ارشيف من : 2005-2008

من "حزب الأوادم" إلى "لبنان أولاً"

من "حزب الأوادم" إلى "لبنان أولاً"

صحيفة السفير/ جوزف سماحة‏

ساد، ذات مرة، في لبنان تعبير "حزب الأوادم". كان ذلك بعد "اتفاق الطائف" وبدء تبلور النظام في شكله الجديد. كل من ردّد هذا التعبير كان يعتبر أنه يقول قولاً مهماً، إنه يمارس السياسة ويبدي الحرص على الوطن ومصالحه وأهله. كان القصد تمييز "الأوادم" عن غيرهم مع تضمين أن هذا‏

"الغير" تشكّل من قوى لا ترغب في قيام الدولة.‏

لم ينتبه أحد كفاية إلى ما في هذا الشعار من فقر ومن إلغاء للسياسة. ليست "الآدمية"، بوصفها جمعاً بين النزاهة والوطنية والهمّ التعايشي، صفة حزبية. لا بل إن التحزب والانحياز وامتلاك وجهة نظر محددة، إن هذه كلها عناوين يفترض فيها أن توزع "الأوادم" على غير حزب، وأن تجعلهم يتنافسون، وأن تدفعهم إلى السجال حول برامج وخطط وتوجهات. إن السياسة هي، أيضاً، وأساساً، اختلاف‏

"الأوادم" في ما بينهم وإلا لجاز القول بأن كل من يحمل سجلاً عدلياً نظيفاً بات، رغماً عنه، عضواً في حزب يضم آخرين من ذوي السجلات العدلية النظيفة بغض النظر عن أي تباين بين... "الأوادم".‏

يعود شعار آخر ليطل علينا هذه الأيام: "لبنان أولاً". وهو يعاني ما عاناه سلفه من تبسيط.‏

يجب الاعتراف بأن العبارة جذابة في حد ذاتها. كما أنها، ولو من دون علم أصحابها، تقرّر واقعاً يفترض أخذه في الاعتبار حتى من أكثر القوميين أو الإسلاميين غلواً. لقد بات "الواقع القطري" تحصيل حاصل. ويعني ذلك إشهار الاختلاف مع الوهم القومي أو الديني المصرّ على النظر إلى المنطقة كلها وكأنها وحدة معطاة وناجزة في السياسة والأمن والاقتصاد والنظام ونوعية العلاقات الداخلية. الشعار جذاب وواقعي إذاً إلا أنه لا يقدم جواباً على ما يعانيه هذا الـ"لبنان" من مشكلات.‏

ثمة ملاحظتان جوهريتان على هذه العبارة:‏

أولاً: في السياق السياسي والثقافي العربي جاءت كلمة "أولاً" باستمرار لتشير إلى عزم فئة ما على الانفكاك الجدي عن قضايا المنطقة وهمومها وتعبيد الطريق من أجل نسج صلات تدير ظهرها للإقليم. لقد كانت "مصر أولاً" الممر الإجباري نحو "كامب ديفيد"، و"فلسطين أولاً" المدخل إلى "اتفاق أوسلو"، و"الأردن أولاً" تمهيداً لـ"وادي عربة". وكذلك عندما قيل "العراق أولاً" كان القصد إسقاط الحرم عن الاستقبال الإيجابي للاحتلال الأجنبي، وثمة أمثلة أخرى. ولعله بات علينا أن نلاحظ، بعد كل هذه التجارب، أنها غالباً ما تصل إلى حدودها فتصطدم بجدار وتعود تبحث عن مخرج يعيد وصل ما انقطع مع المحيط. النموذج الفلسطيني صارخ في وضوحه في هذا المجال.‏

ثانياً: إن "لبنان أولاً" شعار بعيد كل البُعد عن الجواب عن سؤال سابق: ولكن أي لبنان؟ إن "لبنان أولاً" على لسان هذا الحزب أو ذاك الزعيم لا يعني أبداً أنه يتحدث عن "لبنان" نفسه الذي يضعه آخرون "أولاً". وكما قيل في ما يخص "حزب الأوادم" فإن السياسة في لبنان هي كناية عن تعارض بين قوى لا تقل لبنانية عن بعضها وإن كانت تعطي معاني مختلفة لكيفية ترجمة "أولاً" في الواقع.‏

ومن المسموح لأي مراقب ملاحظة أن الشعار الذي يُراد منه الإيحاء برفض ارتباط لبنان بمحاور إقليمية هو، بالضبط، شعار نضالي بمعنى ما يقود إلى إعادة ترتيب التوازنات الداخلية عبر صراع وإلى دفع لبنان ليصبح، موضوعياً، مرتبطاً بعجلة محاور أخرى.‏

إن الحوار الوطني، إذا انعقد ونال حظه من العناية، هو حوار يدور بين قوى سياسية وطائفية تلتقي عند موقف فضفاض ولكنها تختلف في قراءتها له. ومن يدخل إلى هذا الحوار وفي ذهنه أنه وجد التعويذة السحرية لبنان أولاً مهدد بأن لا يساهم مساهمة جدية في إنتاج التسويات اللازمة.‏

لقد دخل لبنان في أزمته عام 1975 لأن هناك من أعطى لمضمون الأولوية معنى العزلة عن المنطقة وقضاياها ورفض التحكّم بأشكال الانخراط اللبناني في مشاكلها والتحديات التي تواجهها. وثمة ما يوحي، اليوم، بأن هذه التجربة معرّضة للتكرار في ظل شروط إقليمية موضوعية تجعل الحياد مستحيلاً أو، على الأقل، شبه مستحيل.‏

2006-10-30