ارشيف من : 2005-2008

صحيفة السفير/ عندما يتواضع بوش في تعريف "الانتصار"

صحيفة السفير/ عندما يتواضع بوش في تعريف "الانتصار"

جوزف سماحة‏

طموح كل تلميذ كسول أن يكون مسموحاً له باختيار الأسئلة المطروحة عليه وبوضع العلامات. يستحيل عليه، والحالة هذه، إلا أن ينجح.‏

جورج بوش، بهذا المعنى، تلميذ كسول. فمنذ فترة وهو يردد في ما يخص العراق: "لا نملك استراتيجية خروج. نملك استراتيجية انتصار". فعل ذلك، للمرة الأخيرة، أول من أمس. يطرح على نفسه السؤال نفسه. غير أنه يتعمّد التلاعب بمعنى الكلمة المفتاح في العبارة المشار إليها: انتصار. أي أنه يحاول، في كل مرحلة، أن يعطيها مضموناً مختلفاً وأكثر تواضعاً بحيث يمكن الزعم أن ما كان يعتبره هزيمة محققة قبل سنتين مثلاً بات يعتبره، حالياً، انتصاراً مبيناً.‏

بكلام آخر فإن بوش لم يكذب فقط في أسباب الحرب ومبرراتها بل هو يكذب، أمام أعين العالم، في ما يعتبره انتصاراً في هذه الحرب.‏

عشية غزو العراق وفي بدايته كان لـ"الانتصار" معنى. كان يساوي قيام نظام ديموقراطي فدرالي في العراق ينتهج، اقتصادياً، سياسة انفتاح، يصادق الولايات المتحدة ويرحب بوجود جنودها ويدخل معها في معاهدات، يميل إلى تطبيع العلاقة مع "إسرائيل". أكثر من ذلك كان يفترض بهذا النظام أن يشكل منارة للشرق الأوسط الكبير وأن يطلق مفاعيل الـ"دومينو" بحيث يدخل العرب والمسلمون أفواجاً في الدين الجديد فتتخلى دول عن أسلحتها، وديكتاتوريات عن قمعها، وأنظمة عن طموحاتها، وشعوب عن حقوقها، ويسود وضع يستأصل الإرهاب فينعم العالم بالسلام ويصبح أكثر أمناً.‏

قال أقطاب الإدارة وردد بعدهم الكثيرون إن هذا "الانتصار" في متناول اليد. فالعراق، في هذا المنظور، هو الموقعة الثانية، بعد أفغانستان، في الحرب المفتوحة لأجيال على الإرهاب. إلا أنه موقعة حاسمة. لذلك سارع بوش بعد أسابيع على سقوط بغداد إلى إعلان أن "المهمة انتهت". وأصر المسؤولون الأميركيون على هذا "العناد المتفائل" إلى ما قبل أسابيع حين لاحظ ديك تشيني ما لم يلاحظه غيره (ما يلاحظ الآخرون عكسه بالضبط) من أن التمرد يلفظ أنفاسه الأخيرة.‏

ولكن بعد أشهر على الاحتلال وبعد بدايات اصطدام التفاؤل العنيد بالوقائع الأكثر عناداً شرعت الإدارة تراجع معنى "الانتصار" في اتجاه أكثر تواضعاً. لقد بات يساوي قيام حكومة تمثيلية (أي أقل من ديموقراطية) تحيي الخدمات، وتنهض بالحد الأدنى من أعباء الدولة، وتوافق على شكل من الوجود الأميركي، وتكتفي بعدم معاداة "إسرائيل" والتصعيد اللفظي ضد بعض الجيران، وتستند إلى جيش يمكنه ضبط الوضع وتأمين الاستقرار. أما الوظيفة الإقليمية لهذا الوضع فليست أكثر من تسليح الأميركيين بما يمكّنهم من المطالبة بتحسينات تجميلية وبالتزام أكبر في المشاركة في الحرب على إرهاب متراجع ومحاصر.‏

ولقد شهدت هذه المرحلة "نجاحات" سمحت لبوش بأن يتباهى بأن خط "الإيجابيات" البياني متصاعد. إلا أن المباهاة لم تقنع كثيرين مما اضطر الرئيس الأميركي، الرافض الاعتراف بأي أخطاء، إلى تسهيل الأمور على نفسه عبر تقديم تعريف جديد لمعنى "الانتصار". لقد بات يساوي قيام هيكل سلطوي يمثل من يمثل ويعزل من يعزل، وامتلاك قوة عسكرية أهلية (ذات صبغة مذهبية وعرقية) تتمتع بحد أدنى من التدريب والجهوزية يسمح لها بالقتال ضد التمرد. وبدا أن بوش يمكنه الاكتفاء بالقول إن الوضع الجديد أفضل من سلطة صدام حسين من أجل أن يستنتج أن انتصاراً تحقق، وأن المهمة أنجزت هذه المرة فعلاً. ولذا بات الشعار الجديد هو أن القوات الأميركية ستنكفئ بمقدار تقدم قدرة العراقيين على قتال بعضهم مع رفض تحديد جدول زمني دقيق لذلك.‏

