ارشيف من : 2005-2008

من اوراق الصحف اللبنانية 21 ت1/ أوكتوبر 2005/ تقرير ديتليف ميليس: مساران قضائي وسياسي

من اوراق الصحف اللبنانية 21 ت1/ أوكتوبر 2005/ تقرير ديتليف ميليس: مساران قضائي وسياسي

صحيفة السفير/ كتب جوزف سماحة‏

تقرير ديتليف ميليس أقرب إلى الأعاصير منه إلى الزلازل. فالأولى، كاترينا أو ريتا مثلاً، تعلن عن نفسها مسبقاً ويمكن رصدها. الثانية، كشمير مثلاً، تفاجئ. التقرير إعصار إذاً سوى أن التكهنات استمرت متفاوتة، حتى اللحظة الأخيرة، حول قوته.‏

عندما يصدر التقرير سنعرف حقيقة ما توصل إليه ميليس ولجنة التحقيق الدولية بعد فترة العمل. لقد جرى توظيف طاقات وخبرات وتقنيات جدية في سبيل ذلك ويبدو أن ما كان توصل إليه التحقيق اللبناني لا يخلو من أهمية. ولكن برغم ما أنجز بدا أن تمديد المهلة مرغوب.‏

تقضي الأمانة القول إن ميليس لم يدّع يوماً قول الحقيقة. لقد أكد أنه سيقول حقيقة ما أنجز منبهاً إلى أن مهمته، في الجوهر، لا ترقى إلى كشف الحقيقة. وقد عاد، قبل أيام، ليكرّر أن التقرير هو البداية لا النهاية. ولكن يبدو أن أحداً، في لبنان، لا يهتم بهذه التأكيدات. فاللبنانيون يتحرّقون شوقاً للاستماع إلى كل حرف ينطق به المحقق الألماني ولكن عندما ينطق فإنهم يفهمون ما يريدون. إن التطلّب قوي، هنا، إلى إقامة معادلة تساوي بين التقرير والحقيقة، وهذا التطلب هو الذي سيحدّد طبيعة العرض ولو أدى ذلك إلى إحداث انفصال، عند تعميم التقرير، بين المسار القضائي والمسار السياسي.‏

المسار القضائي، بالمعايير الدولية، هو ظنون واتهام ودفاع وشهود وأدلة وأدلة معاكسة وتوليد يقين واحترام قرينة البراءة. وهو، أيضاً، محامون وإفادات ومطالعات... باختصار إن من طبيعة المسار القضائي أن يأخذ الوقت وقته وصولاً إلى لحظة ختامية تصدر فيها الأحكام. ويمكن لهذه أن تتطابق مع الحقيقة الواردة في القرار الاتهامي، أو أن تتقاطع معها، أو أن تتعارض. إن للزمن القضائي وتيرته الخاصة، وآليته الخاصة. إنها آلية لا تقيم أي اعتبار للأكثرية والأقلية الشعبيتين والنيابيتين.‏

المسار السياسي له حيز خاص. إنه صراع قوى ومصالح وتوجهات واستراتيجيات. إنه لعبة سلطة وموالاة ومعارضة ومواقع حكم وصياغة أجهزة أمنية وقضائية وتحديد توجهات اقتصادية. إنه، أيضاً، إعلام واتهامات متبادلة ومناورات وتحالفات وتناقضات. إنه مصير رئيس ومصير حكومة واستيلاء على مؤسسات. إنه تنازع بين رجال وطموحات ومشاريع وبرامج وتوجهات. لا يمكن ضبط الزمن السياسي على الزمن القضائي.‏

ما سيعلنه ميليس سيطلق عملية الفصل بين هذين المسارين. ومع أنه بات مرجحاً الذهاب نحو شكل من أشكال تدويل المحكمة فإن القوى السياسية، بمن فيها الداعية إلى هذا التدويل، لن تكون، على الأرجح، معنية بانتظار النتائج. وكذلك فإن الدعوة إلى هذا الانتظار، بحجة احترام القضاء، هي حجة سياسية ووسيلة دفاعية خاصة متى صدرت عن الجهات الموجودة في قفص الاتهام.‏

