدين من سياسته الخارجية، و باعتبار أن الايطاليين كانوا أكثر الخاسرين في الوقت نفسه، بحيث أن انغماس الحكومة الايطالية في التعاطي مع السياسة الخارجية جعلها تدخل في سياق الحروب الأمريكية الأخيرة بشكل غير مشروط، و كان ذلك فوق احتمال الايطاليين بالخصوص أن قتلاهم في العراق و أفغانستان كان أكبر مما نورده الأخبار الرسمية باعتراف "جوليو تيرازي" المراسل الصحفي لصحيفة "ايطاليا برس" على الانترنت و الذي أكد فيه أن الجنود الايطاليين ليسوا محميين من القتل باعتبار أنهم متواجدين في العراق تحت سقف التحالف مع الأمريكيين و الحال أن اختطاف الصحفية الايطالية " جوليانا سجرينا " و عملية القصف التي تعرضت لها سيارتها حين كانت تهم بمغادرة العراق ، جعل التأكيد أن التحالف الايطالي مع الأمريكيين ظل هشا و غير منطقي، بل و لم يستفد الايطاليون منه أساسا، لأن الإدارة الأمريكية بقيت تنظر إلى "سيلفيو برليسكوني" كحصان مؤقت، لا يمكنه البقاء في مقدمة السباقات المهمة، و لأن فضائحه الشخصية كانت تتفجر يوميا على صدر الصحف الإيطالية مما جعل وزير الداخلية " جوزيبي بيزانو" يطلب استقالته في أكبر تصادم داخل الحكومة الايطالية قبل عامين، بالخصوص بعد أن حمل برليسكوني إلى الايطاليين مشروع "مكافحة الإرهاب" و الذي كان من أهم بنوده فرض

سياسة قمعية على المهاجرين غير الأوروبيين، و فرض حالة حصار على الإسلاميين و هو ما اعتبره الملاحظون مقايضة أمريكية في ايطاليا التي رفضت أحزاب المعارضة فيها مشروع برلسكوني الذي قيل أنه مدروس بعناية من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية ومن قبل منظمات عسكرية أنجلوسكسونية لأجل حمل التفجيرات إلى ايطاليا قصد اتهام المسلمين بتنفيذها، بغية محاصرة كل المسلمين و فرض قانون الطرد التعسفي ضدهم و إغلاق كل المساجد في ايطاليا التي تصل إلى 10 مساجد مرخصة و 166 محل يجتمع فيه المسلمون للصلاة يوم الجمعة في روما وحدها، حسب التقرير الرسمي لعام 2003 كما جاء في تحليل مطول نشر على صدر موقع الشبكة الايطالية للأخبار..‏

الانقلاب السياسي‏

الانقلاب السياسي العنيف حدث قبل شهرين حين خسر برلسكوني الانتخابات التي جرت في شهر نيسان/ابريل الماضي و الفائز بها أشد خصومه اللدودين "رومانو برودي" الذي يعد من أكثر اليساريين الرافضين للسياسة التي خاضها برلسكوني مع الولايات الأمريكية، و أكثر المطالبين برجوع الجنود الايطاليين من العراق. لم يكن احد يعتقد أن "برودي" سيحقق تلك الهزة السياسية العنيفة إلى درجة كتبت فيها صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية على صدر صفحتها الأولى و تحت عنوان" ايطاليا تضيع" بأن خسارة برلسكوني هي أكبر ضربة للسياسة الأمريكية في الجنوب الأوروبي، باعتبار أن خسارة "أزنار" الاسباني كانت الأسبق في إحساس الأمريكيين بأنهم يخوضون الحرب في العراق بأكثر عزلة سياسيا و عسكريا و أنهم يموتون بشكل أكبر من المتوقع، كما قالت الواشنطن بوست.. صحيفة ايطاليا برس التي تحسب على المعارضة اليسارية ذكرت أن الجنود الايطاليين في حالة من الإحباط في العراق، لأنهم لا يعرفون ماذا عليهم القيام به، و ذكر مراسل الصحيفة أنه لو وجه السؤال إلى هؤلاء الجنود على شكل" هل تريدون البقاء في العراق؟" لكان الرد: (لا نريد) بأغلبية ساحقة. ربما أرادت هنا الصحيفة أن تذكر قرائها بما فعله الإسبان بعد سقوط حكومة "أزنار" و صعود الحكومة الاشتراكية الجديدة حين طرحت على الجنود الإسبان السؤال الأوضح "هل تريد أن تموت مكان جورج بوش في العراق؟" و كان الرد قاطعا ب(لا) مما جعل رئيس الحكومة الاسبانية الجديدة يقول ألا أحد يريد أن يموت في مكان جورج بوش، و ألا أحد يريد أن يترك جلده لحماية جندي أمريكي احتل العراق بشكل غير شرعي، و هي العبارة التي صنعت من الوافدين الاشتراكيين للحكومة الاسبانية "عدوا" رقم واحد بالنسبة للأطلنطيين الذين مارسوا حصارا سياسيا عليها.. و لأن ايطاليا ليست اسبانيا فإن الضربة موجعة حين يصل في نفس السياق إلى أعلى هرم السلطة شخصية مثل "جيورجيو نابوليتانو" الذي كان محل انتقاد أمريكي كبير باعتباره شيوعيا و باعتباره من أشد خصوم المحافظين الجدد و باعتباره يعطي اليوم الانطباع أن المتغيرات التي حصلت في ايطاليا ليس سببها إقبال الايطاليين على الشيوعيين المتهمين قبلا بالفساد و بحمل البلاد إلى الانزلاقات الداخلية، بل لأن فوزهم جاء جراء الخسائر السياسية التي جرتها تحالفات برلسكوني المناهضة للمهاجرين الأجانب، و المناهضة للأقليات العرقية في ايطاليا، و المناهضة للإسلام بالخصوص بعد أن صرح برلسكوني و أمام الكاميرات أن الإسلام دين إرهاب و تخلف، و هو التصريح الذي اعتذر عنه بسرعة فيما بعد قبل فترة قصيرة من انفجار قضية الإساءة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله سلم في الدنمارك.. الشيء المؤكد أن الحكومات و الأنظمة الأوروبية التي تقف إلى جانب جورج دابليو بوش تنهار الواحدة تلو الأخرى و أن البدائل الحالية هي التي صارت تزعج الأمريكيين لأن اليساريين الذين يحتلون الحكومات الأوروبية يعارضون واشنطن و يعلنون ذلك ملء الصوت، و هو الشيء الذي يزيد من عزلة البيت الأبيض على الميدان، بعيدا عن الدبلوماسية و بعيدا عن الكاميرات، لأن أمريكا بهذا الشكل تفقد أسباب تواجدها أساسا كما قال الكاتب و الصحفي الايطالي "سيرجيو ليوني".‏

2006-10-30