ارشيف من : 2005-2008

"قوى 14 آذار": النزول عن الشجرة

"قوى 14 آذار": النزول عن الشجرة

كتب جوزف سماحة‏

لنتذكّر خطباء 14 شباط. معظمهم. عندما يعتلي أحدهم المنبر يكون يفكر في أمر واحد فقط: ما هي الكلمة أو العبارة أو القفشة التي إذا أوردتها يتذكّرني الجمهور ويمكن لي أن أستحق تهنئة عليها في اليوم التالي مرفقة بتربيتة على الكتف: لقد أبدعت!‏

القاعدة، كما شاهدنا وسمعنا، أن أكثرية الخطباء تنسى المناسبة، والحشود، والسياسة، ولا يرد في ذهنها أي اعتبار لموازين القوى، وللشروط الموضوعية (كما كان يقال ويفترض أن يستمر)، وللشعار المناسب، وللخطوة الممكنة التالية... يتم تجاهل هذه الأمور كلها من أجل إلقاء أكثر الكلمات ابتذالاً وشعبوية وتحريضاً وانعدام مسؤولية.‏

لا غرابة، والحالة هذه، أن تجد "قوى 14 آذار" نفسها، في 15 شباط، فوق شجرة عالية صعدت إليها من تلقاء نفسها وباتت مضطرة إلى النزول عنها حتى لو كان سلم النزول مصنوعاً من الآمال الزائفة التي أثيرت والتوقعات العالية التي سادت.‏

ليس المهم أن يكون الظرف خطيراً. وليس مهماً أن تكون البلاد في مرحلة عصيبة. وليس مهماً أن يستشعر المواطنون قلقاً. وليس مهماً أن تكون العواصف تهدد بالهبوب. المهم أن يمارس الخطباء، معظمهم، كماً من الاستخفاف لا يوصف بجمهور غفير وأن يحصل ذلك باسم "ضرورات التعبئة".‏

لو كان بين جمهور ذلك اليوم قطاع حزبي منظّم، ولو كانت العلاقة بين القاعدة والقيادة، بين الحشد والمنصّة، علاقة حديثة عقلانية ديموقراطية لكان ممكناً، لاحقاً، الإقدام على قدر من المحاسبة والمساءلة. إلا أن الواقع غير ذلك تماماً ويدل على استهتار لا يوصف بالمؤيدين وعلى ثقة عمياء بأن شروط الطاعة تفوق موجبات الولاء الواعي.‏

لو كانت الحياة السياسية اللبنانية سليمة، ومستوية على قدر من المشاركة المواطنية الحقّة، لوجب أن تكون الذاكرة حيّة بعض الشيء وأن يُجري المواطنون جردة حساب للأسبوع الذي فات.‏

لقد قيل لهم إننا لن نصل إلى 14 آذار إلا وأصبح لدينا رئيس جديد للجمهورية. وها نحن ننتقل اليوم من الإنذار المرتبط بمدة محددة إلى "موعد رمزي" قد يكون منطلقاً لحملة مديدة لاحقة.‏

وقيل للمعتصمين إن الموضوع انتهى من دون تنبّه إلى أن القواعد الدستورية للبلاد لا تحتمل أن يكون الموضوع منتهياً في أسابيع أربعة. ولقد كان لافتاً كم حصل تجاهل للفكرة القائلة بأنه من غير الجائز التراجع عن خرق دستوري قابل للجدل عن طريق دوس الدستور بالأقدام.‏

وتسرّع البعض بالدعوة إلى مقاطعة رئيس الجمهورية واتخِذ قرار بهذا المعنى نسي متخذوه أبسط واجباتهم: إبلاغ رئيس الحكومة فؤاد السنيورة مسبقاً به. وهكذا بات على الجلسات الوزارية ألا تعقد مداورة بين بعبدا والسراي، وهكذا تقدم قادة للتأكيد أن الوزراء لن يحضروا أي جلسة يترأسها إميل لحود إذا حضر. ثم تبين، سريعاً، أن هذا السلوك مدخل إلى خلل لا يحتمل فابتلع المعنيون ألسنتهم ولكنهم أنتجوا، في السياق نفسه، حالة شبه سوريالية: إنهم ماضون في توقيع عريضة تشير إلى شغور‏

منصب الرئاسة، وفي توقيع عريضة تدعو إلى انتخابات جديدة، لكنهم ماضون أيضاً في حضور جلسات مجلس الوزراء برئاسة "الموقع الشاغر"! ويقال إن هذه سياسة إنقاذية! ويقال إنه في الإمكان ائتمان هؤلاء على مصائر ومستقبل!‏

