ارشيف من : 2005-2008
من أوراق الجرائد اللبنانية اليوم 27 تموز/ يوليو 2005
صحيفة السفير/ كتب طلال سلمان في زاوية على الطريق تحت عنوان
سمير جعجع إلى الحرية: لا "فعل ندامة" ولا "فعل اعتراف"؟!
مبروك لسمير جعجع هذا الانتصار الذي تحقق له، بعفو سياسي بما يشبه الإجماع النيابي، فأعاده معززاً مكرماً، وبصفات لم يكن يدّعيها أو يحلم بها، إذ تعدت حدود البطولة إلى القداسة، إلى موقعه في النادي السياسي اللبناني، الذي ظل شاغراً ينتظره طيلة أحد عشر عاماً أو يزيد قليلاً.
ولكن المواطن العادي كان يأمل ان يسمع من هذا السجين كلمات تفيد بمراجعة تجربته السياسية والعسكرية الغنية، خصوصاً انه لعب دوراً استثنائياً قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثم بمزيد من النفوذ بعده، وخاض معارك هائلة في الشمال وجبل لبنان وصولاً إلى اطراف بيروت وشرقي صيدا، وكان أحد بطلي "حرب الإلغاء"، قبل ان تضمّه التسوية (اتفاق الطائف) إلى سلطتها السياسية التي سرعان ما خرج منها لأن ما عرض عليه كان في تقديره أقل مما يستحق.
لم يكن أحد يطمح إلى سماع نقد ذاتي كامل للتجربة، خصوصاً والرجل يخرج من السجن إلى حفاوة مبالغ بها من طرف الطبقة السياسية التي تضم شركاءه السابقين واللاحقين (ولو من موقع الخصومة).
وليست مسؤولية سمير جعجع ان يكون العفو السياسي قد تجاوز الحدود، فطوى صفحة سوداء من تاريخ تجربته، عبر الحرب الأهلية وبعدها، ولكن يظل ان هذا المقاتل الجبلي الذي تختلط في وجدانه ثقافة كهنوتية بأفكار تبشيرية حول العدالة والمساواة يجنح إليها أبناء الأرياف عادة، لم يتوقف لحظة واحدة للمراجعة الذاتية، ولم يجد في سيرة ماضيه ما يستحق الإشارة إليه، فاكتفى بأن دعا إلى طي صفحة الماضي والتطلع إلى الأمام.. وكأن الماضي ليس موجوداً في المستقبل.
لقد تعامل سمير جعجع مع اللبنانيين طبقاً لتقاليد السياسة المحلية "العريقة" التي تتعامل مع شعبه وكأنه بلا ذاكرة... بل لعل التوصيف الأدق يقضي بالقول ان للبلد ذاكرتين بل ثلاثاً، أو أربعاً أو خمس ذاكرات، أو ربما تكون بعدد الطوائف والمذاهب والشيع.
فـ"الخائن" لدى طائفة "بطل" لدى الطائفة الأخرى، و"المجرم" هنا قد يكون "محرّراً" هناك، والعكس صحيح. وينسحب هذا التقلب في التوصيف على الرؤساء والزعماء، إجمالاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر: فقد كان إميل إده "بطلاً" ثم انقلب في ذهن العامة، مع اعتراضه على تعديل الدستور بعد إعلان الاستقلال، إلى "خائن"! وجاء بشارة الخوري إلى رئاسة الجمهورية كبطل للاستقلال وخرج منها مداناً بتهم شتى بينها الفساد وما هو أخطر: "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب"...
وكذا الأمر مع كميل شمعون الذي بات رئيساً بوصفه "فتى العروبة الأغر" وانتهى مداناً بتهمة الاستعانة بالأجنبي، مما جعله أكبر الزعماء المسيحيين إلى ما قبل انفراد آل الجميل بتلك الزعامة بالوسائل كافة بما فيها السلاح والتنقل طلباً للدعم بين نهاريا الإسرائيلية والعاصمة السورية. أما سليمان فرنجية الذي وصل إلى الرئاسة بقوة "الحلف الثلاثي" فقد انتهى متهماً بأنه والى الحكم السوري أكثر مما يجب. وأما أمين الجميل الذي وصل إلى الرئاسة، بعد اغتيال شقيقه بشير الجميل، ومثله على ظهر الدبابة الإسرائيلية، والذي عقد "اتفاق 17 أيار" تحت عنوان تسريع جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان، بينما الاتفاق يسترهنه، فقد اعيد إليه اعتباره بعد خروجه من الرئاسة وقد تركها للريح وتجديد الحرب الأهلية.
