ارشيف من : 2005-2008

"لبنان اولا" من أين يبدأ؟

"لبنان اولا" من أين يبدأ؟

صحيفة "النهار"‏

"ان اي مقاربة للمسائل الوطنية وفق معادلة الاكثرية والاقلية تبقى رهن تحقق الشروط التاريخية والاجتماعية للممارسة الديموقراطية الفعلية التي يصبح فيها المواطن قيمة في ذاته".‏

من "ورقة – التفاهم المشتركة" بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر".‏

("النهار" 7/2/2006)‏

للمرة الثانية خلال سنة اجد نفسي في "تعارض" مع 14 شباط. ولا اقصد بالتعارض هنا الاختلاف بل وضع النفس خارج هذا التاريخ.‏

ففي 14 شباط الماضي كنت في مطار باريس، في طريقي الى مؤتمر الاتصالات العالمي الخاص بنظام الهاتف الخليوي GSM الذي عقد في مدينة كان، عندما سقط علينا كالصاعقة نبأ استشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وفي اليوم عينه من هذه السنة وجدت نفسي متوجهاً الى برشلونة في اسبانيا حيث يعقد المؤتمر العالمي نفسه، مفوتاً اعظم مشهد وحدوي في تاريخ لبنان المعاصر.‏

الا ان هذا التاريخ الذي صنع للبنان مستقبلا كان غامضاً قبله، بفعل نظام وصاية واستبداد اوحى لكثيرين انه نهاية التاريخ بالنسبة الى لبنان الدولة والكيان ـ يكاد يعطي انطباعاً كأنه دفع اللبنانيين الى متاهة لا يجدون مخرجاً منها بغير التخلص من رئيس الجمهورية الممدد له من سلطة الوصاية غير الشرعية والذي فقد شرعيته الشعبية بعد انتفاضة 14 آذار التي كان مفترضاً فيها ان تطيح الرئيس قبل القرار السوري بالجلاء عن لبنان تنفيذاً للقرار 1559، بحيث يذهب الطرفان: الحكم السوري للبنان وطربوش هذا الحكم. الا ان ذلك لم يحصل، ويا للأسف، بسبب عدم وضوح الرؤية لدى قيادة 14 آذار، وخصوصاً بعد التحالف الذي عقده رئيس "اللقاء الديموقراطي "النائب وليد جنبلاط مع "حزب الله"، وتجسّد لاحقاً في التحالف الانتخابي في دائرة بعبدا ـ عاليه، فضلا عن انشغال هذه القيادة بالرماية على رموز أساسية في النضال في الداخل وفي المنفى ضد الوجود السوري والهيمنة على القرار الوطني مما ادى الى افقاد لبنان حريته واستقلاله وسيادته.‏

ولسنا ندري اذا كان تصحيح المسار انطلاقاً من 14 شباط اليوم المفصلي في حياة جميع اللبنانيين دون استثناء، يمكن ان يعوّض ما فات، ويعيد بناء الثقة التي فقدت وأدت الى المأزق الحالي حيث يعتبر رئيس الجمهورية انه في موقع اقوى من ذلك الذي كان فيه بين 14 شباط و14 آذار و26 نيسان (تاريخ الجلاء السوري عن لبنان).‏

واننا لنتساءل، بعيداً عن التأثيرات المباشرة للاحداث الى اي حد يعي قادة 14 آذار، ومعهم قادة التنظيمات الذين صنعوا 8 آذار، مغزى ما قاله البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير يوم الثلثاء من "أن الوحدة تنقذ الوطن"؟ ونضيف سؤالا آخر في الاتجاه نفسه: الى أي حد نحن على طريق الوحدة؟‏

ان الوقائع تظهر ان اللبنانيين لم يكونوا منقسمين اكثر مما هم اليوم.‏

واذ يدعوهم اليوم رئيس "كتلة المستقبل" النائب سعد الحريري الى التوحّد وراء شعار "الولاء للبنان اولا"، في تحد لاصحاب الولاءات الاخرى وابرزها السوري والايراني، فانما هو يربك الكثير من القادة السياسيين والدينيين الذين دأبوا على نشر ثقافات تقوم على التبعية للخارج اعتماداً على خلفيات عقائدية وسياسية، ومذهبية، فضلا عن نشر اجواء من عدم التسامح، وكره الآخر وتكفيره. وقد انتجت هذه الثقافات سلوكيات عبرت عن نفسها بـ"الاحد الاسود" في الاشرفية قبل عشرة ايام، في مواجهة مجتمع آمن بالتسامح وبمحبة الآخر في عيش مشترك لا مثيل له.‏

لذلك كان مستغرباً، بل مدهشاً جداً ان مسيحيي الاشرفية لم يردوا على التحدي والعنف والاساءة الى رموز يقدسونها. وقد حارت قيادات كثيرة في الجانب "الآخر" في ايجاد وسائل الشكر والتعويض على الممتلكات التي تضررت، متناسية النفوس التي جرّحتها مناظر الهمجية العائدة بثقافة غريبة عن ثقافتها.‏

لذلك لم تكن المشكلة امنية فحسب، بل كانت سلوكية. وربما كان هذا اخطر ما حصده لبنان جراء سنوات التسييب و"تربية" جماعات كثيرة على ولاءات خارج الولاء للبنان والذي نخشى ان يكون نجل الرئيس الشهيد قد جاء متأخراً عليه، وبعدما اصطبغ تراب لبنان، بالنسبة الينا، بدماء حبيبنا جبران تويني الطاهرة، وهو الذي جعل من ولائه للبنان علّة وجوده، وقد انتقم الذين كانوا يتربصون به من لبنان، قبل ا ن يفجّروا الحقد عليه.‏

