ارشيف من : 2005-2008

رسالة إلى المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني: لبنان أمانة في أعناقكم فأنقذوه .. وبعدها يكون "العهد الجديد"

رسالة إلى المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني: لبنان أمانة في أعناقكم فأنقذوه .. وبعدها يكون "العهد الجديد"

صحيفة "السفير"/ طلال سلمان‏

على وقع هتافات الأغلبية النيابية في الشارع مطالبة باستقالة رئيس الجمهورية الذي مكّنه الانقسام السياسي متعدد العناوين من الانتقال تدريجياً إلى موقع هجومي، في ظل استحالة "خلعه" دستورياً، وفي ظل الاستقطابات الحادة التي شرخت الجسم السياسي ووزعته معسكرات متواجهة بما منع أية تسوية مخرج، كما عطل السلطة وجعلها عاجزة عن الإنجاز بينما تتفاقم حدة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية،‏

.. وفي ظل تردد عربي عن المبادرة المؤهلة لحسم الموقف، خصوصاً في ظل تدخل دولي ضاغط لتبديل موقع لبنان ودوره في محيطه،‏

... ينعقد قبيل ظهر اليوم "مؤتمر الحوار الوطني" في حرم المجلس النيابي، وإنما في غيابه كمؤسسة، وإن شارك رئيسه كطرف، وكذلك في غياب رئيس الجمهورية وفي غياب الحكومة التي يحضر رئيسها بوصفه طرفاً سياسياً فحسب..‏

ويستقبل اللبنانيون هذا المؤتمر بقليل من الأمل في نجاحه‏

(ربما حتى لا يفجعوا بالنتائج) وبكثير من الخوف من فشله لأسباب تتجاوز قدرات المشاركين فيه أو جديتهم أو صدق مشاركتهم فيه بنية إنجاحه... وإن كانوا يستشعرون أنه ما كان ليعقد لولا التسليم بضرورته، إن لم يكن كمخرج إنقاذي من الأزمة الخانقة فأقله كمدخل إلى هدنة طويلة تسمح باستيقاظ حس المسؤولية والعمل على تجنب الكارثة التي تتهدد لبنان في وحدته الوطنية وفي كيانه السياسي.‏

خمسة عشر رجلاً سيتحلقون من حول طاولة بلا رئاسة ليناقشوا وجوه الأزمة جميعاً مكثفة في ثلاثة بنود يختزل كل منها عشرات الإشكالات والمشكلات المتفجرة، وهي:‏

1- القرار 1559، في ما يتصل بسلاح المقاومة وأوضاع الفلسطينيين في لبنان، بما في ذلك السلاح خارج المخيمات (باعتبار أن رئاسة الجمهورية وشرعيتها خارج النقاش.. اللهم إلا إذا تمّ التوافق على عهد جديد..).‏

2- العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا في ضوء التطورات الخطيرة التي خلخلت هذه العلاقات وحولتها إلى متفجرة، على امتداد العام المنقضي على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.‏

3- التحقيق في جريمة الاغتيال ومساره وصولاً إلى المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاسبة المحرّضين والمخططين والمشاركين في التنفيذ.‏

فأما البند الثالث فلا خلاف من حيث المبدأ حوله لا في الجوهر ولا في التفاصيل، خصوصاً أن التحقيق في عهدة لجنة دولية بإشراف مجلس الأمن، ومع انصراف رئيسها السابق ديتليف ميليس وتولي القاضي البلجيكي سيرج برامرتز رئاستها برصانة ميّزت سلوكه حتى اليوم، فإن البديهي أن ينتظر الجميع نتائج عملها بعدما تراجعت محاولات التسييس ولو بالاتكاء على منتحلي صفة شهود إثبات أساؤوا إلى التحقيق وصدقيته ومكّنوا من عمليات استغلال رخيصة لبعض معطياته الأولية.‏

هل يستطيع هؤلاء الخمسة عشر "قيادياً"، الجالسون إلى طاولة الحوار، أن يسحبوا الأزمة بكل منطلقاتها وتفرعاتها من الشارع حيث تتواجه فتحتدم فيه الحساسيات والإشكالات، سياسية وطائفية ومذهبية، إلى داخل القاعة كي يناقشوا الأصل فيها والتفرعات بالعقل والحكمة والحرص على سلامة الوطن وشعبه؟!‏

