ارشيف من : 2005-2008
من فلسطين إلى لبنان: جرائم الديموقراطية
كتب جوزف سماحة
للرئيس الأميركي جورج بوش عبارة شهيرة كرّرها غير مرة في خطاباته عند التعرّض إلى اهتمامه بنشر الحرية في "الشرق الأوسط الكبير". يقول مخاطباً مصر "إن هذه الأمة العظيمة التي قادت المنطقة نحو السلام عليها أن تقودها الآن نحو الديموقراطية".
تختزل هذه العبارة تناقض الخطاب "البوشي". فهو عندما يسبغ على مصر صفة "الأمة العظيمة" لا يكون يقرّر واقعاً توصل إلى القناعة به بعد اطلاع كاف على تاريخ البلد، وأهميته، ودوره، وموقعه، إلخ... إنه يفعل ذلك لأنه يملك طلباً يريد طرحه. وتقديماً لهذا الطرح يلجأ بوش إلى اللغة الكولونيالية المعهودة والممجوجة فيسبغ على "السكان الأصليين" مدائح يعتقد أن قيمتها الكبرى مستمدة من أنه هو شخصياً من ينطق بها. إنه هو من يقرّر، بأبويّة استعمارية تقليدية، "عظمة مصر". ولقد لاحظنا كم أن هذه العبارات تكاثرت في مرحلة التمهيد الأميركي البريطاني للحرب على العراق، عراق الشعب العظيم، والكفاءات، والتاريخ العريق. لا نعلم اليوم ماذا يقول بوش وطوني بلير عن العراق نفسه، ولم يكن مفهوماً وقتذاك سبب الاضطرار إلى حرب لإنقاذ شعب يفترض، حسب ما يوصف به، أن يكون قادراً على تحرير نفسه. إن تعظيم الشعوب والبلدان في القاموس الاستعماري هو مقدمة لمعاملتها بفوقية شبه عنصرية.
ولكن يبقى أن الأهم في الخطاب "البوشي" عن مصر هو في مكان آخر.
المعروف أن الرئيس الأميركي، على ضآلة قراءاته ومعارفه بأحوال العالم، طالع كتاب الاستيطاني الصهيوني ناتان شارانسكي "قضية الديموقراطية". وفحوى الكتاب أن السلام بين إسرائيل والعرب وبين إسرائيل والفلسطينيين غير ممكن، والتسوية لا يجب أن تكون واردة، إلا بعد انغراس الديموقراطية لدى العرب والفلسطينيين. وفكرة شارانسكي المتبناة من جانب "المحافظين الجدد" الأميركيين كان سبق لبنيامين نتنياهو أن طرحها في كتابه "مكان بين الأمم". وتشاء "الصدف" أن تكون المهلة المعطاة للفلسطينيين من أجل التمرّس بالديموقراطية هي، بالضبط، المهلة التي تحتاجها إسرائيل من أجل مصادرة أرضهم.
لم يكتفِ بوش بما تقدم. لقد جعل هذه الأطروحة جوهر سياسته الخارجية القائمة على "إنهاء الطغيان في العالم" واعتبر أن لا سلام ولا أمن للولايات المتحدة قبل استتباب الديموقراطية في العالمين العربي والإسلامي. وبدا الرئيس الأميركي موافقاً على النظرية المبتذلة القائلة "إن ديموقراطيتين لا تتحاربان" والتي زادها ابتذالاً أحد صحافيي "نيويورك تايمز" عندما كتب أن لا مجال لتقاتل بين دولتين في كل واحدة منهما "ماكدونالدز"!
الديموقراطية، إذاً، شرط للسلام، والديموقراطية العربية والفلسطينية مقدمة ضرورية للسلام مع إسرائيل. هذه هي "البوشية" التي جرى تطبيقها على الرئيس الشهيد ياسر عرفات وشكّلت المرشد الأساسي للتعاطي معه ومع سلطته.
حسناً. لنعد الآن إلى عبارة بوش عن مصر. تقول العبارة إن مصر سبق لها أن قادت نفسها والمنطقة نحو السلام ويتوجب عليها الآن أن تقود نحو الديموقراطية. وبكلام أكثر وضوحاً، فإن السلام لم يكن مشروطاً بالديموقراطية بل سابقاً عليها. وبقدر من المبالغة المحسوبة يمكن الزعم بأن هذا السلام مناقض للديموقراطية ولا يصمد أمام امتحانها.