وقضية تلاقي اللبنانيين على قواعد مشتركة من شأنها التأسيس لفكرة الولاء، تتطلب ارتفاعاً فوق المصالح، وتخلياً طوعياً عن الالتزامات حيال الخارج، على مختلف الدرجات السياسية والعشائرية والطائفية والمالية والمذهبية، فضلا عن فك الارتباط بالولاءات المعتمدة، ونشر ثقافات وتعاليم جديدة تقوم على المحبة والتسامح والتصالح والاعتراف بالآخر والانفتاح عليه، والاعتراف بحقه في الوجود الحر.‏

من هنا يبدو موضوع رئاسة الجمهورية اهم من الرئيس، ومن أي شخص ماروني يقيم في بعبدا.‏

كذلك يبدو الاتفاق ضرورياً على القواعد التي تنجّي لبنان من الوقوع ثانية في قبضة التبعية بعدما امضى قادة منه عقداً ونصف عقد خداماً في "دار الوصاية"، يبيعون ويشترون في بازارها دون ان يحركوا ساكناً في نظام التبعية، في حين كان آخرون ممن حاولت قيادات في 14 آذار تهميشهم، ولا تزال، يناضلون في وجه سلطة التبعية ويدفعون الثمن سجناً ونفياً وتعذيباً.‏

ولم يكن مستغربا ان يجد "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" نفسيهما في تقارب وتفاهم حول قضايا مشتركة ادى تقاربهما، وهما المهمّشان و"المشطوبان والمعزولان" – الى تقديم مشروع تسوية لعدد من القضايا التي كان الاقتراب منها ممنوعاً، وخصوصاً من جانب "حزب الله".‏

ولقد كان مؤملاً ان تحظى وثيقة "التفاهم" بين التيار والحزب بحماسة من الساعين حقاً الى الوحدة لانقاذ الوطن، في ضوء ما يمثلانه شعبياً وطائفياً وسياسياً، الا ان ذلك لم يحصل، وخصوصاً لدى بعض الاطراف المسيحيين الذين تحتاج اوساط واسعة منهم الى ثقافة جديدة تساعد على تجاوز الحروب بين الرؤوس، فيما رأس الوطن مريض ومصاب باعاقة وجسمه ممزق.‏

ورب سائل، بعد "التنازلات" المتبادلة بين التيار والحزب ـ هكذا على الاقل يبدو لنا تقاربهما: هل هناك استعدادات لدى اطراف في السلطة وخارجها للتنازل عن مواقع ومكاسب ومغانم... من اجل لبنان والولاء له، بما يعيد اليه وحدته والتوازن في ما بين مكوناته، وخصوصاً ان بعض هذه المكونات قد اصابها انتفاخ بفعل استسلامها لسلطة الوصاية وتأمين متطلباتها على حساب مصلحة البلاد؟‏

ان المسألة ليست بالسهولة التي يتصورها قادة 14 آذار، من ان ذهاب رئيس الجمهورية يحل جميع مشكلات لبنان. اذ لو كانت المشكلة بهذه السهولة حقاً، لكان مؤتمر الحوار انعقد من زمان، ولما احتاج الى الرئيس نبيه بري ليوصي لدى نجار على طاولة سحرية، مستديرة الشكل وكأنها اختراع البارود!‏

وفي اعتقادنا أنه لو كانت النيات صافية، لكانت الغالبية بادرت، فور اعلان وثيقة التفاهم، الى تبنيها، والقفز فوق خلافاتها مع "حزب الله" وامينه العام السيد حسن نصرالله، و"التيار الوطني الحر" وزعيمه العماد ميشال عون، معتبرة اياها "ورقة عمل الولاء للبنان" وخصوصاً ان ما تضمنته هي الباب الذي يمكن ان يدخل منه لبنان التاريخ.‏

ولعلها المرة الأولى التي يقدم فيها "حزب الله" على مثل هذه التسوية سواء في موضوع اتفاق الطائف ونهائية الكيان، أو في موضوع الحوار، وقانون الانتخاب، وبناء الدولة الواحدة الموحدة، وملاحقة قضية المفقودين خلال الحرب، والمقابر الجماعية، واللبنانيين في اسرائيل، والاسرى في اسرائيل وسوريا. اضافة الى قضايا الاغتيال السياسي، والعلاقات مع سوريا وترسيم الحدود معها واقامة تبادل ديبلوماسي بين بيروت ودمشق وقضية مزارع شبعا ولبنانيتها وامكان استعادتها ديبلوماسيا الى سلاح "حزب الله" و"حدود" المقاومة، وهو الموضوع الاهم لدى العماد عون. اذ اظهرت الوثيقة المقاومة على انها وطنية حدودها الاراضي اللبنانية المحتلة وليس الجولان ولا القدس وفلسطين ولا العراق كذلك.‏

انها فرصة التقى فيها بطلا تحرير ـ وهذا نادر ـ ونتمنى الا تضيع، على طريقة العميان الذين رزقوا ولداً فأضاعوه بـ"البقبشة".‏

ادمون صعب ـ برشلونة‏

2006-10-30