إن هؤلاء الرجال الخمسة عشر يأتون إلى لقاء بعضهم البعض من البعيد:‏

- سعد الحريري يأتي من الشعور العميق بالفقد يغالب في نفسه الرغبة في الثأر ليتسنى له أن يكمل ما بدأه والده الشهيد، وهو يرى في خلع رئيس الجمهورية (باعتباره الوديعة السورية) المدخل إلى الحل، ومن ثم إلى "العهد الجديد"..‏

- السيد حسن نصر الله، يأتي من ميدان المقاومة مجللاً بالنصر الذي تحقق فشرّف به لبنان، إذ قدم النموذج النقيض للقدرة على إلحاق الهزيمة بالعدو الإسرائيلي بقوة المقاومة وليس بالجيوش التي لم تقدم للعرب إلا الهزائم..‏

- وليد جنبلاط يأتي من رحلة طويلة متعرجة الخطوط، فيها انتقال سهل بين المواقع المختلفة، يسمح به التخفف من ضغط المساءلة والاحتياج لفرادته.‏

- العماد ميشال عون الذي يأتي من الإبعاد القسري مع الاعتذار الذي نصّبه زعيماً وأعطاه موقع الصدارة في طائفته سرعان ما عززه بتحالفات خارجها جعلته رقماً صعباً في المعادلة الجديدة التي يفترض أن تفتح باب الحل.‏

- سمير جعجع الذي خرج من السجن بعفو خاص ذريعته المساواة بين أبطال الحرب الأهلية، ما مكّنه من أن يستعيد "قواته" وموقعه القيادي ولو برافعة من خارج مجاله الحيوي، فكرياً وسياسياً.‏

- أما نبيه بري، الذي يتخفف اليوم من أعباء الرئاسة فيقدم نفسه بوصفه "المضيف" وصاحب المبادرة الحوارية التي لم يستطع رفضها حتى أولئك الذين كانوا يفترضون أن‏

"الشارع" هو أقصر الطرق إلى التغيير.‏

إنه "رئيس الضرورة" حتى وهو حليف "السيد"، وفي موقع الخصم للحليف التاريخي القديم، وإن كان قد نجح في التخفيف من "خصومة" لا مبرّر لها استهدفته بغير نجاح، ثم اضطرت إلى التسليم به رئيساً للمرة الرابعة للمجلس النيابي بقوانين الانتخابات المختلفة.‏

ليس الآخرون قليلي الأهمية، فهم من شروط التوازن وتمثيل "مختلف ألوان الطيف السياسي" كما درجت الكتابة عن الذين لم يبلغوا مواقع "الأقطاب" وإن تميّزوا عن سائر أقرانهم... وبين هؤلاء الآخرين من اكتوى اللبنانيون بتجربته في الحكم التي بدأت بكارثة وطنية وانتهت بتجديد الحرب الأهلية. لكن مقتضيات التمثيل الطوائفي تقضي بذلك، ولو تمّ التلفيق في جمع الأصوات حرصاً على الشكل واللقب الفخم.‏

ولعل في اختصار لبنان، سياسياً، بهؤلاء الخمسة عشر ظلماً لتيارات "مدنية" ولقوى غيّبتها طبيعة اللحظة السياسية والظروف المحيطة.‏

لكن العالم كله موجود، بصيغة أو بأخرى، من حول هذه الطاولة التي اصطنعت خصيصاً: الغرب الأميركي الفرنسي، والعرب بسعوديتهم ومصر والجرح العراقي تحت الاحتلال الأميركي، والمأزق الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، وإيران بصراعاتها من أجل انتزاع مشروعية دورها الإقليمي.. وقبل هؤلاء جميعاً وبعدهم سوريا، بأخطاء التجربة المريرة التي انتهت بكارثة على البلدين المتكاملين، تشكّل خاتمتها الهاجس الأخطر عند جميع الملتقين من حول طاولة الحوار، على خلافاتهم العميقة معها ومن حولها.‏