لا نعرف متى يصدر الحكم في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بناء على المطالعة الاتهامية لميليس، ولكننا نعرف أن اللحظة التالية لتعميم التقرير هي إشارة الانطلاق للمواجهة بين الاستنتاجات السياسية منه.انفصال المسارين القضائي والسياسي لا يلغي أن التقرير سيتحكّم، جزئياً، بما بعده من سياسة. فإذا كانت الشحنة الاتهامية عالية وواضحة (بغض النظر عن مدى صحتها لأنها من اختصاص المحكمة) فإنها ستنتج توازناً يسمح باستقلال سريع للمسار السياسي عن المسار القضائي. والمعيار اللبناني لذلك هو مدى تضمن التقرير أساساً لاستئناف المطالبة برحيل الرئيس إميل لحود. قد لا يرد اسمه في التقرير ولكن يكفي تأكيد الشبهة بمقربين منه وتدعيمها بروايات، وشهادات، والحد الأدنى من الأدلة، ولو من دون حسم، ليتم الإفراج عن زخم سياسي يطالبه بالاستقالة، ويضع "المدافعين عنه" أمام مسؤولياتهم. إن مثل هذه الشحنة العالية، إن وُجدت، ستجعل من طلب انتظار المحاكمة شكلاً من المراوغة. فالصراع في لبنان يستولد حاجة موضوعية إلى حسم الثنائية في السلطة. وإذا كانت هذه الحاجة مشروعة فإنها سياسية بامتياز وتشجع القائلين بها على الاستهزاء من اقتراح غيرهم تأجيل الحسم إلى ما بعد الحكم القضائي.‏

والتقرير، بمجرد صدوره، سيتحوّل إلى ملك عام أي إلى موضوع صراع سياسي. ولقد سبق لميليس أن نبّه إلى أنه غير مسؤول عن أي استخدام سياسي لاحق لتقريره. سيندفع البعض نحو "تسييس" التقرير من دون انتظار المحكمة. ويمكن القول، في هذا المجال، إن أي اتهام للتقرير بأنه "مسيّس" سينظر إليه، بدوره، على أنه فعل... سياسي.‏

إن فصل المسارين القضائي والسياسي ليس اختصاصاً لبنانياً. ثمة دول معنية بلبنان والمنطقة لن تتردد أمام ذلك.‏

فرنسا، مثلاً، قد تحاول حصر النتائج السياسية في المجال اللبناني وفي علاقات لبنان بسوريا إلا أنها لن تستطيع ذلك. فمنذ أن أدار الرئيس جاك شيراك محرّك القرار 1559 أصبح جورج بوش، عملياً، في موقع القيادة. لذا وجب أن تتوجه الأنظار نحو واشنطن.‏

إن تقرير ميليس، أميركياً، حدث يطال لبنان طبعاً. ولكنه يطاله بما يسمح بتعديل موازين القوى من أجل إقامة التواصل بين القرارين 1595 و1559. إلى ذلك فإن التقرير سلاح ماض في يد الولايات المتحدة في سعيها المعلن إلى تشديد الضغوط على دمشق لأسباب عراقية بالدرجة الأولى وفلسطينية. وليس سراً أن الأجندة، سواء في العراق أو في فلسطين، ضاغطة. وهي كذلك بحكم الوضع الداخلي للإدارة الأميركية، واقتراب موعد الانتخابات النصفية، وبحكم التعثر في العراق والإصرار على‏

"النهج إياه"، والحاجة إلى تقديم إنجاز. والروزنامة ضاغطة على الصعيد الفلسطيني الإسرائيلي. أي أن الزمن السياسي أسرع بما لا يقاس من الزمن القضائي وسيكون مضحكاً بالتأكيد لإدارة تفتش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق أن تقف مكتوفة الأيدي في انتظار الحكم القضائي المبرم. لقد أحب ديتليف ميليس أن يشبّه نفسه بهانز بليكس، وهذه سابقة مقلقة نتيجة معرفتنا بما فعلته الإدارة بالموظف الدولي السابق وتقاريره.‏

قد تكون الإدارة شرعت في وضع مسودات لقرارات دولية جديدة ضد سوريا. إنها مشاريع تقوم على إلغاء المسافة بين الظن والإدانة. الظن بداية المسار القضائي، الإدانة بداية المسار السياسي.‏

2006-10-30