ارشيف من : 2005-2008

في العراق وفي لبنان: لا تسويات بلا تنازلات

في العراق وفي لبنان: لا تسويات بلا تنازلات

صحيفة السفير/ جوزف سماحة‏

يقف العراق عند حافة الهاوية. يكاد ينزلق إليها. يضع رجلاً في الفراغ. يتردد. يتراجع. يتأرجح. تتكاثر الاعتداءات المذهبية. تحصل ردود أفعال. تزداد عمليات التطهير. تتعرض الإرادات لاختبارات أقسى فأقسى، وتتعرض الخطابات السياسية لتجاذب يوزعها بين التمحور على الذات الراغبة في الثأر، والتضامن مع الشقيق في لحظة تعرّضه لظلم. كان الأسبوع الماضي صعباً في سياق أعوام صعبة وعقود صعبة. إلا أن الوشائج لم تنقطع تماماً ولا يزال أفق التسوية مفتوحاً.‏

ينعكس الحدث العراقي على لبنان طبعاً. ثمة تربة خصبة، وتزداد خصوبة، لتلقي التفاعلات والانفعال معها والتموضع حيالها. وعندما نستمع إلى تعليقات في بيروت عن مخاطر الفتنة في العراق، ندرك، بسرعة، أن الكلام موجه إلى اللبنانيين أيضاً، وأنه تحذير من السماح لتصدعات واضحة في البيئة الإسلامية (السنية الشيعية) بأن تأخذ مداها. الحرص واضح هنا على عدم الوصول إلى "العرقنة" في وقت يُقال إن الخطر الذي يتهدد العراق هو اندفاعه نحو شكل من أشكال "اللبننة".‏

التأثر اللبناني بأحداث العراق هو "لبناني" بمعنى ما. أي أنه محكوم بالسياق الوطني الداخلي، وبالأمزجة المذهبية المحلية والخيارات التي استقرت (ولو موقتاً) عليها. يعني ذلك، مثلاً، أنه يمكن لمسلم سني لبناني أن يشعر بعرفان جميل حيال سياسة أميركية "ترعى" البلد وأن يكون معادياً جذرياً للسياسة الأميركية إياها في ما يخص العراق. إنه مع رايس هنا وضدها هناك. وقد تقوده التباسات موقفه إلى استحضار الزرقاوي القابل، في لبنان، كما في العراق، لاستخدام مزدوج ضد الصليبيين و... المواطنين. وفي المقابل، يمكن لمسلم شيعي لبناني أن يكون شديد العداء للسياسة الأميركية في لبنان من غير أن يمنعه ذلك من الإعجاب بأحمد الجلبي في العراق أو بغيره من الذين ينكرون أي مبرّر لمثل هذا العداء.‏

لقد شهدنا، في العراق، في الأيام الماضية، بروز خطين متوازيين: التوتر الأهلي من جهة، ومساعي التوافق ودعوات الانضباط من جهة ثانية. لا بل يمكن القول، تأسيساً على التجربة اللبنانية، إن الإكثار من التودد وإظهار الأخوة غالباً ما يعكس تقديراً لخطورة الحال. ولقد كان واضحاً أن هناك في لبنان مَن سارع إلى إقفال النوافذ التي يمكن للرياح العراقية الضارة أن تدخل منها: مهرجانات، زيارات متبادلة، مواقف مشتركة، نداءات، اجتماعات علمائية... إلخ.‏

غير أنه في لبنان، كما في العراق، لا يمكن معالجة هذا التردي بالمراهم والكلام المعسول والخطوات الفولكلورية. ففي العراق، مثلاً، لا مجال للمباشرة بوأد الفتنة إلا بالاتجاه نحو سياسات وطنية تعاقدية تقوم، في الحد الأدنى، على رفض الاحتلال ورفض الإرهاب التكفيري. هذا الحد الأدنى ضروري ولو أنه قد لا يكون كافياً.‏

أما في لبنان، فالوضع أكثر تعقيداً وذلك بفعل خصوصيات التعددية اللبنانية التي تضيف أبعاداً أخرى على التوتر المذهبي. يفترض، من حيث المبدأ، أن يكون اللبنانيون متجهين إلى حوار وطني. ويحصل ذلك في وقت انهار فيه التحالف الرباعي، وتحالف 14 آذار، واستجدت مواضيع خلافية، وتعرّض الجو السياسي لنوع من التسميم الذي ساهمت فيه مواقف تصعيدية غير محسوبة. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الحوار العتيد يمكنه أن يكون ناجحاً من غير أن تكون القوى الرئيسية واعية لضرورة الإقدام على تسويات سياسية جدية. إن رسم سقف للاختلاف، وخفض التأثر بالوقائع العراقية، غير ممكنين بنداءات نوجهها إلى العراقيين أو بتكرار تعويذات من نوع "لبنان أولاً".‏

ومن البديهي، عشية أي حوار، أن يشعر المواطن العادي بقلق. ومصدر القلق أن الوثيقة الوحيدة الناتجة عن حوار جدي بين طرفين مختلفين لاقت، عند غيرهما، هذا القدر من التجاهل أو التحامل أو التفسير القائم على سوء النوايا. إن التفاهم الذي جرى التوصل إليه بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" كان يمكن له أن يشكّل معلماً في نوعية السلوك السياسي والحسّ التسووي بما يقطع الطريق على أي محاولة لمداواة الانقسام بالأهازيج الوحدوية.‏

لو قيل، قبل أشهر، إن "الحزب" و"التيار" قادران على صياغة أرضية تلاق حول سلاح المقاومة أو العلاقة مع سوريا أو الفارين إلى "إسرائيل" أو ترسيم الحدود... لو قيل ذلك لبدا غريباً. غير أنه حصل. إلا أنه حصل في ظل انقلاب في التحالفات والمواقع والمواقف بما سمح لرافضي التوافق الاختباء وراء القنابل الدخانية من أجل إطلاق النار على وثيقة يمكن القول فيها إنها تتضمّن المطالب المشروعة للأطراف كلها وليس حصراً للطرفين الموقعين عليها. وليس مقنعاً لأحد هذا التركيز على أن تجاهلاً وقع لاتفاق الطائف أو للقرارات الدولية الطارئة. ليس مقنعاً لأن هذا التركيز ليس محكوماً بإحياء الروح التوافقية للطائف.‏

لقد رسم طرفان لبنانيان الحدود التي يمكن أن يصلا إليها من أجل التوصل إلى تفاهم، ورسما، في الوقت نفسه، معالم تسوية إجمالية، وأوضحا أنهما قادران على تنازلات جدية رداً على معضلات الوضع اللبناني. يصعب قول الشيء نفسه عن آخرين مدعوين إلى الحوار ويريدون له أن يكون محكوماً بأكثر حلقاته غلواً وتطرفاً.‏

2006-10-30