... وفي ظل هذه الحرب المتجددة صار سمير جعجع أحد زعيمين في "المجتمع المسيحي" كان لا بد من "حرب إلغاء" بينهما لأن في بيت الزعامة مقعداً واحداً.
لكل طائفة في لبنان ذاكرتها. ولكل ذاكرة أبطالها.. وبالمقابل تستقر فيها صور "الاعداء" من القادة المنافسين الذين لا يتورع خصومهم عن تصنيفهم "خونة" أو "من المتعاملين مع العدو". وحتى "العدو" متغير: فهو في ذهن البعض "إسرائيل" وحدها، وفي ذهن آخر هو سوريا بلا شريك!
مبروك لسمير جعجع حريته المستعادة بعفو حظي بما يشبه إجماع الطبقة السياسية، بقديمها وجديدها المستولد حديثاً... (ولا بد ان نذكر بفضل قرينته ستريدا جعجع في إبقاء "قضيته" حية، وفرضها شرطاً للتحالف مع الذين طلبوا التحالف معها لمواجهة الخصم القديم الجديد: "الجنرال")!
.. ولكن اللبنانيين الذين لم يخرجوا للاعتراض على ذلك العفو الاستثنائي كانوا يأملون ان يسمعوا منه، إضافة إلى تصنيفه للقوى الحليفة مع تناسي الآخرين، شيئاً من النقد الذاتي، أو المراجعة التي اتسع لها وقته الطويل خلف القضبان.
كانوا يأملون منه ان يكبر، مع عفوهم، فيتجاوز نفسه بكل مراراتها ليطلق كلمة اعتذار للضحايا الذين تسبب بإيذائهم، من موقع القائد المسؤول.
ولعلهم كانوا يأملون ان يسمعوا منه، وبالتحديد، ولو تلميحاً إلى الأسباب التي أدت إلى توقيفه، وإلى صدور تلك الأحكام بالسجن المؤبد عليه من أعلى السلطات القضائية في لبنان.. خصوصاً ان بين الضحايا الذين حوكم على جرائم اغتيالهم قادة وطنيين متميزين، على رأسهم الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وزعماء سياسيين بينهم داني شمعون، من دون ان نستذكر كل الضحايا ممن يمكن إدراجهم في خانة المقتولين في الجرائم التي "تبررها" الحرب وحواجزها الطائفية، كما البربارة.
لم تكن كلمة اعتذار رقيقة لتسيء إلى صورة "الزعيم المحارب"، خصوصاً انه أشار إلى ان "بيتنا اللبناني الداخلي في حالة اختلال وعدم توازن نتيجة الـ15 عاماً من القهر"... فتعهده بالعمل "لمزيد من التفاهم على إعادة التأهيل اللازمة" كان يقتضي مثل ذلك الاعتذار.
ويحفظ سمير جعجع "فعل الاعتراف" بالتأكيد، وهو يحفظ بالقطع "فعل الندامة"... لكن اللبنانيين لم يسمعوه يتلو أحدهما أو الاثنين معاً.
ولعله لو قرأهما كان قد خرج من الصورة "العسكرية" التي لا يحبها الناس فيه إلى صورة القائد السياسي المسؤول الذي يستحق عفواً أخطر وأبقى من ذلك الذي أقره مجلس فيدرالية الطوائف بقوة خوف بعضها من بعض، لا بقوة إيمانها بالوطن الذي لا يمكن ان يبقى وأن تتوطد أركانه إلا بوحدة وطنية حقيقية وحياة سياسية قائمة على أساس صلب، بين أسباب صلابته الاعتماد على المصارحة والمحاسبة ونقد الذات بدل الاكتفاء بنقد الآخر حتى "إلغائه".
عسى السيدة جعجع تذكره بهذين "الفعلين" خلال شهر عسلهما الجديد أو المتجدد.
صحيفة "الانوار"/ بالتزامن مع بدء جلسات الثقة اليوم كتب رؤوف شحوري تحت عنوان
ثقة للحكومة... وثقة للمعارضة أيضاً
عندما كان العالم ضدنا، كانت البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة، على جمال صياغتها ومضمونها، تؤدي الى نقيض ما ورد فيها. وكان مناخ الداخل يتناغم مع موحيات الخارج التحريضية. وكلما كان كيسنجر وزير خارجية أميركا الاسبق يحتاج الى ساحة يشعل فيها حريقاً ينشغل العرب باطفائه، لتمرير صفقات الصلح واتفاقات السلام بين مصر واسرائيل، كانت الساحة اللبنانية جاهزة للقيام بهذا الدور.