عندما جرى نفخ أعداد المشاركين في الاعتصام كان القصد مزدوجاً. فمن ناحية يجب إفهام من يشكك بهوية الأكثرية والأقلية أنه مخطئ. ومن ناحية ثانية يتوجب إفهام "التيار الوطني الحر" أن أعداد المتظاهرين تزداد نتيجة لغيابه. بمعنى آخر، إن المشاركة العونية في 14 آذار 2005 كانت نافلة وغير ذات معنى، لا بل إن الخلاص منها يؤدي إلى تشجيع أعداد إضافية على الانخراط. حسناً. يفترض بهذا التقدير أن يقود مباشرة نحو امتلاك شجاعة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع في بعبدا عاليه. إلا أن ما يحصل هو عكس ذلك حيث يتم اعتماد المرشح المقترح من العماد ميشال عون بصفته مرشح توافق وذلك بالرغم من أن "قوى 14 آذار" تعتبر نفسها، من دون الجنرال، أكثر شعبية مما هي معه.‏

تُطرح معركة إقالة رئيس الجمهورية في سياق تصاعدي تميّز بزيادة الافتراء على "حزب الله" وتعيين مستقبل بائس له. جرى تحويله إلى ميليشيا خطيرة لا يُؤمَن لها، وطالب البعض بتسريحه، وصدرت اقتراحات مغالية في التبرؤ من ماضي أصحابها. ولما بات واضحاً ومحسوماً أن التصويب على لحود يستهدف، عملياً، المقاومة، جاء من يتحدث عن إقالة الرئيس بدعم من "حزب الله". وهناك من لم يخجل في إدخال تعديلات على خطابه السياسي تؤشر إلى انفتاح على أطروحات الحزب ودعوته إلى الحوار. صحيح أن اللبناني "ذكيّ" و"شاطر" إلا أن الفهلوة، في هذا المجال، فاقت كل حد.‏

قيل في غمرة "النشوة المليونية" إن اللبنانيين حسموا نتائج الحوار قبل أن يبدأ. وقيل إن مواضيع معينة هي خارج مبدأ الحوار. وقيل إنه يتوجب قصر الحوار على عناوين جانبية لأن الأغلبية تريد أن تحسم، منفردة، ما تقدر على حسمه. لكن هذه المبالغات تراجعت. وثبت أن من يظهر بمظهر المسؤول عن التوتير يفقد من صدقيته. وتبين أن الحاجة ماسّة إلى دور رئيس المجلس النيابي نبيه بري في ترتيب أمور "الآلية الدستورية" (الدعوة إلى جلسة جديدة لانتخاب رئيس مثلاً). وبما أن الرئيس نفسه هو صاحب مبادرة الحوار كان لا بد من الانحناء والإيحاء بأن أحداً لن يقاطع الطاولة المستديرة.‏

ويمكن الاستطراد في تسجيل تراجعات حصلت في أسبوع واحد: لم تعد التظاهرات الكبرى الفورية واردة، ولم تتجاوب الهيئات الاقتصادية مع دعوات التصعيد، وتم التراجع النسبي أمام احتمال المبادرة العربية، وخفّت حماسة البعض لإسقاط النظام السوري من لبنان، إلخ...‏

نعم، شرع التواضع يغلب بعض الشيء وخاصة مع بروز الفوارق بين "حكمة" فؤاد السنيورة وحماوة رأس عدد من الآذاريين البريستوليين. وشهدنا كيف يتم تنظيم النزول من الشجرة العالية. وهذا جيد.‏

لا يعني ما تقدم أن "قوى 14 آذار" انسحبت من المعركة. إنه يعني، فقط، أنها تعيد تنظيم صفوفها بعد أن أدّى الاستطلاع بالنار الذي أجرته إلى كشف الجوانب الارتجالية في استراتيجيتها، وهي جوانب أحدثت توتيراً لا مبرر له في لبنان وزادت من هشاشة وضعه.‏

المعركة مستمرة بشروط جديدة توضح أن قضايا مصيرية من هذا النوع لا يمكنها أن تكون خارج التوافق وضده.‏

وربما كان علينا أن ننتظر نتائج الجولة العربية لوزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس لنعرف "كلمة السر" الفعلية وكيفية ترجمتها لبنانياً من جانب القوى "السيادية". الوجهة العامة ل"الكلمة" معروفة سلفاً والبحث مقتصر على كيفية تحويلها إلى سياسة جديرة بهذا الاسم ولو.. ضارّة!‏

المصدر: السفير ـ 22/2/2006‏

2006-10-30