إذاً، لا خلاف، من حيث الجوهر، على البند المتصل بالتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.‏

فأما بالنسبة للقرار 1559 فإن ما يتصل بشرعية رئيس الجمهورية فقد بات خارج البحث. وحتى إذا ما استقال أو استقيل فإن ذلك سيتم من خارج الشرعية الدستورية التي يستقوي بها الآن، خصوصاً أن الخلاف حول من بعده وما بعده يفرز القوى، فيضطر قوى أساسية وحاسمة إلى عدم التخلي عنه، خصوصاً في غياب أية ضمانات حول البديل وموقفه من القضايا الأساسية وأبرزها سلاح المقاومة.‏

إن رئيس الجمهورية يعيش الآن على الانشطار. لقد أبقى له الاختلاف على من بعده وما بعده مساحة تكفيه كي يبقى ولو مطعوناً في تمثيليته... إذ لا يخرجه إلا الوفاق الوطني، وطالما تعذر هذا الوفاق فهو باق بقوة الانقسام والتهيّب من الفراغ.‏

على أن توقيت استصدار القرار 1559 يدل على أن الهدف المركزي منه لم يكن منع التمديد، بل كان يستهدف المقاومة وسلاحها أولاً وأخيراً... وهو كان جسر العبور لكثير من المعترضين على المقاومة استخدموه بوصفه ضد التمديد ليصلوا معه إلى الجهر باعتراضهم على المقاومة. ولولا بعض الخشية لطالبوا باتفاق آخر منفرد مع العدو الإسرائيلي، ثم اكتشفوا أن في اتفاق الهدنة الذي مزقته إسرائيل لحظة توقيعه ما يعفيهم من حرج لا يستطيعون احتمال وطأته، فرفعوه شعاراً!‏

أما العلاقات مع سوريا فإنها الموضوع الأصلي، ومنه وعبره تتوفر المخارج ومشاريع الحلول، إذا ما وفق المؤتمرون إلى درسها بعمق بقصد إرسائها على قاعدة تحقق مصالح الشعبين الشقيقين، وتوفر للبنان سيادته واستقلالية قراره من دون أن يتحول إلى مقر للتآمر على سوريا أو ممر لاحتلالها الذي رفعه البعض مطلباً وطنياً.‏

إنه مؤتمر يبدأ في قلب الصعوبة فهل سيتمكّن المؤتمرون من أن يُنصروا بإنجاز تاريخي؟!‏

إنه امتحان في الوطنية وفي الحرص على مستقبل الأجيال الآتية.‏

أصعب الصعب أن يتحرّر المؤتمرون من المواقف المعلنة، ومن الانصياع خلف ما يرضي أهل التطرف المستفيدين من استمرار الأزمة.‏

ولن يفاجئ أحد أحداً: فالمواقف معلنة وهي محددة إلى حد افتقاد القاسم المشترك بين المؤتمرين، اللهم إلا إذا غلبوا مسؤوليتهم الوطنية على مصالحهم أو عواطفهم أو غرائزهم.‏

فبين أن يكون ال1559 تجسيداً لإرادة الشرعية الدولية التي لا تناقش، وبين أنه قرار استصدر بضغوط معينة ولأهداف تتجاوز أو لا تأخذ بالاعتبار مصالح الوطن،‏

.. وبين أن المقاومة ميليشيا أو أنها إنجاز تاريخي لشعب لبنان يشرّفه ويشرّف أهله العرب، وأي انتقاص من قيمتها ومن دورها هو خدمة مجانية للعدو الإسرائيلي،‏

بين هذا وذاك مسافة طويلة حلها في التوافق الوطني حول مستقبل هذه المقاومة باعتبارها ضمانة للوطن وليست تهديداً لشعبه ولنظامه الديموقراطي.‏

إن الجميع أمام مسؤوليات تاريخية، ومع التخوّف من الفشل، فإن اللبنانيين يتمسكّون ببارقة أمل في أن يتحرر المؤتمرون من قيود مواقفهم المعلنة كي يتوصلوا إلى القواسم المشتركة الجامعة، وبها يتم الإنقاذ! وبعد ذلك يمكن الحديث عن "العهد الجديد".‏

2006-10-30