ما يتوجب فهمه من الأطروحة الأميركية الأخيرة هو أن القتال قد يستمر بعد الانسحاب أو الانكفاء من غير أن يشوّش ذلك على قدرة الادعاء بأن هذه هي "استراتيجية الانتصار" البديلة من "استراتيجية الخروج".‏

لقد تراجعت، في الولايات المتحدة، الأصوات الداعية إلى إرسال المزيد من القوات العسكرية من أجل حسم المواجهة. كذلك تراجعت الادعاءات بالقدرة على بناء نظام توافقي وتمثيلي فعلاً على قاعدة عزل التمرد. ويبدو السجال، اليوم، دائراً بين دعاة "الخروج" ودعاة التعريف السهل لـ"الانتصار". ولم يكن ذلك ليحصل لولا تزايد الشعور بالتعثر والفشل الناجمين عن سوء التقدير الأصلي. "لم نغز العراق الواقعي. لقد غزونا عراق أحلامنا"، قال أحد المعلقين الأميركيين.‏

المناخ السائد في الولايات المتحدة ميال إلى التشاؤم. تؤكد استطلاعات الرأي ذلك. وتؤكده، بفعالية أكبر، نسبة التطوع في الجيش المتدهورة بانتظام. ومن الواضح أن سياسياً أميركياً واحداً لن يغامر بطلب فرض ضرائب من أجل تمويل الحرب في حين يمضي بوش في سياسة الاقتطاع الضريبي (لصالح أغنى الأغنياء) في ما يبدو تفضيلاً للأجندة الداخلية على غيرها، وفي ما يبدو دليلاً على شكوكه بوجود حماسة شعبية من أجل دفع كلفة "الحرب الكونية الرابعة".‏

ولعل التقاط هذه اللحظة الأميركية يفيد المقاومة العراقية من أجل أن تصوّب التسديد وتتصرف انطلاقاً من الإدراك القائل بأن المواجهة تحسم، إلى حد بعيد، في الداخل الأميركي. فهذه المقاومة، الوطنية والعبثية والدموية، لم تعد في نظر الكثيرين "حفنة من المجرمين". وثمة تصريحات لقادة سياسيين ولعسكريين ميدانيين تضطر إلى "الإشادة" بفعالية المقاومة وقدرتها على التكيّف. ولامس الأمر المستوى السياسي عندما بدا أن الإدارة مضطرة إلى تغيير مصطلحات التعاطي مع الشأن العراقي. فلقد برز، لفترة، أن تعبير "الحرب على الإرهاب" اختفى ليحل محله "الصراع الشامل ضد التطرف العنيف". وكان القصد من ذلك الإيحاء بأن المعركة لن تحسم عسكرياً فقط، وأن للدبلوماسية دوراً، وأن التفاوض مع بعض الأجنحة ممكن، وأن التمييز واجب بين "إرهاب" يطال المدنيين وبين "تمرد" موجه ضد الاحتلال الأجنبي. وتورط دونالد رامسفيلد نفسه في استخدام اللغة الجديدة، ومثله ريتشارد مايرز. إلا أن بوش تنبه إلى الآثار المعنوية الضارة لهذا التصحيح اللغوي فبادر إلى استعادة التعريف السابق عاطفاً إياه على المراجعة التي اضطر إليها في ما يخص معنى "الانتصار".‏

لقد مرّ وقت هيمنت فيه النظريات الوردية لـ"المحافظين الجدد" على المغامرة الأميركية في العراق. كان ذلك زمن الاعتقاد بأن الثورة الديموقراطية تكون دائمة أو لا تكون وأنها لا بد أن تكون دائمة من فرط سهولتها. قيل في تلك المرحلة إن "البوشفيك" خطفوا السياسة الخارجية الأميركية.‏

قد لا تكون تلك المرحلة انتهت تماماً. وليس هناك من وما يمنع بوش من تكرار المغامرة. ولكن لا بد من ملاحظة أن "الواقعيين الجدد" باتوا أقدر على منافسة "المحافظين الجدد" مما كانوا عليه في السابق.‏

أحد هؤلاء "الواقعيين الجدد" إدوارد لوتواك الخبير في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" والمستشار لدى البنتاغون. والرجل من دعاة الانسحاب من العراق حيث "يجب أن تحصل الأمور على الطريقة الشرق أوسطية" أي عبر "الحرب الأهلية" التي غايتها "رسم التوازن". إن "الحرب الأهلية" في رأي لوتواك "شر لا بد منه وهي آلية ضرورية لإعادة ضبط الأمور وإعادة التوازن السياسي وصولاً إلى السلام". وبهذا المعنى فإن "الوجود الأميركي هو عائق أمام سيرورة طبيعية" و"دموية"!‏

إن ما يقصده لوتواك، في الواقع، هو أن "الفوضى البنّاءة" ليست مشروعاً يمكن لواشنطن الإقدام عليه انطلاقاً من وجودها في العراق المستقر والمخضع. إنها مشروع يبدأ في العراق وعن طريق الانسحاب منه.‏

ولعل المضمون الجديد الذي يعطيه بوش لمعنى "الانتصار" يقع في منزلة بين منزلتي "المحافظين الجدد" و"الواقعيين الجدد".‏

2006-10-30