ارشيف من : 2005-2008
هكذا يأخذ السنيورة ويعطي!
كتب عبد الغني طليس
لم يكن الإخراج اللغوي الأدبي الذي ابتكره الرئيس فؤاد السنيورة لمسألة اعتكاف الوزراء الشيعة وسمّي مقولة "لم ولن" الشهيرة، أول عهد السنيورة بالتنزّه في حدائق الأدب السياسي، وأول عهد الجمهور اللبناني بموهبته في ابتكار تلك المخارج اللفظية التي توحي بأنها مخارج سياسية مع انها ليست كذلك. فهذا الرجل الذي نادرا جدا ما تحدث في السياسة أيام وجود الرئيس الشهيد رفيق الحريري في السراي الحكومي وخارجه، ونادرا جدا ما شارك غيره من فريق الرئيس الشهيد في الدفاع في الاعلام عن حكومات الحريري سياسيا كونه كان "منذورا" للدفاع عن السياسات المالية على مدى اكثر من عشرة اعوام، وجد نفسه في لحظة مصيرية امام السياسة من بابها الأكبر عندما اختاره زعيم الاكثرية النيابية الجديدة النائب سعد الحريري بديلا منه في رئاسة الحكومة لاسباب تتعلق بموقف مبدئي للحريري الشاب من رئيس الجمهورية اميل لحود، واخرى تتعلق بخبرته السياسية (الحريري) الحديثة كما تردد، فضلا عن كونه كان مهددا في حياته فغادر البلاد لأشهر...
لقد عرف اللبنانيون "وزير المال" فؤاد السنيورة، وخبروا اسلوبه "اللطيف" في شرح الموازنات وفذلكاتها في اشكال كانت تخفف على المواطنين وقع الدين العام والعجز الفظيع بمراهم كلامية ثبت بالقطع انها كانت تؤجل هموم اليوم المالية عند اللبنانيين... الى الغد. ولم يكن السنيورة يدري ان الغد ينتظره هو، لا كوزير مالية بل كرئيس للوزراء، وبالتالي (وهذه المفردة له) قد يكون مضطرا مجددا الى التأجيل من الغد الى ما بعد الغد على اساس ان غدا لناظره في عجز خزينة لبنان... ليس بقريب!
على ان اطرف ما اكتسبه وزير المال فؤاد السنيورة من عادات في وزارته عادة "الأخذ والعطاء". فقد كان يأخذ من مال هذه الوزارة كي يعطي تلك الوزارة، ويأخذ من امكانات هذا "المجلس" كي يعطي "مجلسا" آخر، ويأخذ من موازنة هذه المؤسسة كي يعطي مؤسسة أخرى، وقد استبدّ به هذا النوع من الاخذ والعطاء حتى قيل انه يأخذ من فئة اجتماعية ليعطي فئة اجتماعية أخرى الى ان كادت الطبقة الوسطى تغيب. والحق يقال ان ابن البيت المتواضع الذي اصبح وزيرا للمال لا يمكن ان يوافق على هذا النوع الأخير من الأخذ والعطاء لأنه كمن يوافق على اعدام نفسه "بشكل او بآخر" (وهذا التعبير له ايضا).
لكن الغريب ان قاعدة الأخذ والعطاء التي اعتمدها السنيورة ماليا، انتقلت معه الى السياسة في رئاسة الحكومة، فراح يأخذ من هنا سياسيا ليعطي هناك حتى كاد المراقب يضيع في تحديد مكان السنيورة: أهو هنا أم هناك... أم هنالك؟
فهل يصح سياسيا ما صح مع السنيورة ماليا؟
فهو "يأخذ" من رئيس الجمهورية اميل لحود عندما يدعوه مرارا الى الاستقالة لانقاذ البلد، لكنه يعود ف"يعطيه" بالجلوس الى يمينه الى طاولة مجلس الوزراء راضيا مرضيا، وهو "يعطي" المقاومة عندما يصفها بأنها "لم ولن تسمى إلا وطنية"، ثم "يأخذ" منها في مؤتمر القمة العربية الأخير باعتراضه عليها. وهو "يأخذ" من سوريا عندما يوافق على الاتهام بأنها اغتالت رفيق الحريري ثم "يعطيها" عندما يقول انه ينتظر نتائج التحقيق الدولي. وهو "يأخذ" من المملكة العربية السعودية عندما يعلن انه لا علم له بمبادرة سعودية لتسوية الأمور بين لبنان وسوريا ثم "يعطي" المملكة بالاعتراف بالمبادرة وبدورها "الدائم" في مساعدة لبنان. وهو "يعطي" القادة المتحاورين الكبار في مجلس النواب عندما يصرح بأنه ذاهب الى الخرطوم بتكليف منهم، ثم "يأخذ" منهم عندما يطلق موقفا لا يمكن ان يوافقوه مجتمعين عليه. وهكذا... وعلى هذا القياس، فإن رب العالمين وحده يعرف ماذا أخذ الرئيس السنيورة وماذا أعطى في الولايات المتحدة الأميركية في زيارته لها (ربما لن يأخذ ولن يعطي!) من دون ان يعني هذا الكلام دعوة الى فحص دمه الوطني، فتاريخ الرجل معروف... وكل ما نود الاشارة اليه هو "الاسلوب".
ولو راقبنا تصاريح الرئيس السنيورة للإعلام بدقة، لوجدنا ايضا ان ثمة جملة "تأخذ" من جملة أخرى "تعطي"، واحيانا هناك جملة تأخذ وتعطي في وقت واحد، حتى ليمكن القول ان تصريحا طويلا له يمكن اختصاره بجملة او جملتين لا اكثر، او ان جملة واحدة يقولها قد تحتاج الى علم لغات كامل لتفسيرها فلا تُفسَّر!
لا يتقن السنيورة فن تدوير الزوايا السياسية الحادة فحسب، بل هو يتقن فن "تَزْوِيَة" الدوائر احيانا (اي جعل الدوائر زوايا) وتحديدا في الاقتصاد. وورقته الاقتصادية التي يجري بحثها حاليا تأخذ وتعطي مع الناس (تحاورهم)، قبل ان تأخذ منهم ما كان أُعطي لهم في غفلة من... سنيورة.
الرئيس فؤاد السنيورة "يُزَوّي" الدوائر. كلمة غريبة؟ ألم نتحدث في البداية عن الابتكار اللغوي الأدبي لحل العُقد السياسية المستعصية في جمهورية لا مثيل لها في الكمال ولم يعد ينقصها الا ... فخامة الرئيس؟
علينا، إذاً، بأبي الأَسْوَد الدؤلي!
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية 20 نيسان/أبريل 2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018