ارشيف من : 2005-2008

الإعلام وصورة بوش الحقيقية

الإعلام وصورة بوش الحقيقية

لقد كتبت يوماً عن جورج بوش أنه ``يقدر الولاء أكثر من الخبرة`` وأنه ربما ``يفضل هؤلاء المستشارين الذين يملكون ثروات مرتبطة بشكل أو بآخر بثروته الخاصة``، كما كتبت أنه يحب إحاطة نفسه بـ``حاشية مذعنة``· وبالرغم من أن هذه التعليقات المنتقدة لبوش لم تصبح رائجة بين الناس سوى في الأيام الأخيرة، إلا أنني نشرت كلاماً مشابهاً منذ 19 نوفمبر ·2000 وبالطبع لا يعني ذلك أنني أفضل من الآخرين في إصدار الأحكام الصائبة حول الأشخاص وفي النفاذ إلى أعماقهم، كل ما هنالك أنني أدليت بدلوي في النقاش الدائر حينها حول طريقة اختيار بوش لمستشاريه الاقتصاديين، وهو موضوع أزعم أنني أمتلك فيه بعض الخبرة، وهو ما جعل وصفي للرئيس بوش أقرب إلى الحقيقة·‏

لكن العديد من الناس، خاصة العاملين في وسائل الإعلام يدعون، على الأقل مع أنفسهم، أنهم خبراء في الحكم على الشخصيات وفهم تفاصيلها متناسين أن أحكامهم تلك تلعب دورا مهما، وفي بعض الأحيان دورا حاسما في حياتنا السياسية· وعلى سبيل المثال كان يمكن للانتخابات الرئاسية لسنة 2000 أن تنتهي بنصر مؤزر لآل جور، لو لم يتخذ المعلقون والإعلاميون موقفاً سلبياً منه، حيث راحوا يرسمون صورة جميلة لبوش أظهرته بمظهر الرجل الشريف والودود· وعلى نفس المنوال حُسمت نتائج الانتخابات الرئاسية في 2004 بناء على الصورة التي رسمتها له وسائل الإعلام كقائد يتميز بالقوة ورباطة الجأش· من جانبنا يحق لنا، أمام هذه الظاهرة التي تحكم على الشخصيات العامة بالتركيز على مناقبها، أن نسأل لماذا غالباً ما تكون تلك الأحكام مجافية للصواب؟‏

ففي الوقت الحاضر حيث تتخبط إدارة بوش في العديد من الأزمات، وتحارب على جبهات مختلفة، كثيراً ما أصبحنا نسمع عن الإخفاقات الشخصية للرئيس· لكن ماذا عن تلك الشخصية المهيبة التي كانت في السابق، وذلك القائد البطل في الحرب على الإرهاب؟ الجواب بالطبع هو أن صورة بوش كشخصية مهيبة لم توجد أبداً، بل كانت من نسج خيال المعلقين، لأن بوش هو نفس الرجل الذي كانه دائما· وكل المثالب في شخصية الرئيس التي أصبحت اليوم مادة للتندر في البرامج التلفزيونية، كانت واضحة لمن أراد أن يراها في الحملة الانتخابية سنة ·2000 وبعيداً عن الصورة المتخيلة للرئيس العظيم كما صورته وسائل الإعلام، فإن بوش ليس سوى رجل عادي يشبه باقي البشر· وللتأكد من دور الإعلام في إصدار الأحكام الخاطئة على الشخصيات العامة وبالتالي المساهمة في تزييف الواقع قارن بين خطاب هوارد دين المعارض للحرب على العراق، وخطاب كولن باول في الأمم المتحدة المساند للحرب· فبالرغم من أن الخطاب الأول كان صادقاً وواقعياً، بالنظر إلى الحقائق الجديدة التي نعرفها اليوم، في حين أن الخطاب الثاني ينضح بالأكاذيب، إلا أنهما صورا للرأي العام بطريقة عكسية تماماً، حيث انقلب الكذب إلى صدق والصدق إلى كذب!‏

لكن لماذا يحدث ذلك؟ يكمن جزء كبير من الإجابة في تفضيل وسائل الإعلام تسليط الضوء على الملامح الشخصية والتفاصيل الدقيقة للشخصيات العامة، لأنها تعتبر ذلك أمراً مهماً في فهم سياسات هذه الشخصيات، وكذلك لأنها تروق للجمهور الذي لا يخفي فضوله حول أدق التفاصيل الشخصية المتعلقة بالسياسيين· ومن هنا فإن المقابلات التي يجريها الإعلاميون مع الشخصيات العامة نادراً ما تكشف عن الحقائق، كما أن معظم الأشخاص، بمن فيهم أنا شخصياً، لا يمتلكون مهارة الحكم على السياسيين انطلاقاً من الانطباعات الخاصة· وفي هذا السياق كشف علماء النفس أن معظم الناس لا يستطيعون التفرقة بين من يكذب من الأشخاص ومن يقول الصدق· والمشكلة الأكبر، فيما يتعلق بتكوين الآراء السياسية استناداً إلى الملامح المميزة لشخصية السياسي، أنه لا توجد قواعد محددة أو معايير تثبت لنا صحة تلك الانطباعات· فإذا سمعت من أحد المعلقين أن سياسياً ما يمتلك إرادة حديدية، ثم تبين لاحقاً أنه ضعيف وتنقصه الكفاءة، فإنك تكون قد تعرضت للتضليل، ولا سبيل إلى إعادة تصويب الصورة تلك· ويشجع هذا الأمر الصحفيين على الإمعان في صياغة تغطيتهم الإعلامية انطلاقاً من انطباعاتهم الشخصية، وليس اعتماداً على الحقائق الموضوعية·‏

والآن بعدما تدنت شعبية بوش إلى أدنى مستوياتها بدأنا نسمع عن مثالبه التي لم تكن ظاهرة في البداية، أو بالأحرى التي لم يرد لها أن تظهر مثل ما يروج حالياً عن برودته وحدة طبعه، إلى درجة يخشى معها مساعدوه المقربون من إطلاعه على الأنباء السيئة· والسؤال الذي يقفز إلى الأذهان هو هل كانت هذه المرة الأولى التي يكتشف فيها الصحفيون هذه المساوئ في شخصية بوش، أم أنها كانت معروفة من قبل؟ ولكي نكون صرحاء يجب أن نعترف بأن إدارة الرئيس بوش عرفت كيف تستغل جيدا الصحافة، خصوصا هؤلاء الذين يريدون الارتقاء في سلمها المهني· فمن جهة تمت مكافأة الصحفيين الذين يكيلون المديح لبوش وفتح المجال أمامهم للتسلق المهني· ومن جهة أخرى تعرض الصحفيون الذي أثاروا قضايا شائكة حول شخصيته للتضييق والهجوم (وهنا أتكلم من وحي تجربة عشتها شخصياً)· ولم تنقلب كفة الميزان سوى اليوم عندما بدأ بوش يغرق في المشاكل·‏

ما الحل إذن، الاعتماد على صحفيين يملكون مهارات أفضل في إصدار الأحكام وتكوين الانطباعات الخاصة؟ مع الأسف ليس ذلك حلا عملياً، إذ من يستطيع التحقق من أحكامهم؟ ما نحتاجه فعلا هو نوع من الصحافة السياسية تعتمد على الحقائق الموضوعية أكثر من الانطباعات الشخصية·‏

بول كروغمان‏

2006-10-30