والعالم اليوم، ان لم يكن معنا فهو على الأقل ليس ضدنا في المطلق. ولا تحتاج كوندوليزا رايس وريثة كيسنجر في الخارجية الأميركية الآن الى حريق لتمرير صفقة الانسحاب الاسرائيلي من غزة، لأن في القطاع ما يكفي من حرائق التغطية! فضلاً عن أن المناخ في الداخل اللبناني محصن هذه المرة ضد رياح السموم الخارجية. ويضاف الى ذلك انه لم تعد توجد في العالم العربي تلك المعاندة اليومية التاريخية التي اتصف بها الصراع العربي - الاسرائيلي، فخفت بذلك الضغوط على لبنان - الساحة!
أهم ما في البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة ليس مضامينه الطموحة والجريئة وحسب، بل لأن هذه المضامين جاءت في لحظة تاريخية مناسبة يقف فيها العالم متفهماً لها ومستعداً لمساعدتنا على تحقيقها، وبخاصة تلك التي تساعد على التخلص من تاريخ طويل ومؤلم ومشين من الفساد الضاري الذي نهش اللحم الحي اللبناني طوال عقود، وبدء مسيرة اصلاح حقيقي وجذري. وتعرف كل القوى المشاركة في هذه الحكومة أو التي بقيت خارجها، ان عرقلة الإصلاح هذه المرة مهمة مستحيلة أو تكاد!
يطمح اللبنانيون الى حكومة استقلالية حقيقية هذه المرة، ليس هذا وحسب، وانما يطمحون ايضاً الى معارضة حقيقية تستقيم معها كفتا الميزان الديموقراطي، وعلى الدرجة نفسها من الأهمية... ذلك ان حكومات المحاصصة الطائفية الفاسدة لم تنتج غير معارضات المنافع الشخصية الفاسدة ايضاً.
من حق هذه الحكومة ان تأخذ فرصتها لتحقيق ما وعدت به. ومن حق المعارضة ان تراقب خطواتها الاولى في هذا الاتجاه. وكانت هذه الحكومة ورئيسها من الذكاء والنضج بحيث انها عبرت سلفاً عن ايمانها بدور المعارضة في النظام الديموقراطي، وبنوعية المعارضة التي يقودها العماد عون بالتحديد الذي ادخل نكهة خاصة، ومضموناً مختلفاً للعمل السياسي في لبنان.
المعارضة ليست نادياً للمجاملات الاجتماعية، وليس مطلوباً منها ان ترد التحية للحكومة بمثلها أو بأفضل منها. غير انه من واجبها الا تبدأ معارضتها بأفكار مسبقة، أو برواسب ناتجة عن عدم مشاركتها في الحكومة. والبداية الصحيحة للمعارضة هي ان تكون موضوعية. ونوعية تشكيل الحكومة ومضمون بيانها الوزاري لا يستحقان معارضة مسبقة مع نوع التصويت بـ"لا ثقة". وحتى لو كان للمعارضة تحفظات على تشكيل الحكومة أو لوجود نواقص جوهرية في البيان الوزاري، فالموقف الطبيعي في هذه الحالة هو الامتناع عن التصويت وانتظار الاداء الحكومي ومحاسبتها في جلسات المناقشة اللاحقة.
الحقيقة الجوهرية الثالثة هي ان الشعب اللبناني نفسه تغير، وهذا هو أساس التغيير في الواقع السياسي الداخلي والخارجي على السواء. وهو المرجعية الأخيرة لمحاسبة الجميع. وتخطئ المعارضة اذا اعتقدت ان الناس ستحاسب الحكومة وحدها على مواقفها وعملها، لأن المعارضة هي نفسها في دائرة الرصد أيضاً... فلننتظر لنرَ كيف سيخطو العماد عون خطوته الاولى في المعارضة الحكومية. ولا يكفي ان يقول ان "الحكومة مريضة منذ ولادتها" وانما ان يشرح: كيف?، وان يبرر لجمهور سامعيه على أي اساس بنى "نبوءته" بأن "المشاكل باقية" وكيف قرأ الغيب ليعلم انها لن "تسلك طريق الحل"?
وليس العماد عون في حاجة الى دروس من كوندوليزا رايس وزيرة خارجية أميركا في مجال "سوء التقدير". ولعله يحسب تقديراته جيداً هذه المرة في موقفه المعارض من الحكومة في لحظة انطلاقها. ولعل الانتنات العالية والحساسة للعماد عون تنقل اليه ان المزاج الشعبي الآن يجنح بقوة نحو الأمل بنجاح هذه الحكومة، وليس في مزاج معارضتها في لحظة انطلاقتها.
جلسات مناقشة البيان الوزاري ليست امتحاناً للحكومة وحدها بل هي ايضاً امتحان للمعارضة، ونأمل في ان تكون نتيجتها: ثقة للحكومة، وثقة للمعارضة أيضاً!
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018