لقد كرّرت كوندليسا رايس في محطتها القاهرية بعض ما يقوله رئيسها. إلا أنها أضافت عليه بُعداً يزيده تناقضاً. لقد طالبت النظام المصري بمزيد من الديموقراطية وطالبته في الوقت نفسه بالتدخل من أجل المساعدة في تطويق نتائج "الديموقراطية" الفلسطينية التي عبّرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة. أكثر من ذلك استخدمت رايس التطلّب الديموقراطي من القاهرة (وفي خلفية ذلك المساعدات، والمفاوضات التجارية...) لتطلب من القاهرة الانتقاص من الديموقراطية الفلسطينية. ورفعت الوزيرة الأميركية شعاراً غرائبياً إلى أبعد حد مؤدّاه: سنرفع سيف الديموقراطية فوق مصر إلى أن توافقنا مصر على إنزال المقصلة على رأس الديموقراطية الفلسطينية، إن ما نريده منكم هو، تماماً، عكس ما نريدكم أن تطلبوه من أشقائكم الفلسطينيين... وإلا فإن الموت جوعاً ينتظرهم!
لم يسبق أن شهد العالم حالة تحوّلت فيها العقوبة القصوى إلى رد على ممارسة شعب لحقه في الاختيار عبر صناديق الاقتراع. ولا يتوقف أحد كفاية عند واقعة أن صاحب العقوبة، وفارضها، والساعي إلى إشراك الآخرين في تنفيذها هو نفسه رافع شعار "إنهاء الطغيان"، والمصرّ على تهديد من يخالفه بأنه سيضغط عليه باسم الديموقراطية المفقودة لديه!
إنه زمن امتهان العقول والكرامة. وستكون جولة رايس مناسبة إضافية لرؤية مهانات أخرى. إنها مهانات لنا فيها، في لبنان، نصيب.
هل هناك من قرأ، بدقة، "عريضة الإكراه" التي ينوي نواب سابقون وحاليون التوقيع عليها؟
لنقل، بادئ ذي بدء، إنها عريضة يُراد لها أن تفتتح الآلية "الدستورية" من أجل إعادة إحياء الديموقراطية اللبنانية. إلا أنها عريضة يقبل الموقعّون عليها مخالفة الحقائق من أجل الإقدام على إذلال للنفس لا سابق له. يقولون إنهم تعرّضوا إلى "ضغوط وتهديدات من الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية" ويقولون إن هذه "الضغوط والتهديدات فاقت قدرتنا على التحمّل ودفعتنا إلى الموافقة مرغمين وهو ما يجعل تصويتنا باطلاً ولاغياً وكأنه لم يكن".
لا بد من ملاحظات على هذه العريضة التدشينية للديموقراطية:
أولاً من المؤكد أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري تعرّض إلى ضغط. إلا أنه من المؤكد أيضاً أن نواباً راعوه من غير أن يتعرّضوا إلى أي ضغط.
ثانياً إن نواباً آخرين تعرّضوا إلى ضغط ورفضوا الانصياع.
ثالثاً إن أقل الإيمان في من يشكو اليوم من أنه خان أمانة الناخبين وفضّل سلامته الشخصية على انتداب المواطنين له، إن أبسط الإيمان أن يكون صارح المواطنين بحقيقة خيانته لهم قبل التقدم منهم بطلب التفويض مرة ثانية.
رابعاً إن ألف باء الديموقراطية يقضي بأن يقدّم النواب استقالتهم اليوم وأن يقفوا إلى هامش الحياة العامة.
إلا أن أعاجيب الديموقراطية الأميركية، في لحظة تصديرها، لا تقف عند هذه التفاصيل، ولا ترتدع عن ارتكاب جرائم كثيرة في مسيرتها الظافرة. ومن الجرائم التي قد نفاجأ بها أن لائحة المستعدين لنقل البندقية من كتف إلى كتف أوسع مما كنا نعتقد. إن في الجو رائحة خيانات محتملة.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية 23 شباط/فبراير2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018